أتريد الذهاب إلى مستشفى المجانين ؟
لفت نظري هذا العنوان في إحدى المواقع الإخبارية العربية فتخييلت فيما لو كان الأمر دعوة عامة لرحلة في ربوع المصحة العقلية. و لم لا و نحن نعيش في أيام ٍ تؤخذ الحكمة فيها من أفواه المجانين و يتصرف أصحابه فيه و كأنهم ولدوا مجانين . فتراك تسمع عن زواج يكلف ملايين الدولارات في حين أن فقراء العرب يجوبون شوارع المدن أو حتى يجلسون وراء مكاتب الوظيفة. و تراك تسمع شخصا ً يدخل مكتبة مليئة بالكتب الطبية و الاجتماعية و الاقتصادية ليسأل بشغف عن كتاب بعنوان (من قتل سوزان تميم) .و أتذكر هنا أمثال إخواننا المصريين التي تمجد المجانين و أشهرها (مجنون يحكي و عاقل يسمع) و اراها تعكس تماما ً حال أمتنا العربية . فالمنابر و المجالس و القنوات مفتوحة لكافة أنواع المجانين على اختلاف مواقعهم في حين يتقوقع العقلاء على أنفسهم و كأنهم اختاروا أماكن نفيهم باختيارهم و البعد الزمني الذي يناسبهم في زمن المقاييس الغريبة.
و لعل هذا هو ما دفع الكاتب المسرحي السوري ممدوح عدوان إلى كتابة كتاب بعنوان (دفاعا ً عن الجنون) و أفهم اليوم وجهة نظره فالدفاع عن الجنون اليوم هو الدفاع عن القيم الأصيلة و النبيلة و الدفاع عن الحضارة في زمن اللاحداثة و هو الدفاع عن العقلاء في زمن جنون المال و تقلب الاحوال.
و قد خلّد التاريخ العربي الجنون حتى أن شاعرا ً كقيس بن الملوّح يعرف بين كثير من الأوساط الشعبية بمجنون ليلى و ليس باسمه (قيس). و لكن يبدو أننا كأمة كنا بارعين حتى في مجانيننا أما اليوم فلا أدري كيف تسير الأمور و قد أصبح (الجنون فنون) كما يقولون.
و يبدو أن العيش مع المجانين قد يكون في كثير من الأحيان أريح و أفضل بكثير من العيش مع عقلاء هذا الزمن و هذا ما يفسر طول عمر أحد الهنود الذي وصل إلى قرابة الثمانين عقدا ً و هو عاقل تماما ً لكنه يعيش في مصحة عقلية. و لكن ما هو السر الذي دفع هذا الرجل لزيارة المصحة العقلية و الإقامة فيها طيلة هذه السنوات الطويلة ، أتراه أعجب بفكرة فيلم إسماعيل ياسين (المجانين في نعيم ) و أراد أن يعرف سر هذا النعيم . لقد أُخرج هذا الرجل الهندي مرغما ً عنه من ذلك المكان و فُرّق بينه و بين أصدقاء عمره من المجانين ليجابه عالم العقلاء فهل سوف يعيش نفس هذا العدد من السنوات خارج المصحة...!
أتذكر هنا تلك النكتة التي تتحدث عن شخص ذهب يوما ً لزيارة مستشفى المجانين و لعلّه أراد تلبية الدعوى بالزيارة. على كل حال فإن هذا الشخص ذهل لدى دخوله المشفى من هول المنظر الذي رآه فذاك يقفز فوق السرير و آخر يهتز بهستيرية فظيعة و ثان يقلد صوت فرقعة عالية . لكنه لفت انتباهه شخص جالس في إحدى زوايا الغرفة دونما حراك أو انفعال. فقال في نفسه (لعل هذا شخص عاقل ظلمه الدهر و أهله فأودعوه المصحة العقلية ليتخلصوا منه أو يأخذوا ماله أو لإرضاء زوجة أو لأسباب الحياة التي نسمع قصصها هنا و هناك) توجه إليه مسلّما ً عليه فرد الجالس التحية بأحسن منها و قال (انظر إلى هؤلاء المجانين يقفزون ظنا ً منهم أنهم حبات فوشار أو شامية تفرقع في وسط القدر الساخن ) فاستغرب الشخص الزائر و قال له (و ما يقعدك أنت هنا لم لا تخرج من هذه الغرفة) فأجابه المجنون (هل أنت مجنون و كيف أتحرك و أنا عالق وسط القدر) .
إن ّ هذا هو حال الكثيرين من أصحاب العقول في عالمنا العربي ، عالقون في وسط القدر لا هم يخرجون من هذه الدوامة و لا هم يدركون حقيقة ما أصابهم. و لعله من المفيد أن نتذكر بين الحين و الآخر مستشفى المجانين علّنا نسترجع عقولنا.
Sadekalrikaby@gmail.com