Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أنا وحماتي

إنهم يدعونني (نونو) ، وبالتأكيد إنه ليس حقيقة أسمي..بل هو كنيتي وعلى لسان حماتي!
-عمتِ مساءا" يا نونو.. اذهبي يا نونو..أقتربي يا نونو ..لا يا نونو..
هذا هو أسلوب حماتي ، وسأقصّ عليكم حكايتي معها..
روى لي زوجي عن شخصية والدته ، أيام كنا نخوض تدريبات الحب قبل الخطبة. قال لي إنها مديرة لإحدى ثانويات البنات المهمة في بغداد . وهي ذات جوهر طيب للغاية وتتمع بمرح فائق يفيض بروح المداعبة وخفة الدم ، وأكد لي بأنني سوف لن أنفر من معاشرة وجودها أبدا"..
وكم كنت أخشى الحَموات ، وأتخيلهن وهن ينسجن المؤامرات ، ثم يزعمن البراءة وقلـّة الحيلة ، ثم تأتي الدموع ويتصاعد نحيب الشكوى من عقوق الأبناء لو ألتزموا جانب زوجاتهن . كنت أتصورهن بلا عمل يشغلهن سوى قذف الأوامر وتوبيخ الزوجات على هفواتهن . وكل تلك الظنون تسيدت مخيلتي بسبب ما توارد الى مسمعي عن صيتهن في عدائهن الأزلي للزوجات . فعزمت على التعاطي مع من سأعيش معها بتيقظ تام ، رغم الصورة الجميلة التي رسمها لي حبيبي عن أمه ..
وقع بصري عليها لأول وهلة يوم حضرت لخطبتي..وفوجئت بكتل لحم كبيرة متراصة تتنافس مع بعضها وتتصارع لتلتحم وتكوّن جسدها ، الذي كان يشغل مقعداً من الحجم الكبير ، في الصالة التي تزدحم بالواقفين من المدعوين.!
وجرى ما كنت أخشاه..اذ ما أن شاهدتني هبّت لتنادي:
(( يااااه ...كم أنتِ جميلة يانونو!!..))
ثم توالت الضحكات و القهقهات هنا وهناك ..
_ ( نونو!.. ياللهول..أنا نونو!)...قلت أحدث نفسي حانقة مغتاظة..
وعلى الفور مزقت كلماتها مسامي ، لتتبخر منها حمم غلياني. فتلبدت سمائي بغيوم الغضب ، وتهاوت قطرات العرق لتهمر الوجه والجسد..قذفت ما في يدي من كوؤس عصير الضيافة نحو أدنى يد تناولتها مني ، وقصدت حجرتي غاضبة ، جريحة بكبريائي ممن وصفتني بالنونو..الصغيرة ، وأمام جيش من الموجودين..
لكن سرعان ما هدأت ثورتي بعد أن شرحت لي أمي صدري ، وأقنعتني بأنها دعابة من حماتي قصدت من وراءها التودد لي ولم تكن غايتها الإقلال من شأني..
تزوجت وتوجهت للسكنى معها..وتأكد لي سداد خطواتها في مسيرة حياتها من متابعتي حبها لعملها ومراعاتها له ، وقد خسرته آسفة بعد ذلك بسبب الزيادة المفرطة في الوزن التي حدّت من خطاها للغاية.. فتقاعدت عن الوظيفة .
لكنها أبداً لم تكن تشعر بأن السمنة تشكل لها معضلة..!! ذلك لأنها ، ببساطة..تنتابها سلوكية طفل طوال الوقت نحو الحلوى بكل أنواعها... وتعشق التهام ال(شوكولا)!!
لن تتخيلوا أبداً درجة إدمانها لتلك الاطعمة الحافلة بالدهون والسكر!..فقد كانت الحلويات تشكل لها وجبات أساسية أحياناً كثيرة ...لكن الغريب في الأمر إنها لم تكترث أبداً للعواقب المترتبة في التمادي بتناول الدسم من الغذاء رغم ثقافتها العالية..لذلك كانت مراقبة حميتها مشكلتي أنا .. فالقلق على قلبها بات يؤرقني..
ولأنها قد أكرمتني للغايه..صرت أحبها بلاحدود..وأخشى تقهقرعافيتها ، وكأنها والدتي .
لذلك سرعان ما تحولت صورة الحَموات على صفحات ذاتي..ورحت أهرع اليها وأرتمي في أحضانها الدافئة لتصد عني مصائبي..فكم على كتفيها إنهالت دموعي ، وكم لجأت اليها حتى في ساعة غضبي من زوجي.
كانت خريطة القلب مقلقه وأرقام(الكوليسترول) في تقاريرها المخبرية عالية ، فقرع لنا أطباءها جرس الإنذار..
فصممت وبمشاركة زوجي بأن نقيد شهيتها بأصفاد الرصد الدقيق وحظر تناولها لما يُجهد قلبها المسكين, الذي بات مرهقاً في عمله الليل مع النهار مع هذا الجسد الجبار . ورحت أُخفي قطع الشوكولا وعلب المربى وكل انواع الحلوى حتى عن عيون ولدي الصغير..
لكنها.. وكما أبلغتكم.. تبدو كطفل متلهف يبحث تحت ثنايا الأرض سعياً وراء ضالته المنشودة !.
اكتشفت يوماً ، وبالصدفة ، إنها تمتلك كشكاً للحلوى وأتباعها في خزانة ملابسها ..بعد ان عثرت على قطعة من السكاكر بين أصابع طفلي . كان قد ابتاعها من جدتهِ ، بعد أن دفع لها الثمن.. قبلة حارة طبعتها على خدهِ !!
خاطبها زوجي بأسلوب غاضب..وراح ينذرها ويحذرها ويصف لها شبح الموت..وصور لها كيف تغلق الأملاح مجرى المياه في الماسورة تدريجياً..وعلى غرارها ستقفل الشحوم مسالك الدم نحو القلب ليغفو بعدها غفوته الأبدية..
لكنها كعادتها ، تبتسم..وتداعب..وتتغامز..وتقسم يمين الوعد..وحينما يهدأ ويرحل ، تلتقط من جيب ثوبها ما تلتهمه بسرعة دون أن ينتبه اليها أيّ منا..!!
كل الأصدقاء والأقارب يغرمون بروحها الجذلة..وكانوا في زياراتنا اليهم يحاولون إخفاء بعض الأطعمة عنها , لكنها تنتهز فرصتها كضيفة لتتخطى من خلالها شرائع الحصار المفروضة عليها..فتداعبهم قائلة:
(أين نصيبي أيها البخلاء)!
فتأكل ما ترغب وسط ضحكات الجميع.
توالت الأحداث على بغداد..حرب بعد حرب..رعب بعد آخر..وهاجر أهلنا وأقرب الناس إلينا..والخطر يحدق بنا من كل صوب وحدب..وحماتي تسخر وتهزأ وتضحك بفرح يمدنا بالقوة والصبر..
الناس راحت تجمع من الغذاء تمويناً لها في الأزمات ..رز ..سكر وخبز و..و..ولكن حماتي تدّخر تمويناً خاصاً بها من الحلوى.. وبكل أنواعها المجففة والمعلبة والدسمة ..
ثم ألمّت بنا ضائقة رهيبة تهدد أمننا..نصحتنا هي بعدها بضرورة الإلتحاق بركب النازحين نحو الحدود..فصحتُ قبل أن ينطق زوجي:
(لن أتخلى عنكِ أبدا" يا أمي.. ولن أترككِ وحيدة) ..
ثم...ثم...ثم..
إنني أقف الآن أمام ضريح حماتي ، وبيدي شمعة ، أوقدها لها منذ عامين..(بعد أن توقف قلبها في ليلة ربيعية باسمة) . وسأستمر في زيارتها ما حييت . يقف الى جانبي زوجي وولدي الذي وضع للتوعلى قبر جدته قطعة شوكولا..لأنها تحبها كثيراً..فستأكلها وستبتسم لنا ..
ولايزال الناس يدعونني(نونو)..
وأبتسم.







Opinions