أيُّ الضربِ يؤلمكِ...؟
رحم الله مطرب العراق ناظم الغزالي وهو يسأل حبيبته من قوم عيسى أيها أكثر إيلاماً: ضرب النواقيس أم ضرب النوى....؟ طالباً منها أن تقيس.هذه صورة من عراق الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. وهي ليست صورة مثالية على أية حال. ولكن كان في مقدور المسلم أن يغني لمسيحيةٍ, ويتزوج من يهوديةٍ, ويعيش في وسط إسلامي حياة طبيعية. وكان الناس يطربون لتلك الأغاني, أياً كانت ديانتهم. ويظل الوئام سيد الموقف, حتى وإن كانت الصورة غير قابلة للعكس, لا حينها ولا في يومنا هذا.
ولو قـُـدِّرَ لناظم الغزالي أن ينهض من قبره ليشهد ما يحدث اليوم لمسيحيي العراق ونواقيسهم التي لم تدعُ قط إلا للمحبة والسلام بين الشعوب والأمم, سيموت مرة أخرى ندماً لأنه لفظ يوماً كلمة (ضرب) ولو في أغنية... حتى وإن كان لا يقصد بها إلا آلام العشق ومعاناة العاشق. متغنياً بأجراس الكنائس التي يهفو قلب حبيبته لرنينها.
وسيموت مرة ثانية وثالثة, حين يدرك أن الغناء بات رجساً من عمل الشيطان في أعين القوى الظلامية التي أشاعت الرعب والخوف في كل أرض العراق. وعشقت القتل والذبح ومشاهد الدم والأشلاء المتناثرة, معتبرة ذلك سبيلاً مأموناً إلى الجنة. ومارست التفجير في دور العبادة. وجعلت من الكنائس كما الجوامع والمزارات الدينية الأخرى, هدفها المفضل. لتزرع بين الفينة والأخرى قنابل الحقد والكره والهمجية, لإسكات تلك النواقيس الداعية دائماً للمحبة والسلام والمودة بين البشر جميعاً.
ليس خافياً على أحد الهدف الذي تنشده قوى الشر تلك من وراء التنظيم المتزامن والمتواتر للهجمات الإرهابية على كنائس العراق ومسيحييه, الذين لم يحبوا إلا العراق, ولم يعرفوا وطناً سواه. ولم يدعوا ويعملوا إلا له ولتطوره وتقدمه. ولم يسعوا إلا إلى سيادته واستقلاله. وما يميزهم عن العراقيين الآخرين أنهم الفئة الوحيدة التي لم تحمل سلاحاً في وجه أية فئة عراقية أخرى. ولم ينتظموا في عصابات مسلحة للقتل والسلب والنهب. ولم يطمعوا في سلطة وامتيازات أو حصص على حساب أيٍ كان, في عراق كثر الناهشون في جسده الجريح. ولم يتعاملوا مع أية قوة داخلية أو خارجية ضد العراق وشعبه. ولم يكونوا أداة تحركها قوى إقليمية أو دولية لمصالح وأهداف لا تمت إلى مصالح وأهداف العراق والعراقيين بصلة.
خطفوا وقتلوا ونهبوا وفجرت كنائسهم وطولبوا بدفع الجزية وكل ذنبهم أنهم مسيحيون وقفوا وما زالوا مع العراق الواحد الموحد السيد الحر المستقل. عراق السلام والمحبة والعدل والمساواة والديمقراطية لكل أبنائه. وهم يفخرون بموقفهم هذا, وسيظلون متمسكين به رغم كل صنوف التهديد والإرهاب والقتل من قبل كارهي هذه القيم, العاملين بالسيارات المفخخة وبالانتحاريين من (جهادييهم) القادمين من أصقاع الأرض, على إرهاب وقتل وتهجير كل من يؤمن بتلك القيم ويعمل على تجسيدها. مفرغين شحنات الحقد الأعمى التي جرى شحنهم بها في مدارس التعصب الديني, ومواعظ شيوخ الجهل. الذين انفلت عقالهم في أرض العراق, بإيحاءاتٍ وتمويلاتٍ خارجيةٍ. فراحوا يدمرون ويقتلون كل ما ومَن تطاله أيديهم, لزرع الفوضى والاضطراب في كل مكان. فاقدين القدرة على التمييز. ومنفلتين من كل قيد ديني أو أخلاقي, في ظل غياب أو تغييبٍ للشعور الوطني. وتشويش لمفهوم المواطنة, حيث بات العراق يعيش خارج الزمن. فلا هو في العصور الوسطى, حين كان المسيحيون يدفعون الجزية وهم صاغرون, وعندها كان لهم على الأقل الحق بالحماية التي افتقدوها اليوم. ولا هو في العصر الحديث, حيث مفهوم المواطنة وحقوق المواطن تأتي في المقام الأول, وفيها يتساوى المسلم بالمسيحي بالحقوق والواجبات.
وإذا كنا لا نترحم على زمن صدام حسين رغم كل مانشهده, فلأننا ما زلنا نثق بالإنسان وروح الإنسان وبالمستقبل. وإذا كان من حسنة تذكر لصدام حسين فإنها مساواته في ظلمه وقهره لكل العراقيين على السواء, دون أي تمييز في الديانة أو الانتماء القومي أو المذهبي. وبالمقارنة مع واقع اليوم فإن هذه الحسنة (إذا جاز لنا أن نسميها حسنة) قد زالت, وحلَّ في كل حي وناصية شارع صدام صغير يجسد تشوهه النفسي والتربوي والعقائدي من خلال ممارسة العنف والتدمير والإرهاب ضد كل من لا تعجبه طريقة حياته, أو يخالفه في أمرٍ من أمور هذه الحياة. وهكذا بات المسيحيون وكنائسهم في العراق دريئة يصوِّب عليها أولئك المتخمون بكل ما هو غير إنساني, ليفرغوا فيها عقدهم النفسية وأمراضهم الاجتماعية التي توارثوها تاريخياً من مصادر قروسطية مشبعة بالتخلف والهمجية وروح العداء للآخر. ويصوروا تشوهاتهم الروحية تلك على أنها (جهاد في سبيل الله). متعامين عن الأصابع التي تمولهم وتحركهم. والتي لم تكن يوماً أقرب إلى الله منهم. هذا الإله الذي هو رحمة ومحبة لكل عباده. والذي يتعبد له الناس أجمعون, من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس, أياً كانت ديانتهم. أما أولئك فيبدو أن لهم إلههم الخاص. ذلك الإله الذي يعشق ليس فقط ضرب النواقيس بمعناه الحرفي, وتفجير الكنائس ودور العبادة الأخرى, وإنما أيضاً ضرب أفئدة المؤمنين أيضاً وإصابته فيها مقتلاً.
فشتان مابين الضرب الذي عناه ناظم الغزالي وأطرب الملايين به, وبين ضرب آلهة الظلمة التي دمرت وقتلت وأرهبت الملايين. لكن الأمل يظل معقوداً بأولئك الذين مازالوا يطربون لأنغام المحبة والوحدة والوئام بين أبناء العراق. عراق المستقبل الواعد بمسيحييه أيضاً إلى جانب إخوتهم الآخرين ممن أحبوا العراق كوطن للجميع.