إســلام واحــد أم مـتـعـدد؟!
التوّحد الحضاري والتشظيات السياسية عبر التاريخالإسلام دين سماوي لم يزل واحدا بركائزه وفروضه وعقيدته، ولكنه متعدد الألوان والهويات والتباينات بين البيئات والأزمان. إن من له قدرة على قراءة تاريخ الإسلام بشقيه الحضاري والسياسي، سيكتشف أن ما حدث من انقسامات كبيرة في الإسلام، يعد ظاهرة لا يمكن لأي إنسان واعٍ تجاهلها.. والانقسام أمر طبيعي في هذا الوجود، ونجده في كل الديانات وظواهر التاريخ الكبرى، لكنه لم يأخذ له أي طابع سياسي.. إن من يضيف إلى قراءته التاريخية المعمقة وتأملاته، تعايشاته بنفسه جغرافيا في المجتمعات الإسلامية اليوم قاطبة، فسيجد أن لكل مجتمع مسلم تفسيراته للإسلام، بل سنجد أن مواريث كل مجتمع تتباين عن تقاليد مجتمع مسلم آخر! إن الاختلافات السياسية هي أقسى ما أضر بالإسلام على امتداد تاريخه كله والتي اتخذت لها مذاهب وطرقا وطرائق وأساليب ومللا وفرقا وفروعا وطوائف.. إلخ، وإذا كانت المسيحية قد انقسمت هي الأخرى على امتداد ألفى سنة، فإن انقساماتها كانت عقدية دينية، في حين أن انقسامات المسلمين كانت سياسية منذ منطلق الإسلام وحتى يومنا هذا، وعليه فإن كل ما نجده اليوم من مذاهب وطوائف إسلامية هي بقايا تاريخية لما حصل في الماضي السياسي عند المسلمين، وإذا كانت هذه كلها تركة الماضي الصعب نحو الحاضر اليوم، فإن حاضرنا هذا نفسه وعلى امتداد خمسين سنة مضت جرت خلاله ولادة لانقسامات دينية سياسية منها ما تفاقم أمره عن مذاهب قديمة، ومنها ما ولد مستحدثا اليوم فى أزمة الصراع السياسي ضد العصر. لقد اثبتت التجارب المعاصرة لحكم الاحزاب والطوائف الدينية في العديد من بلدان العالم الاسلامي ، انها لا تكتفي بانقساماتها الدينية المتوارثة ، بل إنها تنشر مدعياتها وأساليبها في المجتمع فتعمل على زيادة انقساماته وتشظياته وتوصله إلى الحروب الأهلية .
هل من علم اسمه: الإسلام المقارن؟
علينا أن نعترف بكل جرأة وشجاعة بأن إخفاء أمر هذه الانقسامات سيضر بمجتمعاتنا ويبقيها متعامية عن حقائق موجودة على الأرض.. علينا أن نعترف بأن المسلمين في عموم الدنيا اليوم لا يعرفون حقيقة المذاهب والفرق الإسلامية التي ولدت في ظروف سياسية صعبة، ثم تشكلت اجتماعيا مع توالى السنين.. علينا أن نسأل: لماذا تنامت الانقسامات الدينية اليوم لأسباب سياسية وبأشكال مختلفة عما كان مألوفا على مدى ألف سنة مضت؟! لماذا ننكر اليوم وجود «إسلامات» متعددة في مجتمعاتنا المسلمة؟ وهل يمكن دراستها علميا ونقديا وتربويا ضمن علم الإسلام المقارن بعيدا عن المدارس الدينية ورجال الدين؟! هل من المعقول أن تبقى مجتمعاتنا لا تدرك مصادر التحديات الداخلية التي تواجهها، كونها قد ألغت من ذاكرتها جملة هائلة من الحقائق، وإن وصلت إلى نقاط حرجة سياسيا وإعلاميا وفكريا، فهي تضيع، ولا تعرف ماذا تجيب؟
الانقسام المفصلى بين السنة والشيعة
إذا كانت مجتمعات المسلمين قد عرفت المذاهب الإسلامية السنية: المالكية والحنفية والشافعية والحنبلية وغيرها، وميزت كل واحدة نفسها اجتماعيا فى بيئات ودول، فإن الأمر ينسحب أيضا على المذاهب الإسلامية الشيعية: الإسماعيلية والزيدية والجعفرية الاثنى عشرية والعلوية.. وغيرها، إذ تميزت هي الأخرى اجتماعيا كل فرع بتقاليده وتفاسيره في بيئات ودول ومجتمعات ، وإذا كان الحنفية هم الأكثر عند السنة، فإن الجعفرية الاثنى عشرية هم الأكثرية بين الشيعة.. وإذا كانت المذاهب السنية قد اختفت مضامينها في المجتمعات السنية ، إذ لم تعلم الأجيال الجديدة من السّنة إلى أي مذهب يدين كل واحد منها ، فإن المذاهب الشيعية لم تزل باقية حتى يومنا هذا، بفرز واضح فيما بين مرجعياتها.. ولكننا نجد سياسيا ان كل طرف من السنة والشيعة قد تأدلج سياسيا في أحزاب وجماعات .. وكّل يريد من خلال مؤدلجاته ان يثبت هو الأحق بالحكم ! وإذا كان الإسلام السنّي قد عاش طرائق صوفية على امتداد ألف سنة، ثم تحدتها حركات مضادة للتصوف، وهى سياسية باسم السلف والإصلاح، فإن الإسلام الشيعي قد صادفته أيضا تطورات سياسية أثرت على حياته التاريخية. إن القرون الخمسة الأخيرة التي عاشها المسلمون في عموم الدنيا.. هي بمثابة تاريخ انقسامي مرير للإسلام نفسه، ليس في راهنه، بل حتى في العودة إلى إحياء الانقسامات القديمة. أما في عصرنا الراهن ، فان أي حكم ديني إسلامي ، سيؤجج الالتهابات بوحدة النسيج الاجتماعي المتنوع ، وكل طرف سيبحث له عن مبررات ليس عن وجوده ، بل في قيادته للسلطة بأي وجه من الوجوه !
هل من قراءة للفروقات بين الفرق الدينية وبقاياها؟
هل لأي مسلم يمتلك وعيا وعقلا اليوم أن يسأل: من هم الإباضيون؟ الدروز؟ العلويون أو النصيرية؟ المتاولة؟ اليزيديون؟ العلى آلهية؟ الكاكائيون؟ البهائيون والبابيون؟ البهرة داودية؟ الطيبيون؟ النزاريون والسبعيون والسليمانيون؟ أين هم الفاطميون اليوم؟ أين القرامطة؟ من هم الكاسانيون؟ القاديانيون؟ الأحمديون .. وغيرهم؟ ما سر بقاء أو اختفاء فروع وفرق ومذاهب؟ ولو فتحنا باب الطرائق الصوفية التي انتشرت في المجتمعات الإسلامية منذ ألف سنة ، والتي اقتصرنا على تسمياتها فقط فإن المقال لا يتسع أبدا لمجرد ذكر أسمائها.
إن من يدقق طويلا في مختلف العقائد التي تتضمنها مثل هذه الفرق والمذاهب، سيكتشف أن اختلافات واسعة تفصلها عن جوهر الإسلام الحضاري الذي نعرفه! ولكنها تشترك في الصراع التاريخي على السلطة وكيفية الوصول الى الحكم .. أو كيفية العزلة عن الآخرين . صحيح أنهم يقرأون كتاب الله بنصه الواحد، ولكن أقرأ تفاصيل تفسيراتهم للنصوص والتاريخ، فسوف تجد أن ثمة جدران فاصلة بين إسلام وآخر! من غير الصحيح أن نعيد ونكرر جميعا بأن لا تباينات أو اختلافات بين المذاهب والفرق والطوائف الإسلامية ، كما يذيع ذلك رجال الدين والأحزاب الدينية على شاشات التلفزيون ، ومجتمعاتنا لا تعرف بعضها بعضا، إذ وصلت درجات الاختلاف إلى طبيعة عقيدة كل طرف من الأطراف، وهذا من اخطر .الكوارث التي تحيق بمجتمعاتنا !
التشظيات المعاصرة
إننا اليوم أمام تشظيات أخرى ومن نوع آخر.. إنها انقسامات سياسية داخل البنية الإسلامية نفسها، بولادة أحزاب دينية يمثل كل واحد منها اتجاهه الخاص به، بل وتفسيره ورؤيته لما يسمونه ببناء الدولة الإسلامية، فكل طرف يسعى بتوجه سياسي معين وهو مغلف بضمانة دينية كي يتمكن من فرض قداسته على الآخرين! فمثلا لم يبق الشيعة الأثنى عشرية على مدرستي النجف وقم في ريادة الاجتهاد، بل اختلفتا سياسيا منذ ولد مشروع ولاية الفقيه في إيران على يد الإمام آية الله الخمينى ليأخذ له طريقا خاصا به في الإسلام! وإذا كان المسلمون السنة قد وجدوا لهم مذاهب أيضا منذ القرن التاسع عشر كالمذهب الذي أظهره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد بالجزيرة العربية ، فلقد أعقبه مذهب السنوسيين الاجتماعي في المغرب العربي «الذي لم يبق له من أثر إلا النادر» ومذهب المهديين السياسي في السودان الشرقي .. ولكن انبثق الإسلام السياسي من خلال جماعة الإخوان المسلمين في مصر وحزب التحرير الإسلامي في الأردن ، واشتهرا بتصلبهما السياسي.. ثم بدأت تتوالد الأحزاب والجماعات الإسلامية في كل بيئة من بيئات العالم الإسلامي بأزياء مختلفة وطرائق متباينة يصل بعضها في تشددّه إلى حد نفي الحياة المعاصرة ويضمحل بعضها الآخر إلى حد التوفيقية مع الحياة المعاصرة.. وينتهي بعضها الآخر إلى انفتاح وانفلات لا تبيحه النصوص الشرعية! إنني أجزم أن ثلاثة أسلامات أساسية تتوزع اليوم في منطقتنا كلها : الإسلام الإيراني ، والإسلام التركي ، والإسلام العربي، فإذا كان الإيراني والتركي يختلفان اختلافا جذريا بينهما من حيث الجذور والرؤية والتفكير، فإن الإسلام العربي أجده متشظيا على أصعب حالة من التشظي ـ ولهذا الموضوع معالجة مستقلة قادمة ـ .
دعوة للمكاشفة بديلا عن التعتيم
إن أغلب الجماعات الإسلامية «الفرق كما كانت تسمى ماضيا، والأحزاب كما تسمى اليوم» هي متشددة سياسيا، وتستخدم الدين رادعا ضد الجميع.. إنها باستثناء الطرق الصوفية التي استلهمت فلسفاتها من الزهد، ثم اعتمدت العزلة بديلا عن الدنيا، وصولا إلى جعل بعض حركتها في خدمة المجتمع لم تعمل في السياسة أبدا.. وأن الحركات الأخرى اعتمدت الدين مرتكزا سياسيا لها من أجل الوصول إلى السلطة. إن كل هذه الأطراف جميعا تدعى بأنها تمثل «الإسلام الحقيقي» وأن غيرها مصنف في أدبياتها وبياناتها كونه منحرفا وضالا عن الطريق السوي.. بل ويصل البعض لتكفير البعض الآخر ووصمه بالمروق عن الدين!
منتجات الزمن المبهم
لقد عاشت مجتمعات المسلمين أزمانا طويلة وهى تستلهم من فقه رواد المذاهب الإسلامية الأوائل جملة أساليب في تفسير النص، أو التفقه بإيجاد حلول لمشاكل شخصية واجتماعية.. لقد انتشر المذهب الشافعي في أصقاع قارة آسيا كونه مذهبا مسالما.. وهكذا بالنسبة للمذهب الحنفي الذي امتد في آفاق جغرافية واسعة.. ولكن أن تقوم أحزاب ومنظمات وجماعات ومنظمات .. بتطبيق الإسلام على أسس دموية وإرهابية وتنفيذ مآرب سياسية لا أول لها ولا آخر، فهذا سيصطدم ليس بالعالم كله، بل ينخر في مجتمعاتنا وتأجيج الصراعات الدموية فيها، كما يجرى اليوم! إن ما نشهده اليوم من احتدامات داخلية داخل العالم الإسلامي، وولادة جماعات إرهابية تؤمن بمشروعات القتل الجماعي، مهما كانت صناعتها، فهي محسوبة على الإسلام! وأن ما نشهده اليوم من حروب باردة إعلامية بين سنة وشيعة مثلا، وكل طرف يريد تسويق بضاعته الانقسامية القديمة على حساب زمننا ونهضتنا وتكويننا الحضاري في هذا العالم الصعب، يعتبر ارتدادا مفجعا نحو العصور الوسطى.
استنتاجات فكرية
هنا دعوني أخاطب كل الناس الذين تتملكهم عواطفهم، ويخافون التفكير في مثل هذه الموضوعات، وكأن ما جرى على امتداد تاريخنا، كان مقدسا.. أن يعيدوا التفكير فيما آلت إليه أوضاعنا على أيدي من اتخذ الدين سلما سياسيا نحو السلطة، وأقول لهؤلاء، أنه ليس باستطاعتكم أن تبنوا دولة دينية في عصر المدنيات.. إنكم ستبقون منعزلين عن الدنيا وما فيها.. وستضطر مجتمعاتنا للأخذ بالمبادئ المدنية آجلا أم عاجلا.. إن كل ما تتسلحون به يتعارض مع المبادئ الحديثة! إن تجارب حكومات وأحزاب دينية قد ثبت فشلها اليوم في أكثر من مكان وانهارت مؤسسات الدولة، وحلت التمزقات في نسيج المجتمعات.
للحديث بقية لاحقا
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية العدد 4257 السبت الموافق - 9 يناير 2010
، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com