الاستشهاد المسيحي في ما بين النهرين !
بدأ انحسار المد العثماني منذ إخفاقه في حصار فيينا عام 1683. منذ ذلك التاريخ بدأت الامبراطورية العثمانية تخسر سيطرتها على البلقان تدريجياً، وبدأ التدخل الأوروبي في شؤون "الرجل المريض"، أي الامبراطورية العثمانية، يتدرج صعوداً في قوته وثقله. لقد فرض الأوروبيون عليها امتيازات حماية الطوائف المسيحية في قسمها الشرقي. أدت هذه السياسة الى ردة فعل عثمانية تجلت في انتقالها من سياسة التمييز والضغط ضد المسيحيين الى اختلاق وتدبير المجازر ضدهم بأيدي صنائعها آغوات العشائر الكردية مستهدفة إفراغ مناطقهم من سكانها لصالح الاكراد من جهة، وضرب الجماعات الاثنية والدينية بعضها ببعض وفقاً لسياسة فرق تسد من جهة أخرى. كان الاكراد، وهم مسلمون سنة كالعثمانيين، قد تحولوا منذ القرن السادس عشر إلى إمارات وعشائر مجندة لصالح العثمانيين السنة في صراعهم مع ايران الصفوية الشيعية. وقد تابع الاغوات الاكراد دورهم كصنائع للعثمانيين خلال القرون التالية. سنقتصر في هذا المقال على دورهم التنفيذي في مجازر العثمانيين ضد المسيحيين خلال القرنين الأخيرين.في عام 1812 وبين عامي 1843 و 1845 قام الأمير الكردي بدرخان بابادة أكثر من عشرة ألاف من الآشوريين من الكنيسة الشرقية. وفي 1828 هاجر منهم ألاف الى ارمينيا حيث شكلوا جالية صغيرة ما زالت قامة حتى اليوم محافظة على هويتها الآشورية[1]. لقد عاصر وعاين هذه المجازر الاركيولوجي الشهير هنري لايارد خلال فترة قيامه بالتنقيب عن الآثار الآشورية في شمال الموصل، وقد وصفها في كتابه (البحث عن نينوى). وأورد (ه . ت . لوقا) في كتابه "الموصل وأقلياتها" اقتباسا من رسالة مار شمعون، بطريرك الآشوريين الى قيصر روسيا بتاريخ 27 أيار 1868 هذا نصه: " ... لقد استولى الاكراد عنوة على ممتلكات أديرتنا وكنائسنا ، وكذلك فإن الاكراد يريدون منا دفع الجزية[2]." ويعلق هنري لايارد على حكم العثمانيين بنفي بدرخان قائلا: "كان هذا العقاب الوحيد الذي فرض على منفذ عدد لا يحصى من الجرائم، في هذه البقعة من الشرق، تشمئز لها النفس البشرية وتكاد همجيتها ى توصف[3]؟"
أما السلطان عبد الحميد (1876 – 1909) فقد لقب وقتها بالسلطان الدموي، وإن يكن من خلفه فاقه دموية بمئات الأضعاف. لقد شكل عبد الحميد من الاكراد ما دعاه بـ "الفرق الحميدية" بهدف إنهاء الوجود الارمني في الامبراطورية، وبشكل عملي توجهت ضد المسيحيين عامة. قامت هذه الفرق الحميدية بمذابح قتل المسيحيين بين أعوام 1894 و 897 .؟ في عام 1895 قتل من المسيحيين خمسة ألاف في ماردين والرها، وفي 1909 قتل ثمانمائة في أضنة[4].
وخلال الحرب العالمية الأولى قامت حكومة تركيا الفتاة بتحويل الفرق الحميدية الى (فرق الخيالة الخفيفة)، وأوكلت إليها مهمة القتل والتهجير الجماعيين للمسيحيين من أرمن وسريان فأسفرت خلال عام 1915 عن مقتل مليون أرمني ونصف مليون من السريان والآشوريين والكلدان وسائر الطوائف. لقد قتل من السريان الارثوذكس وحدهم 90313 فرداً من شيوخ ونساء وأطفال بينهم مئات من رجال الدين، وفق وثيقة محفوظة في الخارجية البريطانية[5]. وقد فاخر طلعت باشا، وزير الداخلية التركية آنذاك، السلطان عبد الحميد قائلاً: "إني (أي طلعت باشا) استطعت أن أنجز في ثلاثة أشهر ما عجز ان ينجزه عبد الحميد في ثلاثين سنة" قاصداً بذلك مذبحته للمسيحيين والارمن عام 1915، وقد روى ذلك السفير الامريكي في تركيا وقتذاك في كتابه "موت أمة"[6].
وفي صيف 1933 كانت مذبحة بلدة سيميلي الآشورية في شمال العراق التي نفذها الجيش العراقي وكان أحد أكبر قيادييه وقتها بكر صدقي الكردي. ذهب ضحية مذبحة سيميلي ثلاثة ألاف من الآشوريين.
وفي العقد الأخير، رغم تعاون قسم كبير من الآشوريين مع سلطات شمال خط العرض 36 الكردية فإنهم لم ينجوا من القتل على أيدي بعض أحزابهم المتعصبة قومياً ودينياً. ففي 1992 اغتيل فرنسيس شابو ممثل الكتلة الآشورية في البرلمان الكردي. وفي 10 شباط 1997 قتل في بدلة شقلاوة لازار متي وابنه هاول بأيدي جماعات كردية خارجة من جامع البلدة هيجها خطبة الإمام. وفي 13 كانون الأول 1997 قام أفراد من حزب العمال الكردستاني بالتصدي لسيارة مدنية تقل سبعة آشوريين على مبعدة ثلاثة كيلومترات من قرية مانكيش الآشورية والإجهاز عليهم برصاص بنادقهم. وتبلغ السخرية المرة مداها عندما ينفي هذا الحزب مسؤوليته عن الجريمة ويحملها لمنافسه الحزب الديمقراطي الكردستاني والمخابرات التركية. نذكر هذا لنبين بأي الأساليب يتم التملص من المسؤولية عن دماء الناس الآمنين الأبرياء.
وقبل ذلك، في مطلع الستينات شارك قسم كبير من الآشوريين في ثورة البارزاني ودفعوا ضريبة الدم ولكن مصيرهم كان المجازر على يد قوات الحكومة العراقية، والجحود التام من قبل الاكراد. يروي السيد جرجيس فتح الله، وهو من المثقفين السياسيين الذين ناصروا القضية الكردية طوال العمر قائلا: " إن الشعب الآشوري الذي يعيش في هذه المنطقة منذ زمن لا يعلم مداه، وهي وطنه الأصلي، تعرض خلال تاريخه المديد الى اضطهاد مضاعف – لا سيما عمليات الانتقام الوحشية تلك التي كانت تنزلها به الحكومات الغاصبة – بسبب تعاونه وانتصاره للقضية الكردية. وأمثالي، ومن هم في سني ما زالوا يتذكرون الاندفاع والحماسة وخلوص النية والايمان بوحدة المصير الذي اقبل به للمشاركة في ثورة العام 1961 الكردية بقيادة مصطفى ملا البارزاني و "البارتي"، وكم قدم من الضحايا في مجراها. وكيف أفردها حكام بغداد بعمليات انتقام لم يخص بها الكرد أنفسهم. وإخالهم نسوا ما حل بقرية "صوريا" الآشورية في بهدينان عام 1969 عندما جمع ذكورها في خندق وقضي عليهم رمياً بالرصاص. في حين سد مدخل الكهف الذي لجأ إليه الأطفال وأمهاتهم بالحطب والأخشاب وأشعلت فيها النار ليموتوا هؤلاء اختناقاً[7]."
وفي القسم الواقع في شرقي تركيا من ما بين النهرين حيث ما يزال يعيش قرابة الفين وخمسمائة سرياني هناك، وقع هؤلاء بين مطرقة الثوار الاكراد وسندان الحكومة التركية، وضمن هذه الدائرة الجهنمية يقتل بين الحين والأخر عدد من المسيحيين الآمنين بحجج وبدون حجج والغاية إخراجهم من أراضي آبائهم وأجدادهم.
-------------- [1] سرجون يلدا سليفوا "الآشوريون في أرمينيا" حويودو أيار 1991.
[2] الموصل واقلياتها، لوك.
[3] هنري لايارد، البحث عن نينوى (السويد: دار سرجون، 1994).
[4] سليم مطر، "ولاية الموصل بين كناشة التكريد والتتريك،" حويودو ت 1 1995.
[5] يوحنا ابراهيم، مجد السريان" مار اغناطيوس افرام الاول برصوم (حلب: دار ماردين والرها 1996).
[6] عرب هذا الكتاب ونشر في سوريا منذ اواخر الثمانينات وقد احتج السفير التركي لدى سوريا بسبب ذلك.
[7] جرجيس فتح الله، "إيضاح وتنبيه" حول ما يحصل في "المنطقة الامنة" حويودو، شباط 1998.