التاريخ يتكلم الحلقة 126 لم تعتب سجون العراق علي وانا طفلة بنت 14 عاما
1964 والدتي ومعها سبعة اطفال مختفين في بغداد . جاءت لزيارتنا احدى قريبات والدي العمة حني لتنقل الينا خبرا مشؤوما فحواه ان والدي قد توفي بالقرحة التي يعاني منها , وبسرعة اجتمع الاهل والاقرباء واقترحوا على والدتي السفر للتآكد من الموضوع الذي بدأ على شكل اقاويل غير مؤكدة , تأبطت والدتي رضيعها اخي ازاد واصطحبتها والدتها ( جدتي شوشي ) وانطلقوا الى الموصل لتقصي الخبر . ذهبوا بسرية ورجعوا بمثلها وعلمن ان ذلك لم يكن غير اشاعة مغرضة من قبل السلطة . بقينا في بغداد الى مطلع الخريف من تلك السنة التي قررت والدتي فيها العودة الى القوش ومباشرتنا بالدراسة وليكن ما يكون ! لكن قبل ان تنفذ ما كان يدور في خلدها اعتقلت السلطات اخي سفر مما جعل والدتي تعدل عن قرارها .سافرت جدتي الى القوش مصطحبة معها الاطفال الاربعة هناك ليبدآوا دوامهم في المدرسة وبقيت انا مع والدتي واخي ازاد (الطفل الرضيع) واختي انصار في بغداد خوفا من الاعتقال وبدآنا الحيطة والحذر في كل تنقلاتنا وحركاتنا وبقينا نعيش على ما يجود به الاقرباء والاصدقاء .
جدتي المرأة المناضلة الصبور, بدأت توزع نفسها بين بغداد والموصل , تضحي براحتها من اجل الاطفال واستمرارهم في الدراسة , تزور اخي سفرفي سجن الموصل ووالدي في الجبل وفي العطلة الصيفية تأخذ معها الاطفال الى بغداد . عند قدومها الينا لاحظتها تبكي بكاءا مرا , ماذا حدث ؟ وبدآت اسئلة كثيرة تحوم في اذهاننا , لكنها كانت قلقة لانها هي الاخرى اعتقلت وكان بصحبتها الاطفال الاربعة واودعت رهن التحقيق كانوا يسألونها عن ابنها , قالت لهم ليس لدي ولد بل اربع بنات متزوجات , لم يصدقها مسؤول السجن وارسل بطلب مختار المنطقة " جوكا غزالة "وسأله ما اذا كان لها ولد التحق( بالعصاة ) على حد تعبير السلطة , قال ليس لهذه المرأة ولد , بل بنات فقط , عندها اطلق سراحها , في هذه الاثناء جاء من يخبر جدتي بان زوج خالتي" سليمان يوسف "قد اطلق سراحه . كان ذلك مبعث سرور لها ولنا . على امل ان يطلق سراح زوج خالتي مريم "ياقو توماس " فقد كان ما يزال في المعتقل . خلال ذلك كانت قد توقفت حملات الاعتقال الجماعية لكن الاعتقالات الفردية لم تتوقف .
في ايلول ، حيث موعد المباشرة في الدراسة , قررت والدتي ان ترجع الى بيتنا خاصة بعد اطلاق سراح اخي سفر , كان لابد من ذلك بالرغم من انها مغامرة غير محسوبة النتائج حيث اننا كنا سنعود الى الدار دون علم السلطة وهناك احتمال القاء القبض علينا جميعا. بالرغم من ذلك عدنا وفتحنا الدار , في ايلول ونحن ننتظر , بين لحظة واخرى , من سيطرق الباب علينا ويعتقلنا . ولدى رجوعنا الى البيت كانت محتوياته قد نهبت , فبات فارغاً من كل ما يحويه بيت سكني , الحديقة يابسة , قفص الدجاج فارغ ايضا, بدآنا نجمع ما نحتاجه ؛ كان لدينا بعض من الافرشة والمنامات عند جدتي التي لحقتنا , هذه المرأة المكافحة الصبور التي كانت تركض وراء الجميع من مكان الى اخر , من الجبل الي السجن الى بغداد فالموصل . تحاول ايجاد مخبآ لاحفادها وتهيْ لهم ما يحتاجونه من طعام وملابس .
بدأت اواظب على الدراسة , في المدرسة ساحة كبيرة لها بابان امامي وخلفي كنت اشعر بخوف وقلق داخلي بالرغم من ان والدتي كانت تحاول رفع معنوياتي . كنت اعلم بان هناك امراً بالقاء القبض علي ولكن والدتي اخبرتني ان ذلك اصبح في طي النسيان خاصة وانك تلميذة مطيعة ومؤدبة ويحبك ويحترمك الجميع , فاذهبي الى مدرستك مطمئنة .
كنت في المدرسة , اجلس بجوار النافذة وعيني على الباب الخلفي الذي نادرا ما كان يفتح , وهو باب حديدي . المدرسة بجانب بيتنا , وكلما فتح الباب كنت احس ان الشرطة ستأتي لالقاء القبض علي . وقد وقع ما كنت اخشاه . ففي حصة اللغة الانكليزية الارمنية ست ديكران , بينما كانت المدّرسة مسترسلة في القاء محاضرتها واذا بشخص بزي الشرطة يدخل المدرسة , علمت فورا انه جاء لالقاء القبض علي حيث جاء من جهة دارنا . دخل الشرطي الادارة وبعد دقيقتين كانت المديرة ترسل في طلبي واخبرتني بان الشرطة تبحث عنك وجاءت لتأخذك . كنت مرتدية ملابس الطالبات الموحد وهو صدرية رصاصية وقميص ابيض , وعند الباب وجدت والدتي تنتظر لتصحبني الى مركز الشرطة.
كنت ارتعب من مجرد سماع اسم الشرطة . وكان المركز يبعد مسافة ربع ساعة عن بيتنا . تركت كتاب الانكليزي ودفتري وقلمي بجانبهما على طاولة الدرس وانا لا اعلم متى اعود اليها . كانت والدتي اكثر قلقا مني . دخلت الى غرفة التحقيق وكان يجلس على الطاولة مسؤول المركز ببدلته الرسمية وملامحه الجهمة التي توحي بالاجرام والقسوة , عيناه يتطاير منهما الغضب , بدآ اسئلته التقليدية وانا اجيبه بلغة عربية ركيكة , ما اسمك وعمرك؟ اسمي كاترين عمري 14 سنة , اين والدك ؟ لا اعلم , كيف لا تعلمين ؟ وهل هناك عائلة تعيش بدون اب ؟ هل انت منتمية الى الحزب ؟ كلا لا علاقة لي بالحزب , هل تلتقين بالبيشمركة ؟ لا طبعاً , من يزوركم ؟ اين تذهب والدتك ؟ ومن يآتي عندكم في الليل ؟ الجواب لا احد يزورنا ولا نزور احد , اعود من المدرسة الى البيت ، احضر واجباتي , انام ، ثم اعود في الصباح ثانية الى المدرسة دون ان نلتقي باحد . يصرخ مأمور المركز : لاتكذبي ! من الافضل ان تقولي الحقيقة , فان كنت صريحة سوف نطلق سراحك . لا تخافي ! وبعكسه ستنالين عقاباً صارما . قالها بعصبية ظاهرة , كنت اترقب النتيجة والخوف يسيطر على جوارحي , بعد قليل قال يجب ان ترحلي الى مديرية الامن في مركز المدينة لاكمال التحقيق , كان وقع كلماته تلك كالصاعقة علي , ماذا ينتظرني من مفاجاءات وعذاب ؟ كيف سيعاملونني في السجن وما هو شكله وانا فتاة صغيرة , في اعماقي عشرات الاسئلة . في السجن لايوجد غير الاعتداء والضرب والاغتصاب او الاعدام ! اخبرت والدتي بالقرار وطلبت من المأمور ان يسمح لوالدتي ان ترافقني فوافق على ذلك . ثم هيأوا سيارة لنقلي الى مركز المدينة الموصل برفقتي حارسين . امرني المأمور ان انتظر في غرفة التسجيل حيث سيناديني الحرس بعد قليل .
جلست في تلك الغرفة لا ارى ما حولي من شدة اليأس والخوف ، كنت على وشك الانهيار . والدتي ذهبت الى البيت لتخبر اخوتي وعادت مسرعة لترافقني الى المصير المجهول . جميع من لاقاني كان ينظر الي بعين العطف ويتساءل كيف ستدبر امرها هذه الطفلة في السجن ؟ واستنكروا ذلك الاجراء المتعسف . وساد جو من التذمر والاشمئزاز في المنطقة نتيجة اقتيادي من المدرسة ومن ثم الى المدينة , برفقة الحرس وانا بملابسي المدرسية . في الثانية بعد الظهر انطلقت السيارة وبصحبتي شرطيين فيما جلست والدتي بجانبي وبدأت تبدي استنكارها وتذمرها موجهة كلامها للشرطيين وتقول ماذا تريدون من الطفلة التي اخذوها من المدرسة . وانا تركت اطفالي وبضمنهم رضيع لا احد يستطيع مداراته واعداد الرضعات له ؟ اجاب احد الحراس مواسيا: لا تخافي ايتها السيدة انه تحقيق بسيط وترجعون الى داركم . بعد ساعات كنا في بناية حقيرة هي السجن , استلمونا وبدون تحقيق اعلمونا باننا سنرحل الى مدينة اربيل . طلبت والدتي من مسؤول السجن ان تبقى بصحبتي اذ لا تعرف احداً في المدينة ولا توجد وسائط نقل في وقت متأخر كهذا ثم لا يمكن لامرأة في تقاليدنا ان نكون نزيلة فندق لوحدها . وافق على طلبها ونزلنا الى غرفة متعفنة رطبة ليس فيها اى مجال للتهوية . السجن خاص بالنساء , كان بعض النساء ينتمين الى فئة منحلة وكان ذلك واضحا من طريقة كلامهن وشتائمهن المقرفة . وحاولتْ والدتي تفادي الاحتكاك بهن واخذنا زاوية فرشتها والدتي ببطانية واخرى لنتغطى بها . اضطجعت بجانب والدتي التي لم تستطع النوم لاسباب كثيرة اولها التفكير والخوف او القلق , واخرها رائحة البطانية العفنة الكريهة . لم نكن تذوقنا الطعام حتى تلك الساعة . فجلبوا لنا الفطور الذي هو عبارة عن قدح شاي مع قطعة خبز عفنة وشربنا الشاي فقط . رحلنا الى اربيل في رحلة استغرقت ساعتين في السيارة لم نتكلم خلالهما ابداً. وعندما وصلنا سجن اربيل جابهنا تحقيق روتيني آخر ثم ابلغنا بانهم سينقلونا الى كركوك حيث المحاكمة . طلبت من المحقق ان تكون والدتي معي حيث لا معارف لديها هناك وهي تزور هذه المدينة لاول مرة ولا تعرف الى اين تتوجه . وافق على ذلك وامر بتزويدنا ببطانيات للنوم . فتح السجان الباب الضخم فدخلنا الى باحة كبيرة وقادنا الى غرفة صغيرة تتسع لثلاثة اشخاص فقط سبقتنا اليها امرأة كردية تتكلم باللغة العربية ايضا فهمنا منها ما معناه انها تعيش في المدينة . كانت تحافظ على نظافة مظهرها ويوحي تصرفها وكلامها بانها سياسية , حالة الغرفة تعيسة للغاية في الساعة السادسة زودنا بوجبة طعام وعندما خرج السجان عاينا من خلال ثقب صغير في الباب فكنا نستطيع ان نرى ما يدور حولنا . تحدثت والدتي الى تلك المرأة فاتضح انها هنا بتهمة سياسية وان السجن مخصص للسياسيين . ارتاحت والدتي لحديثها وتوقعت انها ستجد هنا اصدقاء لوالدي . جاء السجان ليأمر والدتي بالخروج وتركي وحدي , لكنها ناولته مبلغا من النقود ليتغاضى عن الموضوع . لاحظنا ان السجناء في الساحة طليقون مما جعلنا نستطيع التعرف على شخصياتهم دون الكلام معهم . بعد نصف ساعة دقت الصافرة مؤذنة بعودتهم الى غرفهم وزنزاناتهم . وكان عددهم يقارب الخمسين شخصا.
جاءنا السجان يفتح الباب فقد حان وقت الذهاب الى المرافق الصحية , رجعنا بعدها الى غرفتنا المظلمة , لا نافذة فيها , ضوء خافت جداً بالكاد نستطيع من خلاله تلمس طريقنا الى ارض الغرفة , في الليل بعد ان يقفل علينا الباب ومن ثم الباب الخارجي للرواق نادانا صوت كان بجوار غرفتنا : اخواتي لا تخفن نحن هنا سجناء سياسيون مثلكم اذا احتجتم لآي شيْ في الليل اصرخوا ! لاتخفن , جاء السجان فسكتوا , لم نر وجوههم ولا هم رأونا , كان ذلك مبعث اطمئنان لنا , شريكتنا في الغرفة تعلن عن استيائها بين الحينة و الاخرى وتقول ما هذا الاجرام والتعسف ؟ هل تستطيع هذه الطفلة قلب نظام الحكم؟ منتصف الليل صرخت مذعورة لكن هدأ من روعي وجود والدتي بجانبي وهي تهدأني . كان كابوسا مخيفا.
الساعة السابعة صباحا خرجنا الى الساحة للاغتسال والذهاب الى دورة المياه , مكثنا في ذلك السجن يومان , ولما اكتملت الاوراق سفرونا الى كركوك التي تبعد ساعتين وبصحبة اثنين من افراد الشرطة . وبنفس الاسلوب تم استلامنا في كركوك واودعونا سجن النساء , واثناء التحقيق سأل احدهم والدتي : هل خطب ابنتك شخص غريب ورفضت؟ او هل تحب انسانا وانت رفضتيه؟ اجابت متذمرة : لم يحصل ذلك . استرسل المحقق : لربما هناك تهم سياسية . وكالسابق طالبت والدتي منهم مرافقتي داخل السجن ولكنهم رفضوا هذه المرة .
ادخلوني الى سجن ذي باب حديدي اخضر فيه ثقب يتسنى للحراس مراقبة السجينات من خلاله , السجينات يتحدثن الى الحارس وكانه صديق وليس سجان . في زاوية السجن امرآة كبيرة بدينة ذات شعر ابيض تراقبني وتلاحظ ملابسي وتعرف انها ملابس الطالبات , نادتني مشفقة : تعالي ياابنتي . وفرشت البطانيات "تعالي نامي معي فانا مثل والدتك لا تخافي ", ثم سألتني : لماذا انت هنا ؟ اخبرتها بقصتي وبدت متفهمة ومنجذبة نحو حديثي . عقبت قائلة : عفاك يا فتاة , لاتخافي . انت معي ., لا تسمعي كلام غيري . في تلك الغرفة التي لا تزيد مساحتها ( 4× 4 م) ازدحمت باكثر من عشر نساء مكثت فيها اكثر من اسبوعين حتى جاء يوم المحاكمة . لاحظ الحاكم انني لا زلت بملابس الطالبات , سآلني اسئلة عابرة , ولاحظ لغتي العربية الركيكة , بعد ساعة كان قرار الحكم بالعفو لانني بريئة . اخذتني والدتي وذهبنا الى بيت اقاربنا بيت هيلاني . تناولنا الطعام عندهم ومن ثم توجهنا الى مرآب للسيارات المنطلقة الى الموصل , وصلنا دارنا والكل مسرور بتلك النتيجة بعد قلق دام اياماً طويلة . بعدها واظبت على دراستي وكانت زميلاتي متعاطفات معي الا واحدة منهن كانت تنظر الي نظرات ملؤها الازدراء والتشفي . بعد ان كبرت عرفت انها من عائلة كانت موالية للنظام انذاك , كان في الدار جدتي وعمتي التي تربطني بها علاقة قوية بهما بالرغم من اننا على طرفي نقيض , فهي انسانة متدينة تطلب مناان نتوجه الى الديانة لا غير .
سنة 1965 كنت في السنة الثالثة من المرحلة المتوسطة , تعرضت للاضطهاد والتعسف حتى من قبل الهيئة التدريسية احيانا . اذكر مرة انفردت بي مدرسة الاجتماعيات لا اذكر اسمها وبدأت تسآل عن اتجاهاتي السياسية وعن ميول والدي السياسية وما هو عمله , وهل لكم مكتبة في البيت , وماذا تطالعين واي كتب يطالعها والدك ؟ اسئلة كثيرة متنوعة وانا في غاية الارتباك والاحراج احاول ان لا افضح امر والدي الملتحق بالمعارضة . عندما حدثت والدتي عن التحقيق الذي اجرته مدرستي معي اثار ذلك حفيظتها وقالت ما دخلها ؟ وماذا تريد ؟ حاولت والدتي الاتصال بمدرسة اللغة الانكليزية وهي تربطها بها علاقة صداقة واحترام , وكانت معجبة بوالدتي وتصفها بالام العصرية . عملت تلك المدرسة ( الارمنية الاصل ) على تهدئة والدتي ، طيبت خاطرها ونصحتها بان تهتم بتوجيهي نحو اكمال واجباتي ومتابعة دراستي , فامتحان البكلوريا بانتظاري , وهي مرحلة مهمة يجب اجتيازها بكفاءة لتحديد معالم مستقبلي الدراسي .
كان هناك في داخلي صراع بين ان اتابع الدراسة في القسم الادبي وانخرط في سلك الصحافة وبين ان اجتاز الفرع العلمي واحقق ما كنت احلم به واصبح مهندسة .
كان والدي يشجعني في كلا الاتجاهين ويقول مازحاً تستطيعي ان تكوني صحفية ناجحة ومهندسة قديرة , الهاجس المسيطر على جوارحي هو ان لا يكون الفشل من نصيبي في اية مادة . لكن القلق كان على اشده حين وقعت يداي على كتاب بعنوان ( دع القلق وابدآ الحياة ) لكاتب امريكي. قرأته من الغلاف الى الغلاف واعجبت به جداً . غير انني لم استطع ان اتخلص من معاناتي تلك , لانني كنت لا اطمح فقط في النجاح بل في التفوق . واخيراً اجتزت الفرع العلمي مع صديقتي المحببة لي انجيل التي كانت تشاركني في الدراسة .
وخلال دراستي الثانوية بدأ والدي يزورنا بشكل خفي مرة بالاسبوع وغالباً ما كان يصلنا بعد الثامنة مساءا فنستقبله بفرح لا يوصف . كان يتابع امورنا الاقتصادية والدراسية ونستمع الى توجيهاته السديدة وارائه القيمة في كل شيْ يسعفنا في تدبير معيشتنا . كانت الدولة تصرف لنا 25 دينار بدل ايجار المعمل الذي كان يملكه والدي ووضعت الدولة يدها عليه , كانت والدتي تذهب الى بغداد لاستلام المبلغ مرة كل شهرين , وتبقى هناك فترة اسبوع كنت خلالها الاقي صعوبة بالغة في التوفيق بين الدراسة ومتابعة امور المنزل والاعتناء باخوتي الصغار .
ما زلت اتذكر احدى المفارقات المؤلمة . حين رجوعي في يوم شتائي شديد البرودة من المدرسة وجدت اختي الصغيرة انصار جالسة القرفصاء امام مدخل المنزل , الباب موصد , كنت اعتاد ان اؤمنها عند الجيران لحين عودتي من المدرسة , فوجدتها في حالة نفسية يرثى لها . قلت لماذا انت جالسة هنا وسط هذا الطقس البارد ؟ اجابت لا اهتم بالبرد ولكني متضايقة اريد ان اكون في منزلنا وليس عند الجيران وانفجرت في بكاء حاد , احتضنتها وحملتها مع حقيبتي المدرسية . وبعد لحظات قدم اخوتي باسل وسلام وخالد من المدرسة ، ان غياب والدتي من البيت ينعكس علينا جميعا سلبا . واخذت اهيء الغداء لاخوتي . وهكذا استمرت الحياة بين الدراسة والمسؤولية العائلية ومتابعتي لشؤون اسرتي , التي كنت العضو الفعال فيها , واتلقى مسؤوليات اضافية دائما , الا اني كنت اعاني من عدم وجود الوقت الكافي للدراسة . كنت اتهرب والتجىْ الى السطح بالرغم من برودة الجو , اتدثر بالملابس الكثيرة . انهيت الدراسة الاعدادية وكان معدلي العام 74% مما اتاح لي الدخول الى جامعة الموصل –قسم الجيولوجيا وكان سبب اختياري لهذا القسم اننا كنا خمسة فتيات من المتفوقات اخترنا جميعا دراسة الجيولوجيا وكان نوع من التحدي حيث لم يكن سابقا مسموحا للبنات هذا القسم . كانت قد سبقتنا السنة التي قبلها طالبتين فقط من الموصل . في نفس السنة اعلن العفو العام عن السجناء السياسيين ورفع الحجز عن معملنا . رجع والدي لينضم الى الاسرة وعدنا نعيش عائلة متكاملة بعد فراق وعذاب طويلين . كان والدي وهو يتابع برامج التلفزيون في المساء لا يبخل علينا بايضاح ما كان غامضا في حياتنا , سآلني مرة لماذا اخترت فرع الجيولوجيا ؟ اجبته لانني احب الطبيعة والسفر , قال اختاري اي شيْ يرضي طموحك ويلبي رغباتك . نوفمبر 2007