التاريخ يتكلم الحلقة 36 مخيم ماردين
تم ابلاغنا بالتهيء للرحيل الى معسكر آخر وهيئت لهذا الغرض الحافلات الملوثة بغبار الفحم. لسنا اصحاب الخيار فهم يقتادونا الى حيث لا ندري وبأية وسيلة, نحن نعامل معاملة الاسرى. ومنذ التاسعة صباحا شرعت كل عائلة بحزم امتعتها ومقتنياتها لتحتل مكانا في احدى الحافلات المغطاة بغطاء اسود او خاكي. حشرنا كما يحشر الخراف مكدسين الواحد فوق الآخر, لا نتمكن من مشاهدة ما حولنا الا ما تفسحه لنا نافذة صغيرة من خلال ذلك الغطاء السميك. وبعد خمس ساعات وصلنا الى معسكر سبقنا اليه من الاجؤون الاخرون, وحال وصولنا قادنا اولئك القوم للاغتسال من آثار الفحم. كنا على يقين بان تلك السيارات لا يسمح لها ان تنقل المواشي خوفا من تلوث صوفها! نزلنا ضيوفا عند بيت محمد دوري بعدها هيأوا لنا وجبة طعام جيدة مكونة من الرز والبطاطا والخبز, مطبوخة في البيت. كنا لم نتذوق, منذ فترة, طعاما مهيأ بصورة جيدة, على طريقة البيوت الشرقية, الا هذه المرة, وهذا ما يفضله العراقيون قاطبة.علمنا بعدئذ اننا حططنا الرحال في ماردين. نزلنا ضيوفا عند عائلة احمد دورى ثم انتقلت للسكن مع عائلة ابو نزار, وهي عائلة اثورية مسيحية. كنت زميلة الرفيق ابونزار في العمل السياسي وزوجته فهيمة كنت ولا زلت اكن احترام كبير لهذه العائلة . فهيمة تشعر بالوحدة في البيت ولبعدها عن عائلتها. حين وصولنا ماردين لاحظنا ان الامور الصحية مرتبة بشكل افضل, وفرة من الحمامات وخيم مساحتها ( 2×2 ) مخصصة لستة اشخاص, ذهب ابو نزار مع اخوه سعدو لاستلام خيمة نسكن فيها وشرعنا بتثبيتها, كما فعل الجميع, بالرغم من المطر الهاطل. في اليوم التالي ذهبنا لاستلام الارزاق التي توزع حسب عدد افراد العائلة ولفترة اسبوع. في المعسكر 17 الف لاجيء والبرد لا يرحم. كنا نفتقر الى الملابس والتدفئة, فصرفت مائة دولار لشراء بعض الملابس التي نستطيع التدثر بها خلال ايام الشتاء القادمة، ولم يكن غريبا ان نصادف، بين فينة واخرى، بضعة رجال حاملين جثة طفل، او شيخ هرم، لدفنه في المقبرة التي لا تبعد كثيرا عن مخيمنا. ثلاثة لا يفارقوننا الخوف والبرد والمرض، ويزيد في الطين بلة ظلم وتعسف اولياء القرار في المعسكر. كان بحوزتي صك بقيمة 500 دولار لم اتمكن من تحويله، كما اسلفت سابقا، في سلوبيا، فذهبت الى اللجنة الخاصة بادارة المخيم. كان هناك شابان كرديان رزكو وازاد . طلبت منهم مقابلة الوالي لاشرح له حاجتنا لتصريف هذا الصك لابتياع الملابس الشتوية. اذن الوالي بمقابلتي, تكلمت معه باللغة الانكليزية فاتضح انه لايجيدها فاستعان بشابة تركية للترجمة, سألني: من اين تعلمت التكلم بالانكليزية وكيف وصلت هنا؟" اخبرته انني استاذة جامعية احمل دكتوراة في النفط ولدى اخوة التحقوا بصفوف البيشمركة والمعارضة العراقية لذا فصلت من وظيفتي فالتحقت باخوتي خوفا من وقوعي بيد السلطات العراقية، وعند ملاحقة السلطة للبيشمركة ومهاجمتهم بالاسلحة الكيمياوية اضطررنا للانسحاب الى الاراضي التركية, وها نحن هنا بينكم. سألني: من لديك في اميركا؟" اخبرته ان اقاربي من جهة والدي مع عائلته يعيشون هناك وهم بعثوا لي بهذا الصك. بدا ينفتح بالحديث واعارني آذان صاغية للتحدث عن النظام الصدامي الفاشي, وبنفس الوقت قدمت شكرنا للحكومة التركية لسماحها انقاذ اولئك المشردين. بدا الوالي متعاطفا لما يسمعه, وطلب ان يرى ما بحوزتي من شهادات, قلت لقد تركتها في العراق. وللتو اتصل بالمصرف وابلغهم بانه يتكفلني في موضوع ذلك المبلغ. لكن المشكلة ان الصك هو باسم سعاد بيرموس ولكن لا توجد لي هوية اثبات بهذا الاسم, قلت نحن نجونا بارواحنا من مفعول الاسلحة الكيمياوية دون ان نستطيع انقاذ أي شيء من حاجاتنا الشخصية ومن ضمنها كل الاوراق والبيانات الرسمية, فالحياة اثمن من تلك الوريقات". كان ذلك جوابا شافيا ومقنعا لذلك السؤال. وافق على طلبي وامر سائقه, وبسيارته الخاصة, السوداء اللون, بمرافقتي الى السوق, او أي مكان, لابتياع ما احتاجه من الملابس والغذاء لي وللصغار. وما ان فرغت من شراء الملابس حتى توجهت الى سوق المواد الغذائية واخذت ما يكفي لعائلتين, عائلة عبدالله بامرني وعائلة ابو نزار. صرفت ما قيمته 200 دولار وهذا مبلغ ضخم في تركيا.
كانت فرحة لا توصف لدى الاطفال خاصة عندما شاهدوا الملابس الجديدة, ومواد غذائية كثيرة طال اشتياقهم لها. اتذكر الطفل (ريكو) ابن عبدالله الاكبر, ذو الثمانية سنوات, حينما ناولته دجاجة قال فاغرا فاه ماهذه قلت (مريش) أي دجاج باللغة الكردية, لم يصدق انه سيذوق اخيرا طعم الدجاج.
في اليوم الثالث فوجئنا بوفد صحفي تركي يزدحم في خيمتنا. كان الوالي التركي قد اخبرهم بوجود استاذة جامعية في المخيم تتكلم الانكليزية فتسابقوا على الاتصال بي وكانت اسئلتهم تقليدية والتقطوا لي صورا نشرت في صحفهم وسألوني ايضا ما اذا كنت ارغب في العمل في احدى الجامعات هناك بالرغم من صعوبة ابراز الشهادات اللازمة. كنت متحفظة الى درجة كبيرة معهم.
كانت هناك مشكلة اخرى وهي توفير مستلزمات النوم من افرشة واغطية, كانت تباع هي ايضا, باسعار خيالية من الحانوت الموجود في المخيم وهو يفرض اسعاره ولا مفر لنا من الامتثال. لازمتني آلام مبرحة في ظهري وتشنجات في ساقي اليسرى ولا زالت اثار الكيمياوي موجودة على ركبتي الاثنين , نتيجة البرد وعدم توفر اسرة او مكان مناسب للنوم تتضاعف الالام, ولا زلت اعاني منها ومستمرة في تلقي العلاج, حتى كتابة هذه السطور.
بعد حوالي شهر من وصولنا الى ماردين تلقيت مكالمة هاتفية من ديار بكر, المعسكر الثاني للاكراد. كان الرفيق يونس على الطرف الآخر من الخط يخبرني برغبته بالتكلم معي بموضوع سري للغاية, ولا مجال للنقاش على الهاتف واضاف انه سيطلعني على الامر عندما نلتقي.
صباح اليوم التالي طلبت من رزكو, مسؤول لجنة المخيم, زيارة ديار بكر لامر هام, كانت هناك سيارة صغيرة مخصصة للتنقل بين المعسكرين مرة في الاسبوع, تنقل من يريد الذهاب صباحا وتعود مساء. توجهنا يوم الاحد الى ديار بكر, مع مجموعة تتكون من 12 فردا, كلهم ذكور مرتدين الزي الكردي. جلست في المقعد الامامي لا اشارك في الحديث واسترق السمع الى تعليقات من بصحبتي في السيارة, وهم يشاهدون على قارعة الطريق وعلى جانبيه فتيان مع صديقاتهم يتبادلون القبل! كانوا يصيحون مستنكرين الله اكبر! استغفر الله! ويلتفتون مشيحين ببصرهم عنهم ليقع على مثيله في الجاني الآخر, والكل يستهجن تلك الفعلة النكراء! ويستغربون أي نوع من الاسلام تتبع هذه الدولة؟ واخذوا يقذفون تلك الفتيات بابشع الشتائم ولم تسلم من السنتهم لا الحكومة ولا الشعب التركي الكافر! كانوا يرددون اننا لا نوافق ان نزج نساءنا في هذا المجتمع الفاسق."
وصلنا الى ديار بكر فتم اقتيادنا الى غرفة صغيرة محاطة بالحرس, طلبنا اللقاء كل بمعارفه واهله, رفضوا طلبنا, في البداية, ولكن بعد نصف ساعة سمحوا لنا بذلك على ان لا يطول اللقاء اكثر من ساعة واحدة فقط.
كان الرفيق يونس مع صديقه يعقوب في استقبالي. اخذوني الى خيمتهم فقد كانوا يعيشون مع عائلة (ابو فرهاد), جلسنا نتبادل اطراف الحديث عن الرفاق وعن حياتنا, ناداني الرفيق يونس على انفراد وسلمني مبلغ (1000 دولار) قال هذه امانة كنت احتفظ بها عندي وهي تعود لك كنت قد اودعتيها عند مكتب القاطع, وكتب على المظروف الابيض (د. سعاد امانة 1000 دولار). وتابع لم اثق باحد لاسلمه المبلغ لايصاله لك ولم اجازف بتسليمه لمسؤولي المعسكر وارتأيت ان اسلمه لك باليد. انني احترمك واحترم عائلتك واحترم تضحياتك." هكذا بادرني الرفيق يونس وابدى تعاطفه معي لما كنت اعانيه من صراع مستمر مع القيادة, الامر الذي نجم عنه انعدام الثقة واسترسل في كلام ينم عن الانفعال, ادركه صديقه يعقوب قائلا:" دعيه يفرغ ما بجعبته." استلمت المبلغ ودسسته في حقيبتي اليدوية فورا دون ان الفت نظر احد. سلمني رسالة شفهية كلفني بايصالها الى (المسؤول الحزبي في سوريا) حول المبلغ, وقد نفذت ذلك حين رجوعي الى ماردين, اخبرت ابونزار وعائلته عن استلامي الالف دولار من اقاربي في امريكا, وعن مدى نزاهة الرفيق يونس وحفظه للامانة. الف شكر لك ايها الرفيق النزيه الذي لا اعلم اين القى بك الدهر واين حططت الرحال بك الان, ما اجمل ان يجمعنا القدر, مرة اخرى, فنتحدث عما مضى, وعن الاحداث الصعبة التي صادفتنا, كثيرة هي مرارتها, والذي يحز في النفس هذا التشتت وهذا الضياع الذي حل بنا, فالرفيق الذي تشاهده اليوم لربما لن تلقاه الى الابد. وبعد سنين من الكفاح المشترك يقطر قلبي دما وانا اجد نفسي وحيدة في محيط يختلف في قوامه وتطلعاته واهدافه, عما الفنا, بعد ان سقط الاصدقاء والاقرباء شهداء في دروب النضال, او فقدوا او اودعوا الزنزانات التي ازهقت فيها ارواح لا حصر لها.
نحن في شهر تشرين الثاني, البرد قارس لا يحتمل. لا بد من الانشغال بشيء ننسى فيه الطقس واحواله. كنت مشغولة بقراءة احد الكتب باللغة الانكليزية وكان قد تركه الصحفيون لدى زيارتهم لنا, واذا بجلبة واصوات استغاثة ومن ثم سيارة اسعاف مسرعة الينا, بعد استعلامي عن الامر اتضح ان حفيد المدعو محمد الدورى واسمه رفو عمره اربعة سنوات, قد سقط في بالوعة المياه القذرة التي يزيد عمقها عن الخمسة امتار, وانبرى شخص لانقاذه ورمى نفسه فيها وسحب الطفل, وهو فاقد الوعي, اغرقه المجتمعون حوله بالماء البارد وكانوا يحاولون تنظيفه مما علق به من قذارة. ثم قاده الرجل الى حيث والديه, وفي هذه الاثناء وصلت سيارة اسعاف اخرى يطلب طاقمها شخصا يتكلم العربية او الانكليزية ليترجم للاطباء العاملين في مستشفى ماردين. تبرعت انا للذهاب واخذنا الطفل معنا مع والده, وبعد ان فحصه الطبيب قرر ابقاءه في المستشفى 24 ساعة. وفي هذه الحالة كان اولئك الاطباء يحتاجون الى من يترجم الى العربية او الانكليزية, فمعظم اولئك الاكراد لا يجيدون غير اللغة الكردية ووالد الطفل احدهم. فبقيت مع الطفل ووالده. اخبرت والده بانني ساتركه للذهاب الى السوق وسارجع للبقاء الى جانبه. استقليت سيارة اجرة وتكلمت مع السائق باللغة الانكليزية, وكان يفهمني, اخرج قنينة عطر ورشقني بقطرات منها وهذا تقليد تركي ينم عن الاحترام. وكانت المرة الاولى التي الاقي فيها مجاملة وترحيبا بهذا الشكل. طلبت من السائق ان يوصلني الى اقرب كنيسة. التقيت برجل الدين المسؤول عنها وانفجرت امامه بالبكاء المر وطالبته بعصبية ان تقوم الكنيسة بواجبها الانساني تجاه اولئك الذين هم بامس الحاجة الى أي شكل من اشكال المساعدة, وان تتفقد على الاقل, رعاياها من المسيحيين الموجودين في المعسكر, خاصة وان الديانة المسيحية وتعاليمها مبنية على المودة والمساعدة والتسامح فكيف اذا كان هناك, وعلى مرمى حجر منهم, اناس بامس الحاجة الى ذلك؟ قال الكاهن: " اننا لا نتدخل بالسياسة وسنعمل ما باستطاعتنا في هذا المجال", طالبته ايضا باقامة قداس عشية عيد الميلاد المقبل علينا بعد ايام فوعدني بذلك. واوضحت له بانه ليس كل من في المعسكر سياسيين ولا علاقة بالعمل الانساني بالامور السياسية. ابدى استعداده لجمع ما يتسنى له من اعانات وارسالها الى المحتاجين في ذلك المعسكر, وقد نفذ وعده وارسل لنا مواد غذائية واغطية وملابس, كما وعدنا باستقبالنا عشية عيد الميلاد, وكانت فرصة للخروج من المعسكر ولعلها, ايضا, فرصة للالتقاء باناس يتفهمون اوضاعنا, وقد نستطيع ايضا, مكالمة اقرباءنا واصدقاءنا, هاتفيا, في البلدان الاخرى علهم يفعلون شيئا من اجلنا.
اتفقت مع شخص تركي ليكون حلقة وصل بيني وبين اقربائي, وقد قدم لي خدمات جليلة لم اتذكر اسمه. كنت قد اتصلت باقربائي وصورت لهم الحالة المزرية التي نعيشها وطالبتهم باعلان الحقائق في الصحف ووسائل الاعلام, واستطعت ترتيب الاتصال بهم بشكل وثيق بواسطة ذلك الشخص.
رجعت ثانية الى المستشفى بسيارة اجرة لابقى الى جانب الطفل المحتاج الى الرعاية وغادر والده عائدا الى المعسكر. اضطجعت انا والطفل على سرير واحد ولم يكن يوجد غير غطاء واحد لكلينا ولا توجد وسائل تدفئة في المستشفى, ولم نستطع النوم اطلاقا من شدة البرد.
في صباح اليوم الثاني جاء والد الطفل, اما انا فقد ذهبت الى الكنيسة وجاءني معتمدنا التركي (حلقة الوصل) ومعه بعض الملابس من ضمنها معطف اخضر اللون وبلوزات وجواريب ومواد غذائية, جمعت من رعية الكنيسة. عدت الى المستشفى واودعت هذه الامتعة عند بواب المستشفى, بعد الظهيرة اخذتنا سيارة الاسعاف الى المخيم وبصحبتي تلك المعونات. ولما سألني الجندرمة التركي عنها, قلت انها ثياب ابتعتها من الاسواق لاهلي. كانت فرحة غامرة لنزلاء المخيم ان يحصلوا على طعام وكساء. طلبت من سلطة المعسكر ان تهيأ سيارة لتقلنا وفعلا ذهبنا في التاسعة مساء بسيارة من المعسكر حشرت بالناس من الديانات المسحيية والاسلامية . حضرنا الصلاة في قاعة مكيفة حصل يوم 24-12-1988, وهيأت الكنيسة لنا وجبة غذاء فاخرة (تكة مع كباب). طلبنا الى الناس هناك ابداء اية مساعدة ممكنة لمخيمنا ومع انهم كانوا يرغبون في ذلك, غير انهم كانوا خائفين ان يفسر تصرفهم بانه موقف سياسي.
د. كاترين ميخائيل اوكتوبر 2006 واشنطن