التصحر البيئي والأخلاقي
( عالم الاجتماع كولي ) : إن الفرد و المجتمع توأمان يولدان معا .لو خُيّر أحد مخرجي هوليود لتصوير مشهد في ليلة ممطرة لامرأة هاربة من قبضة إحدى عصابات الخطف تلجأ إلى زقاق مظلم تسيطر عليه الكلاب السائبة ويعج بالمطبات والتخسفات والمياه الآسنة، فلن يجد أنسب من أزقة المدن العراقية الشعبية التي تشكل90 بالمئة من مدن العراق.
ففي الوقت الذي لجأ الإنسان وقبل فجر التاريخ إلى التجمعات البشرية لحماية نفسه من الظواهر الطبيعية القاسية والحيوانات المفترسة والجوع وانتظم على شكل مجموعات صغيرة تداخلت حتى أصبحت قبائل ثم تطور الأمر بمرور الزمن إلى نشوء المدن والدول وشعر الإنسان بالأمان التام وتحسنت صحته النفسية وبدا أكثر تحضرا وسعادة، فحال المواطن اليوم في العراق يشبه إلى حد كبير حال الأرنب العجوز في الغابة المحترقة!.
وفي ظل خوف المواطن المستمر على نفسه وأهله، وتراكم السكان في أحياء ضيقة، وسيادة العواصف الترابية، وجفاف الأنهر وانحسار المساحة الخضراء، وزحام الطرق، والأعباء اليومية، وتراجع الدخل المستمر هذا من جهة، ومن جهة أخرى غياب المتنزهات النموذجية والبحيرات الصناعية أو الطبيعية وميادين الألعاب الرياضية والمحميات الحيوانية (رغم أن بلادنا موطن الهلال الخصيب!)عوامل كلها أدت إلى تراجع الصحة النفسية للمواطن، وأضاف هذا التراجع أمراضا نفسية جديدة للتي أوردها د. علي الوردي عن شخصية الفرد العراقي والتي حصرها في أمراض العراق الثلاثة (صراع البداوة والحضارة) و(التناقض أو التناشز الاجتماعي) و(ازدواج الشخصية(.
ولهذا التراجع أسبابه الواضحة، فبعد سلسلة الحروب وفترة الحصار التي مرّ بها العراق خلال القرن الماضي والاحتلال والمرارة التي صاحبت سرعة سقوط الدولة القديمة وعدم استقرار الدولة الجديدة، نمت بذور التصحر(البيئي والأخلاقي) بعد أن تفاقمت الأزمات وأثرت سلبا في شخصية المواطن العراقي.
ورغم أننا كنا نلاحظ وضوح البداوة والخشونة والتصلب والحسد واشتهاء السيطرة والسلطة والتعلق بالسلاح في شخصية المواطن إلا أننا كنا نشعر أيضا ، وبوضوح أكبر، بعض السمات الايجابية، و الإنسانية النبيلة، مثل الكرم ، والأمانة ، والغيرة ، والنخوة الوطنية. فنجد، للأسف، أن هذه الخواص قد غابت، أو تحولت بشكل خطير إلى اللامبالاة، وعدم الشعور بالرضا الروحي، وحب الظهور ، ورفض الفرد الدائم لكل نهج ايجابي يقدمه الآخرين لا يضعه بالصورة ولا يبرز أسمه.
ثم هوت مطرقة كبيرة على رأس شخصية الفرد العراقي تمثلت في سلسلة الإحباطات المتكررة نتيجة الصراعات السياسية في المنطقة، وفلسطين، وما أضافته السياسة الداخلية للتمزقات التاريخية من شروخ جديدة على شخصية المواطن العراقي لتبعثره بين الدين والمذهب والقومية والايدولوجيات المختلفة.
ثم تهشم الرأس بالمطرقة أكثر نتيجة الأوهام السياسية التي زرعها الساسة في خيال المواطن، إذ هدهدوا فكره بما يمتلكه من ثروات كونه يعيش في بلد النفط والخيرات حتى دارت بخلده فكرة غناه وراح يبحث بأية وسيلة متاحة عن ثرواته المستباحة، لكنه في النتيجة لم يحض إلا بخيبة الأمل وبواقع مرير مليء بالتضحيات لا يمتلك من أحلامه المؤجلة سوى لعنة الثروة التي أصابته بهزال الشخصية المزمن.
إن بناء الأوطان وإعادة الإعمار ماديا لهو ضرب من البلاهة إن لم يسبقه بناء شخصية سليمة التركيبة السيكولوجية للمواطن الذي هو التوأم الحقيقي للمجتمع وذلك يبدأ من استنهاض القيم الايجابية المزروعة والموجودة أصلا في جيناته وعن طريق توفير البيئة الصحية والسياسية المناسبة.