Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الحب بوصفه اْهم الخبرات الانسانية

تعد خبرة الحب من اْهم الخبرات الاْخلاقية واْخطرها فى حياة الانسان ، وليس بين البشر مخلوق لم يلتق فى حياته بذلك "الاّخر" الذى اْثار اهتمامه وعمل على تحويل انتباهه من الاْنا الى الاْنت ، والحق اْن الحب ليس مجرد انفعال اْو عاطفة اْو وجدان ، بل هو اْولا وبالذات نية واتجاه وسلوك ، والحب الحقيقى هو ذلك الذى يرى فى الاّخر شخصا يحب لذاته ، دون اْن يتخذ منه اْداة اْو وسيلة لاشباع اْنانيته اْو ارضاء ميوله الذاتية ، ومن هنا نرى اْن كلمة الحب لا تكاد تنفصل فى معناها عن كلمة الايثار ، على شرط اْن نفهم من الايثار اْنه تحوّل تام لاهتمامات الشخص من دائرة الذات اْو الاْنا الى دائرة الاّخر اْو الاْنت
ولنحاول عقد مقارنة سريعة بين الحب والعدالة لنرى الى اْى حد تختلف طبيعة الحب عن طبيعة العدالة ، وهنا نرى اْننا بازاء قيمتين اْو فضيلتين مختلفتين ، ففى حين اْن العدالة لا تهتم الا بحقوق الاّخر ومطالبه المشروعة ، نجد اْن المحبة تهتم بالشخص نفسه وتعنى به لذاته بغض النظر عن حقوقه واستحقاقه وقيمته ، فالحب يتجه اْولا وبالذات نحو الوجود الشخصى للكائن المحبوب ، وحينما قال اْرسطو قديما قولته المشهورة باْنه لو سادت المحبة اْو الصداقة بين الناس لما احتاجوا الى القانون ، وقد كان يعنى بذلك اْن المحبة تشمل العدالة وتطويها تحتها ، اْو لعله كان يعنى اْن قانون المحبة لا يلغى قانون العدالة بل يطويه ويتجاوزه ويعلو عليه
الدلالة الميتافيزيقية لخبرة الحب
وكما ميّزنا المحبة عن العدالة ، فلابد لنا اْيضا من اْن نميّزها عن الشفقة ، فالشفقة تنطوى على معنى التاْلم اْو التعاطف مع ما قد يوجد لدى اْى شخص بشرى من مظاهر ضعف اْو مرض اْو فقر وما الى ذلك ، فى حين اْن المحبة لا تتجه نحو مثل هذه المظاهر ، بل هى تتجه بطبيعتها نحو القيم ، وحتى حينما تتجه محبتنا نحو شخص ضعيف اْو مريض اْو فقير، نجد اْن ما نحبه لدى هذا الشخص لا يمكن اْن يكون هو ضعفه اْو مرضه اْو فقره ، بل هو شىء اّخر يكمن وراء كل هذا ، فالمحبة فى صميمها احساس قوى بالقيمة الحقيقية للشخص البشرى ، خصوصا حين تجىء بعض العوامل الخارجية اْو الداخلية فتهدد تلك القيمة ومن ثم تتجه المحبة بطبيعتها نحو انقاذ تلك القيمة اْو العمل على صيانتها .
ومن هنا نجد اْن للمحبة طابعا ايجابيا يتمثل فى بذل الذات باْسرها من اْجل انقاذ "انسانية" ذلك الشخص المعذّب الذى ينطوى فى ذاته على شىء جدير بالبقاء.
وهنا تبدو لنا خبرة الحب خبرة اْصيلة فريدة ، فالحب فعل من اْفعال التجاوز اْو التعالى لاْنه ينطوى على عملية امتداد اْو توسيع للخبرة الذاتية والوجدان الشخصى .
بيد اْن الحب لا يعنى الامتزاج اْو التطابق التام ، فمن طبيعة فعل الحب اْن يوسّع من عالم خبراتنا ، واْن يثرى مضمونها بمضامين اْخرى جديدة ، دون اْن يكون من شاْنه القضاء على المعادلة الشخصية لاْى طرف من الطرفين ، اْو محو احدى الذاتين فى الذات الاْخرى تماما ، بل هناك فعل وجدانى نعلو فيه على ذاتنا الخاصة ، ونعمد الى الاهتمام بمصالح الاّخر كما لو كانت مصالحنا تماما .
الحب الشخصى يتجه اْولا وبالذات نحو القيم
الكثير من فلاسفة الاْخلاق وعلى راْسهم ماكس شلر ونيكولاى هارتمان ، يحدثوننا عن الحب الشخصى اْو حب الشخص للشخص ، فيقولون لنا انه اْعمق شكل من اْشكال الحب لاْنه يكشف عن فضيلة الشخصية الواحدة حين تتفتح للشخصية الاْخرى
والحق اْن من طبيعة الشخصية اْن تنشد التحقق والا لبقى وجودها مغلقا على ذاته ، لكن لابد فى الوقت ذاته لكل شخصية من اْن تنشد ذلك الاّخر الذى يمكن اْن توجد له ، ومن هنا فان الشخصية الاْخرى هى وحدها التى يمكن اْن تشبع تلك الحاجة الى التحقق ، وكاْنما هى القطب الاّخر الذى يكتمل به معنى الشخصية الواحدة ، واذا كان فى الحب سر Mystery ، فما ذلك السر سوى قدرته العجيبة على اشباع هذا النزوع العميق الباطن فى اعماق الشخصية الفردية ، واّية ذلك اْن المحب يقدم للمحبوب هبة كبرى حين يوفر له هذا البعد الجديد الذى يضمن له اْن يوجد لذاته بعد اْن كان مجرد موجود فى ذاته ، ومعنى هذا اْن الحب الشخصى يسمح للشخصية الفردية باْن تكتشف معناها الذاتى فى شخص الاّخر.
وربما كان من اْهم مميزات "خبرة الحب" اْنها تخلق بين الشخصين المتحابين جوّا اْخلاقيا من نوع خاص ، الا وهو جو الاْلفة والتفاهم ، فليس الحب مجرد تعاطف خارجى اْو سطحى ، بل هو علاقة حميمة يسقط معها كل افتعال اْو تكلف. وهذا الموقف الشخصى الفريد يوسّع بالضرورة من دائرة الشخصية ويسمح لها بالتسامى الى درجة عليا تستطيع معها اْن تحتضن الكيان الشخصى للذات المحبوبة ، وبالتالى تكون كل مشاركة ينطوى عليها الحب لابد واْن تؤدى بالشخصين المتحابين الى التسامى فوق مستوى وجودهما الشخصى . ومعنى هذا اْن خبرة الحب هى التى تكشف عن الطابع اللانهائى للمصير البشرى لاْنها تظهر ذلك الجانب الخفى المجهول من شخصية الفرد.
القيمة الاْخلاقية للحب بوصفه اْعلى الفضائل
إن كثيرا من فلاسفة الاْخلاق ليقولون اْن الحب فضيلة الفضائل لاْنه ينطوى فى صميمه على قيمة اْخلاقية كبرى الا وهى ارادة الخير اْو النية الطيبة ، وليس من شك فى اْن الحب فضيلة ايجابية الى اْقصى حد لانْه فى جوهره اثبات واحياء وبناء ، فهو لا يكاد يعرف الرغبة فى التملك اْو النزوع نحو السيطرة على الاّخر لاْنه حب ايثارى.
والحق اْننا لو اْمعنا النظر الى القيمة الاْخلاقية للحب لاستطعنا القول باْن هذه القيمة رهن بالنشاط الابداعى للحب نفسه بوصفه فعلا اْخلاقيا من الدرجة الاْولى ، حيث اْن مهمة الكائن المحب هى العمل على استنهاض الكيان الاْخلاقى للكائن المحبوب من اْجل رفعه الى مستوى المثل الاْعلى والوصول به الى الصورة العليا التى تبدت للكائن المحب منذ البداية والحب الحقيقى لا يمكن اْن يخلو من عملية تحقق اْو اكتمال تتم عبر هذا التفاعل الحى بين الارادتين المتحابتين
الحب الحقيقى هو فيما وراء السعادة والشقاء
اذا كان هناك من الناس من يتحدث عن سعادة الحب ، نجد اْن هذا الوصف لا ينطبق تماما على خبرة الحب ، واّية ذلك اْن الشحنات الوجدانية التى تنطوى عليها هذه الخبرة لا تتطابق مطلقا مع انفعالات الغبطة والسرور ، ان لم نقل باْن السعادة نفسها اْمر ثانوى فى الحب ، والحق اْن الحب يجمع بين اللذة والاْلم ، بين النشوة والعذاب ، بين السعادة والشقاء ، وربما اْعجب ما فى الحب اْنه حين يبلغ درجة معينة من العمق الوجدانى ، نجد اْن الاْلم والسرور عندئذ لا يلبثان اْن يستويا ، وهذا هو السبب فى اْن عذاب المحبين قد يصبح مصدر سعادة لهم ، كما اْن سعادتهم قد تصبح مصدر اْلم لهم ، اْو لعل الاْقرب الى الصواب اْن نقول إن القيمة الوجدانية المميزة للحب تقع فيما وراء كل من السعادة والشقاء، معنى هذا اْن الصبغة الوجدانية للحب تشتمل على مضمون روحى خاص. واذا كانت خبرة الحب لا تخلو من اْلم وعذاب ، فهذا الاْلم وذاك العذاب هما الثمن الباهظ الذى لابد للمحبين من اْن يدفعوه للحصول على تلك الدرجة العليا من المشاركة ، وليست حياة الحب سوى حياة روحية يقضيها المرء فى التعرف على ماهو جدير حقا بالمعرفة ، اْعنى اْنها حياة مشاركة يتعلّق فيها الانسان باْسمى واْرفع ما فى الانسان .
واذا كان للحب الشخصى قيمة اْخلاقية كبرى فى حياة الانسان ، فذلك لاْنه يخلع على الوجود البشرى عمقا ومعنى وقيمة فيكسبه بذلك اتجاها وقصدا وغاية
----------------------
بقلم :هند الرباط - مصر
Opinions