Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الحوزة الدينية في النجف والنظام السياسي الطائفي في العراق

كلما مادت الأرض تحت أقدام الطائفيين من كل نوع وصنف, ازدادوا صراحة في الكشف عن أوراقهم المذمومة وأنيابهم الجارحة, وازدادوا عداءً للعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات, وازدادوا غلواً في الطائفية السياسية والتمييز الطائفي والتخندق ومعاداة الآخر. هذه ظاهرة عامة لا تمس العراق وحده, بل تمس كل العنصريين والطائفيين أينما وجدوا في عالمنا الكبير. وهي الظاهرة السائدة في إيران , وهي التي ساهمت في نشوء صراعات ونزاعات وحروب دموية في فترات مختلفة من تاريخ البشرية. ولم تكن لوحة الحرب الأهلية في أيرلندا إلا نموذجاً صارخاً وطويلاً لها, كما لم يكن الصراع الطائفي والحرب الأهلية في لبنان إلا التجسيد الحي للممارسات الدينية والطائفية السياسية السيئة. وفي عراق ما بعد سقوط صدام حسين تجلت هذه الظاهرة بأجلى أشكالها, إضافة إلى عنصريته المقيتة. وهي اليوم وبعد مرور ست سنوات على سقوط البعث تتجلى الطائفية في العراق بأقبح صورها بؤساً وفاقة فكرية وأسوأ مظاهرها عداءً وكراهية وأشدها فرقة للصف الوطني وإساءة للوحدة الإنسانية بين البشر, إنها تتجلى اليوم في العراق, هذا البلد المتعدد القوميات والمتنوع الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية, وهي الوجهة التي جرَّت وستجَّر على العراق المزيد من الكوارث والمآسي أن تواصل خطاب المرجعيات الدينية على هذا المنوال العقيم والمؤذي الذي تحدث به صدر الدين القبانجي في 27/5/2009 في النجف.

لقد شخصنا منذ سنوات وبعد سقوط النظام بأن الحوزة الدينية في النجف ومرجعياتها المتعددة تمتلك خطابين أحدهما عام يمارس على مستوى الشعب عامة, وهو خطاب يبدو فيه الاعتدال, والآخر خاص يتميز بالتطرف ويمارس وينفذ عبر القوى والأحزاب السياسية الشيعية المرتبطة بالحوزة الدينية الرئيسية التي يتربع على عرشها السيد علي السيستاني. وإذا كان الخطاب العام هو المعروف للعراقيات والعراقيين, فأن الخطاب الخاص داخلي ولا يكشف عنه إلا في الملمات, وحين تكون هناك أزمة في الصف السياسي الشيعي أولاً, وحين يكون هناك تراجع في القدرة على فرض الإرادة بطرق عادية ثانياً, وحين يلاحظ بأن قوى سياسية أخرى من غير الطائفيين بدأت تنتعش وتستعد لجولات نضالية من أجل الهوية الوطنية وليس من أجل الهوية الطائفية الضيقة والمثيرة للفرقة والصراع والنزاع ونزيف الدم ثالثاً, وحين تكون البلاد على وشك إجراء انتخابات عامة يراد منه توحيد الصف الشيعي السياسي الطائفي رابعاً, وحين يتزايد الضغط الإيراني على الحوزة الدينية بصيغ شتى لصالح تكريس الطائفية السياسية اللعينة في العراق خامساً. وفي مقال لي قبل فترة غير قصيرة أشرت إلى أن الأحزاب السياسية الشيعية في العراق في الغالب الأعم, ليست سوى طيارات ورقية خيوطها بيد المرجعية الدينية. وهذه حقيقة برهنت عليها الحياة ومن يخرج عن إرادتها يواجه بعين غاضبة ونتائج غير طيبة وأحياناً مدمرة. فلم يكن مقتدى الصدر في تطرفه العسكري, والجعفري في تطرفه الطائفي وفسح المجال للطائفية الشيعية أن تسيطر على أجهزة الدولة العسكرية والسياسية, والمجلس الأعلى في سلوكه المزدوج بين بدر والسياسة ولكن بتوجه طائفي مقيت, بين ممارسة سياسة العصا والجزرة, وبين تجميع المزيد من الثروات والأراضي وقوة النفوذ والتسلط , سوى توزيع أدوار معينة لا يخلوا من صراعات ذاتية وشخصية حول المناصب والزعامة والرغبة في فرض القوة والحصول على التأييد المطلق من المرجعية, رغم أن المرجعية لا تمنح الدعم المطلق لجهة واحدة من قواها بل لأكثر من واحدة وهي أشبه بسياسة "شد وحل" بين هذه القوى والأحزاب السياسية.

لم تكن المرجعية الدينية, ومن يمثلها في المحافظات وفي النجف ذاته ومنهم القبانجي, بعيدة عن مجمل التحولات التي جرت في العراق منذ سقوط النظام, سواء بتعجيل الانتخابات قبل استتباب الأمن, أو المطالبة بوضع دستور عراقي يتسم بالطائفية قبل التيقن من تطور وعي الناس وقدرتهم على التحكم بإرادتهم الحرة وإدراكهم لأهمية وخطورة ما يقومون به وما يحمله الدستور لهم من أجواء قادمة...الخ. لقد تحكمت بطريقة استثنائية في الوضع, وتحول پاول بريمر إلى أداة غير مباشرة لتنفيذ الوجهة الطائفية في العراق, مع قناعة معينة تامة لدى الإدارة الأمريكية بأن هذه الفرقة الدينية والطائفية في العراق مفيدة للولايات المتحدة في حينها "فرق تسد", ولم يستطع بريمر ولا جورج دبليو بوش إدراك أضرار تلك السياسة على الولايات المتحدة ذاتها في المستقبل حين تتداخل الأجندات العراقية الإيرانية وحزب الله في لبنان في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أن الوضع لم يصل إلى هذه الدرجة من التدهور في الوقت الحاضر, إلا أن اتجاهات التطور غير واضحة حتى الآن والاحتمالات عديدة ومعقدة, ولم تظهر سياسة المالكي بأبعادها الفعلية حتى الآن, إذ أنه لا يزال ينسق مع السيد السيستاني, الذي كشف ممثله عن عورة السياسة الطائفية التي تسعى إليها المرجعية بحسب رأي القبانجي, المتحدث باسم المرجعية وإمام الجمعة في النجف.

ويبدو أن ناقوس الخطر قد دق في الحوزة الدينية في النجف حين ارتقى صدر الدين القبانجي, إمام الجمعة في النجف وممثل السيد على السيستاني, منبر الخطابة في الملتقى الشهري "لأساتذة وفضلاء وطلبة الحوزة العلمية والذي حضره جمع غفير منهم" كما جاء في التقرير المنشور في موقع صوت العراق، مؤكداً أولويات الشيعة في العراق:

1. الأولوية الأولى: تثبيت اصل النظام الإسلامي وحق الإمامة للإمام علي(ع).

2. الأولوية الثانية: إن الحاكمية في العراق هي لأهل الشيعة, أي المحافظة على حقوق الأكثرية، مضيفاً: شيعة أهل البيت في العراق تمثل الأكثرية، ومن حقنا أن يكون الحكم وتكون الحاكمية لشيعة أهل البيت، وأكد: إن الدفاع عن حق الأكثرية هو دفاع عن النظام الدستوري, .. وحاكمية الشيعة في العراق أصلٌ لا نتنازل عنه.

3. الأولوية الثالثة: إن الحوزة العلمية هي المسؤولة عن حماية هذه التجربة السياسية الجديدة، ومن ثم تكون هي المسؤولة عن حماية حق الأكثرية، وهي القادرة على كسب رأي الناس، فالمرجعية الدينية إذا قالت(لا) فالناس يقولون(لا).

4. الأولوية الرابعة: لا يمكن تحقيق ذلك إلا بوحدة البيت الشيعي. بدون وحدة البيت الشيعي لا ننتظر حاكمية، مشيراً إلى أن آليات الحاكمية هي أن الأكثرية في البرلمان هم الذين ينتخبون رئيس الوزراء فلا بد من تحقيق الأكثرية، ولكن أيضاً لا تكفي الأكثرية العددية، قائلا: نحتاج إلى أكثرية متحدة متحالفة مؤتلفة ويكون رأيهم رأي واحد، وهذه الأكثرية تستطيع أن تحقق(نصف+1)، مشيداً بدور المرجعية الدينية العليا في العراق وإنها هي التي بدأت مشروع الائتلاف ورعته، ثم بدأت التجربة تأخذ خطواتها البعديّة بما في ذلك من تجارب وأخطاء ونجاحات.

5. الأولوية الخامسة وأهميتها تنبثق من الألوية الأولى , وهي الشعور بتهديد الحاكمية الشيعية في العراق, إذ قال: إننا نواجه تهديداً حقيقياً لحاكمية الشيعة في العراق ولهذه التجربة السياسية الجديدة، فكثير من الدول أغاضها ذلك ويريدون أن يقلبوا لنا ظهر المجن ويسلبوننا هذا الحق، موضحاً إلى أننا بحاجة إلى تكريس وتعزيز ثقافة حق الشيعة في الحكم، لتبقى هذه القضية بديهية على مرّ السنين وهي أن الحاكمية في العراق هي لشيعة أهل البيت، مع الحفاظ على حقوق الآخرين.

وعلينا أن نتذكر هنا بأن التنسيق بين الأحزاب الشيعية قد بدأ بمبادرة من الدكتور أحمد الجلبي وبرعاية وتأييد السيد السيستاني حيث تم ذلك بتشكيل ائتلاف البيت الشيعي أو الائتلاف الوطني العراقي منذ سنوات. ثم غادره الجلبي غير مرغوب فيه.

بهذه الأولويات ظهر لنا الوجه غير المشرق للسيد القبانجي الذي كشر عن أنيابه دفعة واحدة معبراً عن رأي المرجعية, إذ أن البلاد تقترب من الانتخابات العامة والخشية من فقدان الأحزاب الإسلامية السياسية الطائفية للأكثرية في المجلس النيابي وعلى الحكم. إن المرجعية على لسان ممثل السيستاني تريد تكريس الطائفية في العراق كنظام سياسي لا يعتمد مبدأ المواطنة في الحكم بغض النظر عن مذهبه ودينه وقوميته, وبمدى آهليته وقدرته ومواطنته العراقية, بل بالطائفة التي ينتمي إليها وبمدى إخلاصه للطائفية السياسية وممارسته لها بقوة, كما هو جار منذ سنوات حيث تحولت الوزارات العراقية إلى خنادق للقوى الطائفية, شيعية وسنية. وهذه حالة مخالفة كلية لأي نظام مدني ديمقراطي ومقاطعة حقيقية للائحة حقوق الإنسان الدولية وكل اللوائح والمواثيق الدولية بهذا الصدد. حتى نظام صدام حسين لم يعلن صراحة عن طائفيته, ولم يجرأ على ذلك, ولكن المستبد الجديد صدر الدين القبانجي يسعى إلى ذلك ويريد فرض الأولويات التي تقود إلى المزيد من الاختلاف والخلاف ابتداءً من أول أولوية إلى آخرها التي هي ليست أقل أهمية من الأولى بالنسبة للقبانجي والمرجعية. إنها مواقد للصراع والنزاع والموت.

إن علينا, نحن العراقيات والعراقيين, أن درك ما يطبخ لنا في مطبخ المرجعية الدينية وبعض أبرز الأحزاب الإسلامية السياسية والمخاطر الجديدة التي تنتظرنا, وأن نرفع راية النضال ضد هذه الوجهة الطائفية المقيتة في الحكم, فلا نريد حكماً للمذهبية الشيعية أو المذهبية السنية أو أي مذهبية أخرى, بل نريد حكماً وطنياً بهوية وطنية عراقية بهوية المواطنة العراقية غير المقيدة بمذهب أو دين معين, فالوطن للجميع والدين لله. نريد نظاماً يحترم كل الأديان والمذاهب ولا يتعرض لها, ولكن يمارس حكماً وطنياً لا يخضع لدين أو طائفة بل لدستور مدني ديمقراطي حر.

إن القبانجي الذي كشف عن وجهه الطائفي المريض يريد للعراق أن يكون مريضاً مثله ومماثلاً لما حصل ويحصل في إيران من نظام طائفي شمولي مقيت ومرعب, وهو ما يفترض أن نرفضه ونناضل ضده.

إن تنسيق الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية مع المرجعية هو في غير مصلحة العراق, وبالتالي فهي تسير وفق وجهة لا تخدم وحدة النسيج الوطني العراقي بل تفرقه وتدفع بالبلاد إلى مزيد من الصراع والتطرف. إن خطاب القبانجي, كما ورد في موقع صوت العراق بتاريخ 27/5/2009, هو طامة كبرى, هو كارثة حقيقية, كما يجسد المأساة والمهزلة في العراق في آن واحد, وسوف لن يختلف الأمر كثيراً عما كنا عليه سابقاً ولكن بصورة مقلوبة والحصيلة واحدة.

إن القبانجي يلعب على أوراق خاسرة عل المدى البعيد, ولكنه يلعب على أوراق برهنت الحياة على سلبياتها الحادة خلال السنوات المنصرمة وعلى عواقبها الكارثية بالنسبة للشعب العراقي, وأنه يلعب على ورقة الجهل والأمية والبؤس الفكري والاستبداد والقسوة والتطرف الطائفي الذي خلفه لنا نظام صدام حسين في العراق, وعلينا مواجهة هذا التطرف الطائفي للقبانجي والأهداف التي أعلنها القبانجي باسم الحوزة والمرجعية الدينية التي يمثلها أيضاً, تماماً كما قاومنا قبل ذاك تطرف نظام صدام حسين. إن القبانجي يريد بخطابه هذا توتير الأجواء ثانية من أجل المزيد من الاستقطاب والتخندق الشيعي ضد السني ليحصل على النصف+1 , كما أنه يريد هذا التخندق ليمنع الديمقراطيين والعلمانيين واللبراليين في الحصول على أصوات المواطنات والمواطنين من الشيعة والسنة. إنه الهدف المثير للاشمئزاز الذي يسعى إليه القبانجي. إن من الحكمة بمكان أن يرفض السيد رئيس الوزراء نوري كامل المالكي هذا التوجه, إن كان يقف حقاً ضد الطائفية السياسية والتمييز الطائفي أو إقامة حكم طائفي التي يعلن عنها دوماً في الفترة الأخيرة, كما يسعى إليه القبانجي والمجلس الأعلى ومن لف لفهما في العراق. إنه الغاية الإيرانية التي يفترض أن نتصدى لها ويمنع حصولها في العراق, لأنها تثير الأحقاد والكراهية وتشعل محارق وتعيد وقوع مجازر جديدة وتمرر ما سعى إليه الإرهابيون من إشعال حرب أهلية شيعية-سنية في العراق.

28/5/2009 كاظم حبيب
Opinions