الصحافة الاشورية ودورها في تجديد الهوية القومية
تلعب الصحافة دوراً هاماً وفعالاً في تجديد هوية وفكر الشعوب، فهي المرآة التي من خلالها تعكس وتجسد افكارها وممارستها اليومية من سياسية واجتماعية وفكرية وأدبية وغيرها، وساهمت في بناء وتطوير الفكر الانساني عبر الازمان واتخذت اشكالاً تلائم تطوره وتفاعله مع الاحداث واخذت تدون تلك الاحداث والممارسات بطرق بعضها اتخذ شكل الصحافة في عهد الامبراطورية الاشورية وخصوصاً فيما يتعلق بالامور العسكرية وكتابة الرسائل الخبرية التي تتضمن خطط واوامر عسكرية وشارات النصر وبالاسلوب الخبري المتناقل على شكل رسائل شفوية في بدايتها ثم مكتوبة استطاعت تغطية الاخبار والاحداث وصورت المشاهد والمعارك العسكرية ومتابعة الأمور في كافة الاقاليم التابعة للامبراطورية وربطها مباشرة بالعاصمة الاشورية، كذلك الرسائل الملكية المتداولة بين الملوك واخبارهم وعلاقاتهم والتي اشتغل في تدوينها عدد كبير من الكتبة واصبحت احدى اهم الكتابات المدونة، بالاضافة الى الوثائق والمستندات المتعلقة بالتجارة والتي كانت تساهم في ترويج البضائع على شكل اعلانات داخل اسواق الامبراطورية، وغيرها من الاساليب المتبعة في نقل وتدوين الاخبار والمعلومات.يمكن اعتبار الفترة التي تلت سقوط الامبراطورية الاشورية الى حين صدور اول صحيفة اشورية ( زىريذا دبىرا ) زهريري دبهرا في مدينة اورميا في تشرين الثاني عام 1849 م، بالفترة المظلمة بالنسبة لتأريخ الصحافة الاشورية حيث لم يلاحظ في هذه الفترة أي نشاط صحافي ملحوظ ودخلت في سبات طويل بسبب الاضطهادات الدموية والكوارث التي حلت بشعبنا وخصوصا حالة التشتت وتركهم لديارهم ووقوعهم تحت نير وعبودية الاستعمار.
ظلت حالة الصحافة في ركود لحين بزوغ فجر اشعة النور (زىذيرا دبىرا) التي ساهمت بشكل فعال في اغناء وتطوير الصحافة، وولدت النور في احضان امتنا مخترقة الظلام وسط ظروف معقدة لتروي ظمئ الاجيال الصحافية وتصبح رائدة الصحافة الاشورية.
زهريري دبهرا.. نقطة البداية :
لم تعان امة من التشتت والاضطهاد والتعسف مثلما عانت امتنا بدءاً من سقوط كيانها السياسي وما الحقه الفرس والرومان من تخريب الحضارة في الشرق ،حيث طوت صفحة من اروع صفحات الحضارة.
هناك عوامل خارجية وداخلية لعبت دورها البارز في تأجج المشاعر القومية واستعجلت في نمو الوعي القومي بعد مرحلة سبات طويلة . تمثلت في اصدار اول صحيفة اشورية (زهريرى دبهرا ) وثاني صحيفة في منطقة الشرق الاوسط عام 1849. تكمن العوامل الخارجية في الضغوطات التي تعرض لها شعبنا ابان تقبله العقيدة المسيحية كمعتقد يرتكز عليه في ايمانه مما اثار صخب الفرس اثر اعلان الرومان المسيحية ديناً رسمياً للدولة ووقوع شعبنا على ساحة الصراع بين الامبراطوريتين الفارسية والرومانية وأصبحت مسرحاً للعمليات العسكرية وامسى شعبنا ضحية تلك السياسات والممارسات. دخلت امتنا في مرحلة شلل طويلة لم تشهدها من قبل مزقت الكيان الاشوري وجزأته الى وحدات صغيرة متباعدة لا تملك المقدرة على النهوض والاتحاد رغم كثرة المحاولات الجادة من قبل ابنائها ومساهمتهم قي اغنائهم الحضارة والثقافة الانسانية.
اما العوامل الداخلية فهي مرتبطة بضعف الوعي القومي الاشوري لافتقاره الى مؤسسات سياسية وثقافية نتيجة الواقع الجغرافي الممزق وتوزيع المدن والقرى في مناطق منعزلة وبعيدة، وكذلك الواقع الديني المنقسم الذي عاشته الكنيسة نتيجة الانشقاقات التي ولدت طوائف دينية مرتبطة بعضها باطراف ونزعات خارجية بعيدة عن التيار القومي، ولدت حالة من الفقر السياسي والثقافي في الوسط الاشوري وسيطرت النزعات الطائفية والعشائرية والمناطقية ( الجغرافية ) في بعض الاحيان المجردة من النظرة الواقعية وبالتالي ابرزت هذه النزعات تسميات عديدة لشعب واحد نعتز بها كتسمياتنا القومية والدينية والجغرافية والمتوارثة عبر الاجيال.
جاءت ولادة زهريرى دبهرا الصحيفة الآشورية الأولى كالشعاع وسط ظلام دامس حيث زينت الصفحة الأولى من العدد الأول بالعبارة المستوحاة من سفر اشعيا ( حينئذ ينبلج كالصبح نورك ) ومعه اضاءت منذ صدورها درب الأجيال القادمة واضحت الصحف الآشورية من بعدها بالصدور الواحدة تلو الأخرى. جاء ميلاد الصحافة الآشورية، بداية انبعاث الأفكار القومية، واحياء حركة التجدد القومي الآشوري في الثقافة واللغة، جاء ليؤكد من جديد نهج الأبناء للآباء واصدرت باللغة الآشورية ولأول مرة وبمواضيع هامة وخصوصاً فيما يتعلق باحياء التأريخ الآشوري ونشره وكذلك احياء اللغة الآشورية ونشرها ورفع شأنها بين سائر اللغات، بالأضافة الى ايصال الفكر القومي الاشوري ونهجه ونظرته الواقعية للحياة الى شعوب المنطقة وخصوصاً المتعايشة معه مما اضفى عليه النهج الوطني الواقعي في تعامله مع الأحداث وتغطيتها، ونقطة البداية التي انطلقت منها زهريرى دبهرا تكمن في ترسيخ الوعي القومي بين ابناء شعبه وتجديد الروح الثورية والنهج القومي التقدمي في معالجة قضايا شعبنا وبناء واقامة العلاقات الثقافية والتعامل الفكري مع السياسات والأحداث بواقعية اتاح لها الأستمرار والنجاح في صدورها رغم ظروفها الصعبة والمعقدة، وساهمت في اغناء الثقافة الآشورية ووضعت الحجر الأساس الذي منه انطلقت الصحف والمجلات الأخرى، واعتبرت بذلك رائدة الصحافة الآشورية بعد ان تجاوزت نقطة الصفر بكل المعايير وعلى كافة الأصعدة ووضعت البناء السليم الذي ارتكزت عليه الصحف من بعدها واستمرارها في الصدور الى اليوم.
الصحافة والتجديد في اللغة والاسلوب :
رافق مسيرة الصحافة الاشورية التجدد والانبعاث في الافكار واللغة منذ نشاتها الى اليوم، حيث نجد على صفحات زهريرى دبهرا بساطة الاسلوب المرسل في مخاطبة الجماهير وسلاسة اللغة المكتوبة واستخدامها لمفردات لغوية بسيطة تساعد القارئ على فهمها بسرعة لكونها المرة الاولى التي تصدر، وقد انعكست على صفحاتها سمات وثقافة المجتمع الاشوري الذي ولدت في احضانه وهي سمات تتصل بمدى التطور الثقافي المعتمد على قوة المؤسسات القومية والتعليمية التي بدأت بظهور الصحافة تتجدد ويزداد نشاطها وبدأ كتابها وأدباؤها يظهرون مقدرتهم الادبية على الكتابة وظهور المراكز والمؤسسات القومية والادبية التي ساهمت في وضع الركائز الاساسية في اللغة والقواعد، وتطور الاساليب الكتابية وازدياد عدد الصحف الصادرة بالوان ادبية مختلفة تطورت مع تطور الادب والفن والسياسة وغيرها.
ان قراءة متأنية في الصحف الاشورية بدءاً من زهريرى دبهرا الى اليوم، نجد اسلوب التجديد والمعالجة والتوعية ظل يرافق صحافتنا ويتطور ويواكب العصر وتقدمه، وظلت الصحافة المرشد الروحي لشعبنا في معالجة قضاياه الداخلية والخارجية وبناء الانسان الاشوري وازدهاره وتقدمه وبما يلائم مكانته بين اشقائه من ابناء الوطن، واليوم وبعد مرور مائة وخمسون سنة على صدور زهريري دبهرا فقد نجد الروح التجددية التي اتسم بها مقالها الافتتاحي تحت عنوان:
( الثقافة .. المدارس): تتحدث فيها عن المدارس كمؤسسات ذات اهمية كبرى لها الدور الفعال في حياة الامم، التي توليها الاهتمام الاوفر حيث ان غيابها يسبب خللا في بناء حياة المجتمعات. وتؤكد الافتتاحية بان التعليم هو عصب الحياة للافراد والشعوب يجدد العقل وينمي مواهب الانسان وقدراته الذاتية، مثلما تحتاج الغرفة المظلمة الى النور. كما صدرت في الوطن صحف أخرى وتحت ظروف صعبة من القهر والاستبداد امتازت باسلوب ادبي ولغوي متطور تنافس مثيلاتها من الصحف على صعيد الوطن، فنجد التجدد في استخدام المفردات اللغوية وتنقيتها من المفردات العامية الشائعة وساعد ذلك على تطور اللغة واسلوب الكتابة ولو بشكل بطيء وكذلك اتساع دائرة مشاركة النخبة المتعلقة بالحياة السياسية والثقافية والاجتماعية وبروز اقلام صحفية جديدة وشابة رفدت الصحافة باسلوبها المباشر وتبسيط الافكار واللغة.
صحافتنا والفكـر القومـي
تركت الصحافة الاشورية بصماتها الواضحة على سير خط الفكر القومي الاشوري وانمائه وتجديده وانبعاثه وسط الايديولوجيات القومية الاخرى وخصوصاً المتعايشة منها في الوطن وابراز الجوانب الحية من تراثنا وتأريخنا وعقيدتنا وعلى كافة الاصعدة وفي كل الظروف، وبرغم ما تتطلبه حركة الفكر القومي من مستلزمات ضرورية للنهوض وبناء نهج وطني تقدمي من مؤسسات ثقافية واجتماعية وقومية وغيرها، ورغم وجودها كانت تتصف بالنحول وتحكمها ظروف خاصة وافكار تشل مقدرتها على العمل والعطاء نظراً لما احاط بها من ظروف وعوامل كما اسلفنا داخلية وخارجية وارتباط مؤسساتها مباشرة بتلك العوامل من تبعية وطائفية ومناطقية لم تهيئ الارضية الكاملة لبناء فكر قومي اشوري واقعي تقدمي على ارض اجداده الى السنوات الاخيرة من الربع الاخير من القرن العشرين، مما جعل الفكر القومي يعيش وينمو ببطء، حتى اودى الامر الى خلق حالة من اللاوعي القومي لدن ابنائه وغياب دور المؤسسات وخاصة القومية ووقوفها وقف المتفرج والبعض منها مرتبط بعدم شعوره بالانتماء الى العمل القومي والبعض الاخر اصبح تحت وصاية الكنيسة واهدافها واخرون وقفوا موقف المتفرج خوفاً على مصالحهم، بذلك اصبح الفكر القومي في خطر يهدده من كل جانب لولا دور الصحافة صاحبة الشأن الكبير في تجديد الفكر القومي وانماءه على الساحة الاشورية، اولا وعلى الساحة الوطنية والدولية ثانياً، فبرزت الصحافة من كل جانب لتؤكد نهج شعبنا الصحيح وفكره الواقعي وطموحه في العيش بحرية وسلام مع اشقائه من ابناء الوطن ويعلن استعداده للمشاركة في احياء المسيرة الثقافية والانسانية كما فعل اجداده بناة الحضارة بالأمس، ومع كل خطوة خطتها صحافتنا كانت الحاضرة عبر الزمن والظروف الملائمة لتغطية الاحداث ونشر الفكر القومي واعادة الحياة الى الاقلام والعقول الاشورية الجبارة المعتمدة على الامكانات الذاتية واستطاعت ترسيخ الامال في الاجيال ليحملوها عاليا منذ تاسيس اول صحيفة عام 1849 م. التي حملت المواضيع الخاصة بالمجتمع الاشوري من اجتماعية وثقافية وفكرية وفنية وغيرها وتغطيتها للاخبار والاحداث على الساحة الاشورية والعالمية شأنها شان الصحافة العراقية والعربية رغم امكانياتها المحدودة سواء المادية او حقوق الاصدار والطبع والنشر، فكثير منها لم ير النور في الوطن بسبب واقع الاضطهاد من قبل الحكومات المتعاقبة على الحكم والى اليوم لا زالت حقوق الصحافة وغيرها من الحقوق السياسية والثقافية مهضومة، رغم ذلك تمكنت من ان تشق عقول المفكرين والمثقفين من ابنائها وساهمت في دعم ورفد واحياء الوعي القومي عن طريق بناء المؤسسات القومية والاجتماعية وازدياد عدد المطبوعات من الصحف والمجلات والكتب ونشر الوعي القومي عن طريق الندوات الثقافية والحوارات وغيرها من الطرق التي كانت عاملاً مهماً في تأجيج المشاعر القومية وظهور الحركات القومية والسياسية سواء في الوطن او في المهجر، وتصل بصوتها ومخاطبتها عقول المفكرين والمبدعين من الأشقاء في الوطن لفهم واستيعاب قضيتنا القومية ودورها في بناء عراق ديمقراطي تعددي تعيش تحت ظله كل فئات الشعب العراقي.
صحافتنا والتغير الثقافـي :
للثقافة مفاهيم وتعاريف عديدة كلها ترفع من شأنها وتضعها بالدرجة الاولى وفوق كل اعتبار، حيث تمثل رصيد الامة من المعلومات في كافة المجالات وتتغلب على عاملي الزمان والمكان، فهي أي الثقافة تلازم الانسان وحضارته وتطوره ويتفاعل معها وبما يخدم ومسيرة مجتمعه والانسانية جمعاء، وشعبنا من اوائل شعوب الارض الذي اعتنى بالدرجة الاولى بالثقافة ووضع اللبنات الاولى للعلم والثقافة ووصلت في عهده الى اوج مراحلها حيث انتشرت العلوم والفنون والاداب والاختراعات واضحت مكتبة اشور بانيبال اشهر مكتبة في التاريخ التي لا زال العلماء يعتمدون على معلوماتها في مجالات عديدة، ورغم الكبوات التي لحقت شعبنا الا ان للثقافة الاشورية كانت لها مكانتها الرفيعة حتى بعد سقوط الكيان الاشوري حيث ظهرت جامعات ومدارس واسماء اعلام اشورية احتلت مراتب عالية في الدول التي كانت تحكمها وساهمت في نشر الثقافة والعلوم الاشورية وترجمتها الى لغات عديدة.
لقد نشأت الصحافة الاشورية في وقت كانت حركة الثقافة في امس الحاجة للخروج من حالة الشلل التي رافقتها فترة طويلة بفضل الظروف القاهرة التي المت شعبنا وشلت حركته، فكانت ولادة الصحافة بمثابة ولادة الثقافة واحيائها بالنسبة لمجتمعنا لدورها البارز وموقفها الجرئ في الوقوف عند الاحداث وتحليلها وتوضيح الحقائق المتعلقة بهضم حقوقنا السياسية والثقافية وحتى ابسط الحقوق الانسانية، وخاصة بعد ان اسيء الى قضية شعبنا واتهامها بالعمالة والتجسس من قبل انظمة الحكم الدكتاتورية في العراق، وكذلك ظهور المقالات السياسية والتاريخية والاجتماعية والادبية التي لعبت دورها البارز في تطوير الوعي الثقافي والاجتماعي والقومي والوطني خصوصاً عند الطبقة المثقفة مما خلقت حالة من الغليان في اوساط الطبقة المثقفة وشجع على قيام حركات سياسية وادبية ومؤسسات اجتماعية وقومية ارتكزت على الجانب القومي وابراز السلبيات الداخلية ومعالجتها وكذلك بروز الجانب الواقعي في الفكر الشبابي ومحاولته معاصرة الفكر العالمي والتطلع الى الامام بنظرة فاحصة ودقيقة وعلمية ، كما وظهرت العديد من الاقلام الصحافية منذ نشاتها الى اليوم اتاحت للانسان الاشوري فرصة للاطلاع عن قرب على الثقافة والموروث الاشوري وواقعه الحالي ودوره في خدمة المسيرة الانسانية .