العراق وأمريكا، نحو علاقات متكافئة وقوية
دشنت زيارة رئيس الوزراء العراقي، السيد نوري المالكي، إلى واشنطن يوم الأحد 11 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، مرحلة جديدة من العلاقات بين الدولتين، وصفها الرئيس الأمريكي باراك أوباما "بالعلاقات الطبيعية القائمة عادة بين الدول ذات السيادة". وتأتي هذه الزيارة بمناسبة قرب انتهاء تنفيذ الاتفاقية الأمنية السابقة الموقعة بين العراق والولايات المتحدة عام 2008، في عهد الرئيس الأمريكي السابق، جورج دبليو بوش، والتي قضت بالانسحاب الكامل للقوات العسكرية الأمريكية، والأجنبية الأخرى في نهاية العام الحالي (2011). وقد وفى الأمريكان بوعودهم، وتمسكوا ببنود الاتفاقية، واحترام السيادة الوطنية العراقية.والغرض من زيارة رئيس الوزراء العراقي، كما أشرنا أعلاه، هو تدشين مرحلة جديدة من العلاقة الإستراتيجية بين الدولتين، قائمة على أسس الصداقة والتعاون في مختلف المجالات، الاقتصادية، والتربوية، والتعليم الجامعي في العراق. وقد أبرز الإعلام العراقي والعالمي نجاح هذه الزيارة، والترحيب الذي تلقاه الوفد العراقي من قبل الإدارة الأمريكية، إلا إن الملاحظ أن الإعلام العربي، وبالأخص السعودي، تجاهل هذه الزيارة، فعلى سبيل المثال، امتنعت صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية اللندنية التي تدعي أنها صحيفة العرب الدولية، عن أية إشارة إلى المؤتمر الصحفي الذي عقدهما الرئيسان العراقي والأمريكي في البيت الأبيض، ولو بكلمة واحدة، وهذا في الحقيقة دليل على النجاح الباهر للزيارة، فلو كانت فاشلة، لهللت لها الصحيفة وضخمت الفشل عدة مرات وخصصت لها صفحات، كما هي عادة الصحيفة المذكورة.
وكما في حالة الاتفاقية السابقة، يحاول أعداء العراق الجديد من الذين تم غسل عقولهم بالدعايات المضادة للغرب، في الداخل والخارج، حاولوا الطعن بالعلاقة بين العراق وأمريكا، والإساءة إليها، وإظهارها كما لو كانت معاهدة استعمارية، تريد أمريكا من خلالها نهب ثروات العراق واستعباد شعبه!! إن موقف هؤلاء ليس حرصاً منهم على سلامة وسيادة العراق كما يدعون، بل العكس، إذ إنهم يريدون الشر بالعراق، وعزله، وإبقائه ضعيفاً بللا حليف قوي، ليكون هدفاً سهلاً لأطماع دول الجوار التي تتدخل في شؤونه بكل وقاحة وصراحة. ففي الوقت الذي تتهالك فيه الحكومات العربية على بناء أقوى العلاقات الحميمة مع أمريكا، بما فيها تحالفات وبناء قواعد عسكرية في أراضيها، تعتبر هذه الحكومات أية علاقة بين العراق وأمريكا مسيئة لشعب العراقي!!.
ولكن لحسن الحظ، فقد أدركت غالبية القيادات السياسية العراقية أن لأمريكا الفضل الكبير في تحرير العراق من أبشع نظام فاشي جائر عرفه التاريخ، وتخليصه من نحو 90% من ديونه التي ورثها من النظام الساقط، والبالغة أكثر من 120 مليار دولارا، وإعفاء العراق من الكثير من تعويضات حروب صدام العبثية، والبالغة نحو 400 مليار دولار، والمساعدة في إعمار العراق وبناء أجهزته الأمنية، وقواته العسكرية المسلحة وتجهيزها بأحدث الأسلحة والتكنولوجيا الحديثة.
وهذا لا يعني أن العراق الجديد تخلص من جميع مشاكله، فهي لا تعد ولا تحصى. لذلك نود أن نذكر المسؤولين، وكل الحريصين على سلامة العراق ووحدته أرضاً وشعباً، أن يعرفوا بأن العراق الجديد ورث تركة ثقيلة جداً من المشاكل الكبرى التي تهدد مستقبله، ففي الداخل على شكل صراعات حادة وعدم الثقة بين مكونات الشعب، وفي الخارج، عداء مستفحل له من دول الجوار التي تتربص به شراً، لذلك تحاول هذه الدول استغلال المشاكل العراقية، والصراعات بين القادة السياسيين، ودعم مليشيات مسلحة، وجذب قوى سياسية معينة لها، تقدم لها الدعم المالي والعسكري لإجهاض العملية السياسية، فتارة باسم الحرص على السيادة الوطنية العراقية والعداء لأمريكا، وبتأثير من النظام الإيراني حيث يرددون هتافات إيرانية معروفة مثل (كلا..كلا أمريكا)، أو جهات أخرى راحت تصعد حمىّ المطالبة بأقلمة المحافظات العربية بغية إرباك الحكومة المركزية وابتزازها، وبالتالي ضرب الوحدة الوطنية، وتمزيق العراق إلى كانتونات هزيلة تجلب الدمار الشامل. لذلك والحالة هذه، نرى أنه ليس بإمكان الحكومة العراقية، ومهما كانت إمكانيات من يقودها، مواجهة هذه المشاكل لوحدها إلا بدعم من الدولة العظمى.
فبعد كل التضحيات التي قدمتها أمريكا لتحرير العراق، والتي بلغت نحو 4500 قتيل، وأكثر من 40000 إصابة بين جنودها، ونحو ترليون دولار من التكاليف، يحاول البعض إظهار العراقيين وكأنهم ناكرو الجميل، فبدلاً من الترحيب بالدعم الأمريكي، نراهم يتنكرون لأمريكا، ويرحبون بالنفوذ الإيراني والسعودي والتركي. نؤكد لهؤلاء أن الشعب العراقي لم يكن ناكراً للجميل، وإنما هناك شريحة صغيرة وقعت تحت تأثير النفوذ الإيراني وغير الإيراني لمصالحهم الشخصية، دون أن يدركوا مغبة أعمالهم في تعريض وطنهم إلى مخاطر كبيرة.
إن الإرث المدمر الآخر الذي ورثه الشعب من الماضي، هو ثقافة العداء للغرب، وبالأخص لأمريكا، إلى درجة أن صارت وطنية العراقي تقاس بدرجة عدائه للغرب ولأمريكا. وهذا ناتج عن تأثير الأيديولوجيات الشمولية على الشارع العراقي خاصة، والعربي عامة، في فترة الحرب الباردة، والتي لعبت دوراً كبيراً في تمزيق المجتمع العراقي والوحدة الوطنية. وقد قادهم هذا العداء إلى ظهور عتاة الطغاة الجلادين في العالم العربي من أمثال صدام، والقذافي، والأسد، إلى أن تأكد لهم أخيراً أن لا خلاص لهم من طغاتهم وجزاريهم إلا بمساعدة الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا، ولم ير الفارون بجلودهم من ظلم الطغاة ملاذاً لهم إلا في البلدان الغربية "الكافرة" و"الرأسمالية المتوحشة". لذلك فقد آن الأوان أن يتخلص هؤلاء من ثقافة العداء للغرب، ويقيموا أفضل العلاقات معه.
كما ونؤكد مرة أخرى، أن غرض السياسة هو المصالح، وإذا كانت أمريكا لم تسقط النظام البعثي الفاشي لسواد عيون العراقيين، كما يردد كثيرون، فلا نرى في ذلك ضيراً، بل كان من حسن حظ شعبنا أن تلتقي مصلحته مع مصلحة الدولة العظمى، ففي التقاء المصالح مع الدولة العظمى فرصة ذهبية لاستثمارها لصالح شعبنا.
ولذلك، فإذا تنكر المسؤولون العراقيون للدور الأمريكي، وتضحيات شعبه في إسقاط حكم البعث وإلحاق الهزيمة بالإرهاب في العراق، واختاروا الوقوف إلى جانب أعداء أمريكا، فبإمكان الأخيرة خلق المشاكل للعراق الذي لديه الكثير منها ولا يتحمل المزيد. فالعراق لا يستطيع الخروج من البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة إلا بمساعدة أمريكا. وبعيداً عن نظرية المؤامرة، إني لن استبعد أن سبب بقاء العراق في البند السابع لحد الآن، والمشروع الكويتي لبناء "ميناء المبارك" الذي يهدد بخنق المواني العراقية، والتحرشات الكويتية المستمرة بالخطوط الجوية العراقية... وغيرها من المشاكل، لن استبعد أن تكون وراءها جهات أمريكية، كتحذير منها للمسؤولين العراقيين بأن أمامهم مشاكل كثيرة لا يمكنهم التخلص منها إلا بمساعدة أمريكا، وإذا ما حاولوا اتخاذ موقف معادي لأمريكا، والوقوف إلى جانب أعدائها، فبإمكان أمريكا خلق المشاكل للعراق وعرقلة مسيرته نحو الاستقرار والازدهار. فإبقاء العراق في البند السابع يعتبر ورقة رابحة بيد أمريكا تستعملها وفق نوعية العلاقة بين بغداد وواشنطن.
ولكن، لحسن حظ الشعب العراقي، وبشعور عال بالمسؤولية، أدركت القيادات السياسية العراقية هذه الحقيقة، بأن العراق الجديد بأمس الحاجة إلى دعم الدولة العظمى، وهذا واضح من تصريحات الرئيسين، المالكي وأوباما في مؤتمرهما الصحفي في البيت الأبيض يوم 12 ديسمبر(كانون الأول) الجاري، حول مستقبل العلاقة بين البلدين، إذ قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما: "إن الولايات المتحدة والعراق سيحتفظان بالعلاقات الطبيعية القائمة عادة بين الدول ذات السيادة، وذلك بعد مغادرة القوات الأمريكية العراق نهاية الشهر الحالي". وأكد رئيس الوزراء، المالكي، التزامه بشراكة دائمة مع واشنطن، وجدد رغبة حكومته في أن تستمر الولايات المتحدة في تدريب القوات العراقية وتزويدها بالمعدات، إلى جانب التعاون الأمني والمعلوماتي في محاربة الإرهاب. ودعا الشركات الأمريكية إلى الاستثمار بالعراق والمشاركة في إعماره. وهذا دليل على أن المالكي يأخذ قراراته وفق ما تمليه عليه مصلحة العراق، وليس بما تأمره إيران كما يدعي أعداء العراق الجديد الذين يشيعون باستمرار أن معظم السياسيين الشيعة هم عملاء لإيران، بل وراح البعض منهم إلى أبعد من ذلك بوصفهم أنهم إيرانيون!!. فهذه النغمة النشاز ليست جديدة، إذ بدأت منذ تأسيس الدولة العراقية ولأغراض طائفية بغيضة، ولكنها أخذت تصعيداً غير مسبوق بعد سقوط حكم البعث الفاشي.
كما وأكد وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري، التزام العراق بشراكة دائمة مع الولايات المتحدة في المجالات كافة، فيما تعهدت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون ببقاء بلادها شريكا قويا مع العراق، والعمل معه حتى يعيد بناء نفسه كدولة ديمقراطية.
هذه هي العلاقة الإستراتيجية الجيدة التي يحتاجها العرق مع الدولة العظمى، ويتمناها المخلصون والحريصون على أمن العراق وسلامته وازدهاره. فسياسة العزل، والبلطجة في العداء للغرب التي تبناها الثورجية الطغاة من أمثال صدام حسين، والقذافي والأسد، قد أثبتت فشلها، ونتائجها المدمرة، حيث قادت شعوبهم إلى الكوارث. وقد آن الأوان لكل من يريد الخير للعراق حقاً، ومازال يعتبر الوطنية تقاس بدرجة العداء للغرب وأمريكا، أن يعيد النظر في حساباته، ويتخلى عن أفكاره الخاطئة التي جلبت الدمار للعراق وللمنطقة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
عنوان المراسلة مع الكاتب: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com
الموقع الشخصي: http://www.abdulkhaliqhussein.nl/
فيديو ذو علاقة بالمقال:
المؤتمر الصحفي المشترك للرئيس أوباما ورئيس الوراء المالكي يوم الإثنين 12/12/2011
http://www.whitehouse.gov/photos-and-video/video/2011/12/12/president-obama-s-press-conference-prime-minister-maliki
http://akhbaar.org/home/2011/12/120751.html