تفجيرات بغداد وأحجية المربع الأول...
لعل ما هُدِر من دماء العراقيين منذ السقوط / الاحتلال هو ما يقف وراء هذا الفهم المغلوط ، بتصوري ، عن الاستقرار الأمني ، اذ بات يربط هذا الأخير تلقائيا وعاطفيا بارطال الدم المسفوك على الخارطة العراقية وأطنان البارود المتفجر ، بل وبات يُقيم الوضع الأمني سلبا او ايجابا وفق احصائيات شهرية وسنوية عما يحصده الأرهاب من ارواح الأبرياء العزّل..هكذا وبكل بساطة صار الموت الفجائيّ ومعدلاته السنوية هو المؤشر الوحيد على استقرار البلد أمنيا!..وكأن العلة الوحيدة لاستقرار الانسان هو ان لا يموت ، اما كيف يحيا فيما لو كان من الناجين فهذا محض امتياز سابق لآوانه ، ومؤجل دائما الى اجلٍ غير مسمى...انه لمن الفقر المعرفي ، ان لا يفرق المرء او يخلط بين استقرار الشعب امنيا وبين استقرار السلطة السياسية ، بل ويتصور ان هذا الأخير كفيل بتحقيق اسمى آيات الاستقرار الأمني للشعب.. وبمثل هذا التصور سنخرج لا محالة بطامة كبرى وهي ان كل الشعوب التي ترزخ تحت سياط الأنظمة الشمولية والدكتاتورية المستقرة سياسيا بالقمع والترهيب ، بالتجويع والتجهيل والى آخر القائمة التي تمسخ آدمية الانسان.. هي شعوب مستقرة امنيا!..
ولعلي اسأل : هل كان الشعب العراقي مستقرا امنيا باستقرار نظام الطاغية صدام حسين..
وبعد زواله..هل فعلا استقر الشعب العراقي امنيا ، كما يقال ، بمجرد تراجع اعمال العنف والعمليات الأرهابية..بل هل استقرت العملية السياسية ذاتها دونما تناحرات سلطوية ومساومات إئتلافية وتحالفات شتى لا ناقة للشعب من وراءها ولا جمل ، بل كثرما تترجم الى عنفٍ دمويّ وضريبةٍ شوهاء عجفاء يدفعها المواطن العراقي واقفا على كعبيّ البؤس والذهول...
لربما التفجيرات الأخيرة التي هزت العاصمة العراقية صبيحة التاسع عشر من الشهر الجاري هي ترجمة دموية اخرى لهكذا فوضى سياسية وصراع سلطوي مريرعمره اكثر من ستة اعوام..لا سيما وان تداول السلطة عبر صناديق الإقتراع ورغم حداثة المفهوم الديمقراطي وقناعة الأحزاب والكتل السياسية بهكذا تداول، إلا انها قناعة مفروضة من الخارج بالقوة وعلى حين غرة ، وخصوصا بالنسبة لتلك الكيانات السياسية التي لا تؤمن بالشرائع والقوانين الوضعية ، والمتمرسة عادة في فنون الإتجار بالدين وتسييسه لمكسبٍ او غنيمة، والتي يمكنني ان الخص اجنداتها او مشاريعها السياسية والأيديولوجية لخدمة العراق، بين مزدوجتين " السماء لله والملك لنا " ولكنها لا تملك تغيير سنة من سنن (الزميل) بريمرعلى ارض العراق مثلما امتلكت تغيير سنة السماء...
في جميع الأحوال فأن القوى السياسية المتناحرة على السلطة لا تكف عن حراكها الوطني لتسمين العملية السياسية تارة ، والحوار السلطوي تارة ، والتحالفات المؤقتة تارتين..اما تلك الكيانات السياسية التي تراجعت قوائمها الإنتخابية وشح حصادها لأصوات الناخبين في انتخابات مجالس المحافظات بداية هذا العام ، فتتدلى احيانا بحجارة من سجيل لتحسين قشرتها الخارجية ، اذ ان اللب لا يمسه شيطان المعرفة ، الاّ انها ولضيق الوقت وقرب موعد الإنتخابات البرلمانية ، قد تتدلى ، والله اعلم ، بطن او طنين من الديناميت في شاحنة ما وكلما استوجب الأمر..فالديناميت بات ورقة من اوراق اللعبة السياسية القذرة الممولة من الداخل والخارج .. وحسب تلك الأجندة الموضوعة بين المزدوجتين اعلاه ، يبدو الديناميت ورقة مشروعة ونظيفة للغاية اذ اتاحها الرب لعباده الصالحين لتمثيله تمثيلا سياسيا على أرض الرافدين..
تعالت اصوات الشجب والإستنكار عقب التفجيرات تلك ، وهذا افضل ما يمكن فعله على المستوى الشعبي وللأسف على المستوى البرلماني والمؤسساتي ايضا..بائعة اللبن تستنكر..والبرلمانيّ يستنكر، والقياديّ المحنك يستنكر وبنفس المستوى من الدهشة والذهول.. اي اخفاقٍ هذا!، ومازل القول جاريا على قدم وساق بأن الهدف من وراء تلك التفجيرات هو تخريب العملية السياسية وارجاع العراق الى المربع الأول..ولا ادري حقيقة ما حكاية المربعات تلك ، وبكم مربع افتراضي ستمر العملية السياسية لتقف آخر المطاف وقفة ً راسخة في المربع اللا افتراضي الأخير..ذاك الذي يسمى غالبا " وطن ".. لكنني اسأل بشغف :
ما المقصود بالمربع الأول..هذا الذي تجاوزته العملية السياسية وكثر الحديث عنه اعلاميا من قبل سياسيين مخضرمين ومحللين محترفين ، ورجالات دين لا يستهان بهم..
- هل هو مربع التحاصصات الطائفية والحزبية والعشائرية..الخ.. لا يبدو لي ان العملية السياسية قفزت الى مربع الرجل المناسب في المكان المناسب على اساس الكفاءة والخبرة وبعيدا عن اي شكل من اشكال التعصب والإستعلاء العرقي او القومي او الطائفي او الأثني .. وما الى ذلك من التعصبات الأيديولوجية ومدارسها التربوية السقيمة...
- هل هو مربع الفساد الأداري ، ام اللصوصية والنهب السافر للثروات الوطنية والتسترعلى اللصوص فقط لأنهم ظرفاء.. من سرق مؤخرا مصرف الرافدين في منطقة الزوية ببغداد وهي منطقة محصنة امنيا.. آوليس للفوج الرئاسي الذي يتولى حماية المقرات الرسمية المرتبطة بمجلس الرئاسة والذي يضم رئيس الجمهورية ونائبيه ، آوليس له اكثر من ضلع في هذه الجريمة / الفضيحة على المستويين الأمني والسياسي ، هذا ما اعلنته وزارة الداخلية بعد شوط من التصريحات المتضاربة ، ومنها تضارب تصريح الوزير الذي اعلن عقب إلقاء القبض على المجرمين بأن جهات حكومية متنفذة تقف وراء الجريمة ، وتصريح الناطق باسم الوزارة ذاتها ، الذي نفى بدوره ما اعلنه السيد الوزير.. ولا ادري كيف ستتعزز ثقة الشعب بأجهزته الأمنية ليستقر مطمئنا اذا كان حماة قادته الأشاوس: لصوص.. لكن ظرفاء..
- هل هو مربع المليشيات المسلحة التي عاثت في الأرض فسادا ونبشت حتى مراقد الأئمة.. واين هي تلك المليشيات الآن وقد تم ادغامها بالقوات المسلحة العراقية وربما بالأفواج الرئاسية والوزارية ، وتغلغلت في الصلب الأمني فاصبحت محصنة اكثر من ذي قبل وبعيدة لربما عن الشبهات.. ولا اظن ان الولاءات قد تغيرت فجأة بهكذا ادغام نزل نزولا طيبا فاثلج قلوب قياداتها مثلما اثلج قلوب عناصرها التي لربما باتت تتقاضى راتبين..
- اما اذا كانت الفتنة الطائفية هي المربع الأول المقصود ..فهذا المربع مازال عائما على اكثر من موجة اقليمية ، هذا إن كان منبع الفتنة (المُهوّل اعلاميا) من الخارج الى الداخل ، وعلى عاتق السلطة السياسية بمؤسساتها الأمنية ونوافذها الدبلوماسية وعلى رأس مهماتها الوطنية، تقع حماية حدود الدولة العراقية من المتسربين بجعبة الأرهاب والفتن.. فبعد مضي اكثر من نصف عقد على انهيار نظام الطاغية ، اخشى ان الحديث عن عودة العراق الى هذا المربع لا يعكس غير اخفاق الساسة في التعرف على اولويات العمل المناط بعهدتم ، والإنشغال بقضايا لا تخدم العراق ارضا وشعبا بقدر ما تخدم المصالح الفئوية.. اما اذا كان منبعها داخليا وكانت السلطة السياسية قد تمكنت بنجاح من احتواء الفتنة وطمسها بتكاتفها مع القوى السياسية والعشائرية ، وتعاضدها مع كل القوى الوطنية ، وبجهودها الحثيثة في مجال المصالحات الوطنيه.. وما الى ذلك ، فأن الحديث عن عودة الى المربع الأول يعني فيما يعينه هشاشة المحصول الأجمالي الناجم عن تلك الجهود ومحدودية وقت صالحيته او نفاذه...
- بتصوري ، ان المربع الأول المقصود هو مربع العنف ، والفوضى الدموية التي عمت العراق من اقصاه الى اقصاه منذ عام السقوط.. ولأن الاستقرار الأمني ، ومثلما يقال ، كان قد ساد لفترة ما لإنخفاض منسوب الدم وهجوع ريح البارود ، فأن عودة هذا وذاك يعني عودة الى المربع الأول..هكذا يُساء فهم الاستقرار الأمني وكما اسلفت في المقدمة ، ويُجتث عن معناه الشمولي الذي تنخرط تحته الكثير من الملفات الأمنية المركونة الى يوم الدين ، او العالقة بذرائع بخست مع الزمن ، ومنها..الأمن الغذائي والصحي / الأمن البيئي والوقائي / الأمن الأجتماعي / الأمن الأقتصادي / الأمن الثقافي والفكري،وكل ملف يخدم الانسان العراقي اولا ويؤمن له حياة حرة كريمة لا تشوبها شائبة ، يخدم الشجر والحجر، قطرة الماء واغوردة البلبل وخضرة السهل والجبل.. اما الملف الأمني - الأمني وبشكل عام فهو جزء من كل ، ولا يؤمن بمفرده استقرارا امنيا لأي شعب ، بل قد يؤمن استقرار السلطة..والشعوب لا يقتلها البارود مهما حصد منها، ولكنها قد تقتل حية بما هو ابشع من الموت..
كان اينشتاين قد سُئل ذات مرة عن الفرق بينه وبين الانسان العادي فأجاب : الانسان العادي قد يبحث عن ابرة سقطت منه في كومة قش ، اما انا فسأبحث عن كل الأبر المحتملة فيما لو سقطت مني واحدة.. ليت ساسة العراق وقواه الوطنية تبحث بجدية وبروح رياضية عن مواطن إخفاقاتها اولا ، وكل الإخفاقات المحتملة التي آلت الى تلك الكارثة الوطنية وكل الكوارث المحتملة وسبل صدها، اما نجاحاتها وكل النجاحات المحتملة ، فهذا ما يبحث عنه الشعب العراقي بفارغ الصبر وطويل الأمل...
فاتن نور
23/08/2009