ثورة المعلومات وبركان ويكليكس
لطيف القصاب/لا تبدو قضية أكثر إثارة للنقاش في الفترة الحالية من تسريبات موقع ويكليكس الالكتروني. إنها معلومات في غاية الأهمية كماً ونوعاً وتعد محطة هامة في تاريخ العلاقات الدولية بشقيها السياسي والدبلوماسي، بل تعد تجليا بارزا لثورة المعلومات التي انتظرها العالم طويلا مثلما يرى البعض.
في حين ثمة من يعدها وثائق محدودة الاهمية ومعروفة المضامين سلفا ولا تستحق كل هذه الجلبة العالمية، فهي في غالبيتها العظمى - كما يقال - برقيات وأحاديث مجتزئة لسياسيين يفتقرون للقدر اللازم من الحنكة وبعد النظر، وفي النهاية فأن إخضاع هذه الوثائق ومصادرها لضرورات الحجب سيجد له أكثر من مسوغ أخلاقي من حيث ان بعض المعلومات المكشوف عنها او التي سوف يكشف عنها لاحقا قد تستبطن عواقب وخيمة وتنطوي على امكانية الدفع بقسم كبير من الأفكار المغلوطة، وتسويق بعض الأوهام والأكاذيب باعتبارها حقائق دامغة، وبالتالي فان محو هذا الموقع وامثاله من خريطة الشبكة الالكترونية يعد مطلبا ملحا وان ملاحقة الكاشفين عن اسرار من هذا النوع يمثل هدفا واقعيا من اهداف الحرب على الارهاب...
إن ما يساعد على الايمان بواقعية الفرضية الأولى هو تصدر هذه الوثائق المسربة للأخبار الرئيسية لأجندات وكالات الأنباء العالمية واحتلالها لصفحات اعرق وابرز الصحف العالمية وعدم إنكار مصدر الوثائق (الخارجية الأمريكية) لصحتها، فضلا عن ملاحقة مؤسس الموقع جوليان اسانج بوليسيا بجهد دولي ضخم ومن ثم الإيقاع به بسرعة خاطفة ونعته بأوصاف ليس اكبرها انه عدو للولايات المتحدة، بالاضافة الى محاولات سلب التعاطف الجماهيري معه وممارسة نوع من الحرب النفسية الدولية ضده.
بينما القول بكون معظم هذه التسريبات لم تأت بجديد، وكل ما أحدثته هو تأكيد تحريري لما كان يتناقله العوام شفهيا وانه من الافضل غلق مصادر هذه الوثائق لما قد يترتب عليه من احداث اضرار دولية، هذا القول إذا لم يكن صادرا عن ارتباك سياسي أو تبجح إعلامي فانه لا يخلو من تسطيح للقضية على نحو يشعر بان هناك إرادة ما تدفع باتجاه تهيئة الرأي العام مقدما للحيلولة دون استقبال معلومات جديدة بدعوى أنها معلومات سبق تداولها شعبيا او انها معلومات قد تشكل في قسم منها خطرا على السلام العالمي.
ولا يخفى على احد فان في بعض ما تقدم ذكره من هذا التوجه ما يكفي للفت الانتباه الى كمية الخوف الهائلة التي تنتاب اطرافا عالمية شتى ازاء احتمال ضخ المزيد من المعلومات الجديدة من فوهة بركان ويكليكس او براكين المعلومات قيد الاستحداث والتحديث.
بطبيعة الحال فلسنا هنا في وارد تنزيه هذا الموقع الالكتروني او غيره من وجود سلبيات ومخاطر لكننا ضد تهويل هذا الامر الى الحد الذي يمنح مبررات مجانية لمجابهة رواد ثورة المعلومات في نسختها الاحدث بشكل غير حضاري.
ان جميع المشكلات السياسية والدبلوماسية التي يمكن توقعها نتيجة للكشف عن المعلومات الحقيقية في علاقات الدول بعضها مع البعض الاخر قابلة بدورها ايضا للاصلاح السياسي والدبلوماسي، وستظل الفرصة متاحة امام الدول التي انكشف زيف علاقاتها مع دول أخرى بسبب هذه الوثائق للشروع بفتح صفحة جديدة مع الاخرين تكون مبنية هذه المرة على الصدق والصراحة والاحترام بدلا من الكذب والخوف أو الحياء، ولها ان تتعاطى مع جميع الأطراف التي تجاوزت عليها بالكيفية التي تشاء وان كان من الافضل لها ان تتعاطى بذات الأسلوب المحترم مع الجميع اي من غير تفريق بين كبير وصغير وقوي وضعيف، ذلك أن الصغير والضعيف ربما سيأتي عليه حين من الدهر يغدو فيه كبيرا وقويا وقد يفكر في ذلك الوقت أن يصفي حساباته القديمة عسكريا مع من كان ينظر اليه بعدائية واحتقار (دبلوماسيين).
ان مثل هذا الاقرار بالخطأ سيكون عنصرا مهما في اطار التصالح العالمي، وحتى في حال عدم الاقدام على مثل هذه الخطوة الاخلاقية الرشيدة فان سقف التوتر في العلاقات الدولية سيظل تحت السيطرة غالبا، ولن تتحول برقيات دبلوماسية مجتزئة الى كوارث عالمية كما ينذر بذلك اعداء الكشف عن الحقائق.
صحيح انه لا غنى لدور النشر والصحافة بجميع أنواعها وأشكالها التوقف مليا قبل الإقدام على الترويج للقادم من هذه الوثائق مستقبلا لكن اخذ هذا الأمر في الحسبان لا يعني بأي حال من الأحوال تبني موقف مسبق مضاد لما يصدر من هذا الموقع وامثاله بل إن العكس هو المطلوب فان زيادة المصادر التي من شانها إحاطة الناس علما بما يجري في كواليس السياسة على وجه الخصوص هو مطلب جماهيري مشروع يمثل في حد ذاته ضغطا فاعلا باتجاه شيوع مبادئ الشفافية فيما بين عموم الناس والطبقات الحاكمة، ويمثل ربحا انسانيا عظيما لا تصمد معه الاراجيف التي تحاول تصوير نشر وانتقال المعلومات الموثقة على انها نوافذ لبث السموم ومراكز لزيادة التوتر والاحتقان بين دول وشعوب العالم بل مواقع للارهابيين كما جاء على لسان غير واحد من قادة الراي الامريكيين.
انه تهويل مخيف ولكنه لن يمثل عقبة بوجه انطلاق براكين المعلومات.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث
http://mcsr.net