حركة التغيير وبوصلة النجاة
محمد علي جواد تقي/تصورت الانظمة الديكتاتورية ومؤسساتها ان الشباب العربي يغطّ في نوم عميق، يسرح في أحلامه الوردية على أنغام الموسيقى وسكرات المخدرات وفي حبائل الشبكة العنكبوتية (انترنت). فلا وعي ولا ثقافة، وإذن؛ لا قلق من جانب هذه الشريحة التي تشكل الغالبية بين سكان البلاد العربية، لكن المفاجأة كانت من تونس الخضراء، هذا البلد الاسلامي العريق، ثم في ميدان التحرير وسط القاهرة، وفي البحرين في ميدان اللؤلؤة، وبعدها في بلاد عربية أخرى، حيث ظهروا انهم ليس فقط يقظين ويميزون الخيط الابيض من الاسود، إنما يحملون معهم سلاح الشهادة الذي لا يقهر عبر التاريخ، فهم يقفون صامدين في ساحة حرب مفتوحة أمام الرصاص، كما يقفون في ساحة الحرب النفسية، التي يسعى لاثارتها الحكّام لثني الشعوب الناهضة عن مواصلة طريقها نحو القمة الفاسدة.
السؤال هنا: اين كانت هذه الشعوب طوال الاربعين عاماً الماضية من السلب والنهب والفساد العظيم الذي كان يمارسه الحكام؟ واين كانت بطولات الشباب ويقظتهم من كل هذا التسطيح والتضليل الذي مورس ضدهم؟
إن انتفاضة الشعوب العربية بينت حقيقة من جملة حقائق، ان البلاد العربية كانت طيلة الفترة الماضية، عبارة عن (نار تحت الرماد)، بحاجة الى نسمة هواء خفيفة لأن تذكو جذوة الثورة فيها وتندلع ألسن النيران نحو القصور الرئاسية وتطيح بالرؤوس الكبيرة من امثال مبارك و(زين الهاربين) والقذافي وآل خليفة وعلي عبد الله صالح وآخرين. وإذن؛ فان كل جهود الحكام من إشغال الشعوب بالإثارات الكاذبة من قبيل الرياضة والجنس والسينما والمخدرات و... ذهبت أدراج الرياح. لقد انفقوا المليارات للمزيد من كسب الوقت على حساب كرامة وحقوق الشعوب العربية.
احد ابرز الكتاب الاردنيين كتب مقالاً في ذروة الاحداث المصرية أعرب فيه عن استغرابه من وجود هذا الوعي الخفي لدى الشباب المصري، حتى أجبر نفسه لأن يقدم اعتذاره في مقاله (اعتذار كبير للجيل الصغير)، وقال سعد محيو: (ان هذا الشعب يستأهل منّا بالفعل طلب المعذرة، وحتى الغفران، اذ ان الصورة التي كنّا نرسمها له وبثقة تامة، هو انه جيل سطحي واستهلاكي وغير قارئ وغارق حتى أذنيه في الثقافة الامريكية التسليعية... بينما ما يجري الان في تونس ومصر واليمن والاردن وبقية أنحاء الوطن العربي قلب هذه الصورة رأساً على عقب، إذ تبين ان شبان الجينز والفيس بوك ومقاهي الانترنت يكتنزون زخماً ثورياً ضخماً يفوق بكثير كل الاجيال السابقة.... لكن من اين أتى جيل أولادنا بهذه الطاقة....)؟!
كان هذا الكاتب ومعه جحفل الاعلاميين العرب يتصورون انهم من يقودون زمام الفكر والثقافة، ويوجهون بوصلة التفكير في العالم العربي، لكن خاب ظنهم فقد ظهر شعور عارم بالضعة والمهانة لدى الشباب العربي المسلم دفعه لأن يأخذ بزمام المبادرة ويقرر مصيره بنفسه ويكتب ثقافته وفكره باصراره وتحديه في الشوارع ثم بدمه، لكن الحقيقة الأهم في الانتفاضات الجماهيرية أنها لن تسير دون قيادة، ولعل ما حيّر حقاً المثقفون والمفكرون العرب قبل الحكام، هو كيفية ظهور الاطار العام والقضايا المشتركة والهم الواحد لدى تلكم الجماهير الغاضبة لتنفجر مرة واحدة في الشوارع، مع عدم وجود قائد أو رمز يحومون حوله.
هذا الكاتب وغيره كثير من الكتاب والمثقفين المقربين من دوائر السلطة في البلاد العربية، لا يخفون تأثير وسائل الاتصال الحديثة على عقول الجيل الجديد ودورها في تشكيل الوعي والثقافة، وبالنتيجة تقويض كل ما بنوه خلال ثلاثين او اربعين سنة من ثقافة قائمة على الشعور القومي او الوطني مهمتها حماية كرسي الزعيم، لكنهم في الوقت نفسه لا يبدون قلقاً كثيراً على مستقبل الاوضاع، إذ الحركة تحكمها ظروف معينة، وليست ثمة قيادة واضحة ومنهج محدد للتغيير، وكان واضحاً من الايام الاولى في تونس ومصر وايضاً ما يجري في ليبيا واليمن والبحرين، إن الهمّ الاكبر منصبّ على اسقاط النظام الحاكم تحت شعار (أرحل)، لكن ما البديل...؟ هل هو ديمقراطي علماني ؟ أم ديمقراطي اسلامي؟ وهل يستبدل النظام الرئاسي بآخر برلماني كما حصل في العراق، أم يبقى النظام الرئاسي، أو يبقى الملك – مثلاً- وتكون (ملكية دستوية)؟
هذا الوضع يسمح لهذه الشريحة من المثقفين أن تسترد انفاسها وتكيّف نفسها مع الوضع الجديد، فهي لا تجد امامها نموذجاً او صورة قد تتعارض معها فتحدث المشكلة، إنما موجة احتجاجات ينتهي بتغيير في نظام الحكم.
هذا الوضع يجب ان يكون درساً وعبرةً لنا في العراق، فما حصل في البلاد العربية كان انفجاراً للارادة الجماهيرية بوجه أصنام السلطة، وفي العراق هناك ارادة جماهيرية نحو الاصلاح. واذا كانت الحاجة قصوى وحياتية لقائد ثورات التغيير في البلاد العربية ، فان الحاجة لن تقل اهمية لقائد حركة الاصلاح في العراق، علماً ان المسألة عندنا أهون وأقرب الى التحقق مما عليه الحال في البلاد العربية وفي أي بلد آخر بحاجة الى تغيير شامل، حيث تنطوي علمية التغيير على رسم مجمل ملامح البلد اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، بينما نحن في العراق لدينا الصورة واضحة الى حد كبير لكن يشوبها بعض الغموض وبحاجة الى عملية جلي لمزيد من الصقل والشفافية.
ولا ننسى أن لنا تجربة مريرة مع غياب القيادة في الانتفاضة المسلحة التي اندلعت عقب هزيمة الجيش العراقي من الكويت في اذار عام 1991 وكادت ان تطيح برأس النظام الحاكم، ويتفق معظم الباحثين في هذا الحدث التاريخي على ان غياب القائد كان العامل الأكبر في اخفاق الانتفاضة عن الوصول الى رأس السلطة، فحتى استخدام صدام للمروحيات كان من الممكن تداركها بتكتيكات عسكرية معينة لتخفيف حجم الخسائر. لا أن يتجمع الثوار في أماكن معينة أو على أرض مفتوحة ليتمكن النظام من توجيه ضرباته المؤثرة، وبذلك تمكن من القضاء عليهم قبل ان تتسع دائرة نفوذهم في الاوساط الجماهيرية.
من هنا لابد من القول: من الخطأ مقارنة ما يحصل في البلاد العربية مع الوضع القائم في العراق، فقد حصل التغيير الكبير وسقط الصنم الذي ظل قائماً طوال ثلاثين عاماً أمام انظار اشباهه من الاصنام العربية، بغض النظر عن الوسيلة والظروف التي أحاطت بعملية السقوط، ثم ان في العراق مؤسسات ثقافية ودينية ضخمة تعمل ليل نهار، وتضخ الافكار بكل حرية، والأهم من ذلك ان الظروف النفسية والاجتماعية للفرد العراقي غيرها السائدة في البلاد العربية، فحتى وقت قريب من الاحداث في هذه البلاد، لم يكن المواطن المصري او التونسي او الليبي ليجرؤ على التفوه بكلمة ضد النظام الحاكم ويناقشه ويظهر أخطائه في الصحف والفضائيات وفي مناسبات مختلفة، أو ان يقول انه قادر على ادخال هذا او ذاك الى مجلس النواب، كما هو الحاصل في العراق.
كل هذا يعود بفضله الى الرصيد الجهادي والثوري للعراقيين خلال الثلاثين عاماً الماضية. صحيح إن العراق وبسبب طبيعة نظام الحكم الدموي البائد، لم يشهد قيادة واضحة ومباشرة لتحركاته ومعارضته لنظام صدام، إلا ان المبادئ والقيم المحركة كانت تنبع من قيادات عملت بجد وتحدي طوال سنوات داخل العراق قبل ان تجبر على الهجرة، وكان اللقاء مرة أخرى في تاريخ 9/4/2003 ومن خلال عملية التواصل في اجواء (العملية السياسية) ولدت تجربة ديمقراطية هي الاولى من نوعها في تاريخ العراق الحديث.
فاذا حصلت هذه المقارنة الخاطئة وتم الامعان في التشبيه بين تحرك الشباب في مصر وتونس وبين ما جرى في العراق، فان الخطأ الأكبر والأخطر سيقع لا محالة في العراق، وهو افتقاد الشباب وهو طليعة المجتمع وأمله في أي تحول ثقافي او اقتصادي وحتى سياسي، لروحية التغيير والتنمية والتطور، وهذا الخطر – باعتقادي- يجب ان تستشعره القيادة والنخبة الثقافية في المجتمع ولا تسمح بحصول هذه النكسة في هذا الجيل الذي طالما وعدناه بدور رائد في قيادة العراق نحو التطور والتقدم.
هنا تحديداً يكمن دور النخبة الثقافية في مجتمعنا، ونخصّ بالذكر المؤسسات الدينية والخطباء والكتاب والمفكرين، كما تقع المسؤولية ايضاً على دوائر الضغط في المجتمع وفي مقدمتها اصحاب رؤوس الاموال والوجهاء الاجتماعيين كرؤساء العشائر وايضاً الاكاديميين والمهنيين، بان ينبهوا أهل الحكم بأن السكوت في العراق في الوقت الحاضر منحة وفرصة كبيرة لهم بأن يعيدوا حساباتهم غير السليمة طوال السنوات السبع الماضية، وفي هذه الفسحة الزمنية بالامكان استثمارها في دورات ثقافية مفتوحة على شكل محاضرات وندوات عامة و ورش عمل وغير ذلك، تضيء للناس طريقة إنضاج التجربة الديمقراطية والمشاركة الصحيحة في صنع القرار.
والحقيقة فاننا نمتلك الكثير من التراث السياسي والتجربة الاجتماعية في حضارة اسلامية حكمت وسادت لمئات السنين، وقد أخذ الغرب منّا الكثير باعتراف مفكريهم ومؤرخيهم. يبقى ان نحمل بعض الهمّة وسرعة المبادرة حتى تسير الامور ونخرج من هذا البحر الهائج بالتغيّرات بسلام.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com/index.htm