حكام العراق أنبياء في كتاب مقدس لا مجال لتحريف سطر فيه
عندما يتغير رئيس جمهورية أو رئيس وزراء في أية دولة ، تبدأ التكهنات والتنبؤات بالانطلاق حول الأسلوب الذي سيسود في الحكم للفترة القادمة بناء على سياسة الأحزاب المنتصرة وعلى رأسها رمز الانتصار الذي سيشغل الواجهة السياسية للبلد أيا كانت تسمية موقعه . ومع استمرار الطاقم الجديد في الحكم لن يجد المتابع تغيرات جذرية كبيرة تطرأ على البلد المعني ، لأن الوزارات تظل مستقرة على حالها حتى لو اختلف الوزير . وهكذا بالنسبة لاتجاهات عديدة في سياسة الدولة تدخل ضمن إستراتيجية طويلة الأمد ربما لا يحق حتى لرئيس الجمهورية ذاته تغييرها لأنها تمس مصلحة البلد العليا وحقوق المواطنة والكثير من النقاط الأخرى التي تضعها دساتير الدول الديمقراطية في خانة الثوابت التي لا يجوز مطلقا التجاوز عليها من أية جهة كانت . فالديمقراطية ربما تعني في تلك الدول حق الشعب في التغيير والتعبير والإصلاح ولكنها لا يمكن أن تتمادى وتنحرف لتشمل الإقصاء والتهميش والاجتثاث بدعوى نجاح الأغلبية الساحق أو وصول الأقوى إلى سدة الحكم كما يحدث في العراق عادة . وهي تختلف بالتأكيد عن تلك التي يمارسها اليوم السيد مقتدى الصدر أو طارق الهامشي في التهديد بتعليق عضوية الكتلة في البرلمان وتنفيذ التهديد والتراجع عنه بين كل ليلة وضحاها ، لا يمكن أن تقارن بديمقراطية أوربا بل هي أشبه ما تكون بألعاب الكترونية مسلية لا يعرف من يمارسها أن الأمر ليس مجرد ضغط على الأزرار ، بل أمام قبة البرلمان هناك عاصمة مشتعلة بالعنف وعلى مسافة كيلومترات فقط مناطق لا تعترف بسلطة ذلك البرلمان الأضحوكة . ولكن الديمقراطية عندما وصلتنا للأسف أصيبت بداء عضال كان مستشريا في البلد قبل وصولها وأستمر يعيش معنا ومع ساستنا وحكامنا حتى بعد ما أطلقنا عليه التغيير في العراق . ويبدو أن تصرفات حكامنا هي سنة ضمن كتاب مقدس لا يفكر أي عراقي يصل إلى السلطة في تعديله أو أعادة صياغته وفق معايير الديمقراطية العالمية أو حتى تحريفه لو أقتضى الأمر ذلك. كتابنا المقدس يروي بأنه في البدء ، وهذا ما يهم جيلي على الأقل من التاريخ المعاصر ، كان صدام ولأن كل قائد عظيم جبار يحاول البحث عن أسوار بشرية تحميه من شعبه الرعاع هذا طبعا في أنجيلنا السياسي فقط فهو يسعى بعد الخطوة الأولى إلى التنعم بأمان السلطة في بلد زخر تاريخه بالانقلابات الدموية وعليه وبمباركة من نبي السياسة العراقية الجديد أطلقت يد الأقرباء في كل مكان والحق بهم فيما بعد المقربين والموالين ليمتلكوا ما يشاءون ويتصرفوا كما يحلوا لهم فهم مع النبي فوق الكتاب والشعب كله بين الدفتين والمبدأ .. إياك واللعب بالمقدسات السياسية وألا دفعت الثمن باهظا . وإذا حاولت تقديم تفسير جديد فأنت بذلك تحرف أو تهرطق ومصير المحرفين هو الزيت المغلي أو أصابع ديناميت صغيرة توضع في الجيوب بدل الحلوى التي ستنقلك إلى عالم أخر لأنك لم تفهم قداسة الحكم والسياسة في العراق . وحتى بعد أن ضعف حكم العوجة وأنحسر عن كردستان مثلا ظل الزعماء البارزين في الأخيرة مخلصين لأنجيل العراق السياسي فلكي تشغل منصبا راقيا في مجمع الوزارات في السليمانية أو اربيل يجب أن تكون من عشيرة البارزاني أو أحد المقربين أليهم أو تكون جلالي المبادئ متعرج الجفون يمتلئ بطنك من العلمانية أو من العصبية القبلية لكي تجلس على كرسي يدور ويدور ، والذكي هو من يحمي نفسه من الوقوع ، أما أن تحافظ عليه بالولاء أو تتركه بدون سابق إنذار فبالرغم من اختلاف العهدين ظلت الوصايا العشر ثابتة ومقدسة لأن صدام قال من يقف في طريقنا سنسحقه وأنبياء الحكم العراقي اللاحقين كانوا أكثر مرونة وهدوءا ولم يستمروا في نفس الخط كما هو بل قالوا : جئنا لنكمل وليس لنلغي فإذا لم تنتمي إلى صفوفنا (( لو تطلع نخلة براسك ما تصير شي )) والكفاءة مهمة وضرورية ولكن إذا كنت من ذيل العشيرة والمقربين أو المؤيدين يمكن أن تكتسبها لاحقا . أما عدى ذلك فأنت تستحق الانزواء والنسيان لأنك عصيت الوصية الأولى في الكتاب المقدس .. للحاكم وحده تتبع وكالعميان ورائه تسير .. ولن تشفع لك كل مهاراتك وتاريخك المليء بالانجازات فلا فائدة بدون ذراع طويلة لن تمتد إليك وتنقلك بين مربعات الشطرنج الرخامية . لا يتغير شيء في العراق فالمعارضون للحكم يتحولون لمعارضة من يعارضهم وأبواب الخطيئة مفتوحة لكل من لم يفهم بعد بأن من يحكم هنا يستبد بشكل أو بأخر ويستحوذ على كل شيء لأنه أمتلك مفاتيح الحكم في البلد وتلك المفاتيح كفيلة بفتح الموصد من الأبواب حتى تلك التي لم يكن السياسي يحلم بها يوما فكيف إذا سينسى الجيل الجديد من القادة تضحياتهم ومثابرتهم وكيف سيفتحون أذانهم ومداركهم لأنبياء كذبة يحذرونهم من مغبة التمادي في الغرور وغلق الدوائر على أنفسهم كما يفعلون بتصرفاتهم اليوم . ألم يتطلب تنحي الجعفري عن ترشيح نفسه لرئاسة الوزراء فترة كانت كافية لإضافة استثمارات نفطية تزيد من أنتاج العراق النفطي مليون برميل أخرى ؟ هل يختلف زعماء الكتل السياسية في البرلمان عن أسلافهم في السلطة ؟ ألا تجدهم اليوم ثابتين في مواقفهم مصرين على ولائهم لهذا وذاك بدل الإذعان لمصلحة البلد ومتطلبات أبنائه غير مدركين بأن الوقت يمر والصراع يأخذ أشكالا جديدة لم تكن متوقعة وحري بهم التحاور ليل نهار من اجل طريق مشترك واحد ؟ هل تعني الديمقراطية بقاء المالكي في السلطة طيلة فترة استحقاقه لمجرد البقاء . أم أن أخلاقها تفرض عليه أن يتخلى عن السلطة لأي وطني أخر تحت أي مسمى يستطيع جمع ما تبقى من العراق تحت لواء حكومة قوية قادرة على ردع العنف والإرهاب استنادا على الوحدة الوطنية وليس رغبة في الاستحواذ على كل شيء بعد عقود من التهميش . يجب أن يتغير مفهوم الحكم والمنصب في نظرنا كعراقيين فليست الرئاسة وجبة لذيذه من الرفاه والشهرة ولا فرصة تاريخية للثأر للعرق أو للمذهب أو لإثبات الحضور القوي ، بقدر ما هي مسؤولية كبيرة وخطيرة يجب أن يعمل من يصل أليها ليل نهار مستخدما كل ما لديه من طاقات وخبرة وكفاءة من اجل الوطن وليس من أجل عائلته أو قوميته أو مذهبه أيا كان . لا يمكن أن نستمر وفق هذا النمط الذي يتحول فيه المناضلون إلى دكتاتوريين يطاردون كل من يقف في مواجهتهم ، ويسخرون في سبيل سحق أعدائهم كل ما هو متاح من إمكانيات المجتمع وكأن الوطن بمن فيه ملك لهم . وربما اليوم أشبه ما يكون بالأمس في الكثير من تفاصيله ، ولو حاولت الحكومة جاهدة لتمكنت من إخماد جزء كبير من العنف في البلد بوسائل سلمية بدل تلك الخطط التي تطبق اليوم دون جدوى وربما ستصنفها الأجيال القادمة في نفس خانة حملات الأنفال سيئة الصيت أو المواجهة التي جوبهت بها الانتفاضة الشعبانية والتي تملأ أثارها اليوم محطات التلفزة في مقابرها الجماعية ، ولكن الفارق البسيط بين الحالتين هو علنية القتال وانتشار المقابر على كل أرض العراق وتدفقها مع مياه أنهاره الغزيرة وكل ذلك من اجل ماذا لا احد يعلم . فالفرق كثيرة ومتشعبة والنوايا سيئة وموغلة في السواد وسلطة الأمس أصبحت شارع اليوم والمضطهدين عادوا من المنافي لكي يستردوا حقوقهم المسلوبة مهما كان الثمن وحجتهم في ذلك هو الكتاب المقدس للسياسة العراقية الذي يعطي كل الحق لمن يمتلك القوة والمنصب ويتجاهل حق الأجيال الديمقراطية القادمة في اعتناق ما تشاءه من طرق والتحول عن كتب أصبحت بنظر مجتمعها وليس بنظر العالم فقط بالية وتحتاج إلى تعديلات كثيرة من قبل أتباعها أنفسهم لكي لا تحرف أو تعدل أو تشطب وبشكل نهائي من قبل الغرباء لأن الكلفة حينها ستكون باهظة والتجربة التي نمر بها اليوم أكبر برهان .عصام سليمان – تلكيف
esa_j9@yahoo.com