حوار العصر المفيد في مدريد
-1-قرار إجراء مؤتمر الحوار بين الأديان السماوية وبين الحضارات في إسبانيا الذي سيفتتح غداً الأربعاء كان قراراً صائباً. وهو بتلخيص شديد، محاولة عصرية جادة لإعادة دور العرب والمسلمين الأوائل في التسامح، والتآلف، والعيش المشترك، مع باقي أتباع الديانات والحضارات الأخرى، عندما حكموا الأندلس مدة ثمانية قرون (711-1492)، وهو الدور الحضاري المؤثّر للإسلام، الذي نسيناه في هذا الزمن، واستبدلناه بالإرهاب، والتعصب، والتطرف، والكراهية، والتكفير، ومعاداة الآخر، ونفيه من الذاكرة، والواقع.
كما أن قرار إجراء الحوار في إسبانيا، له من الأبعاد الحضارية والثقافية والسياسية المعاني الكثيرة، وعلى رأسها أن المسلمين قد جاؤوا الآن إلى إسبانيا من جديد، للتبشير بفجر جديد من السلم الأهلي المشترك بين الأديان والحضارات، وأن لا صراع بينهم، ولكن بينهم تعاون مشترك، لإقامة قواعد المجتمع البشري على القيم السامية، المتمثلة بالعدالة، والحرية، والمساواة بين جميع أبناء البشرية، بغض النظر عن دينهم، ولونهم، وجنسهم، وعرقهم، وهذه هي روحانية الإسلام وباقي الأديان. وهو ما كان سائداً في الأندلس في ظل حكم العرب هناك طيلة ثمانية قرون من القرن الثامن الميلادي إلى القرن الخامس عشر، وما ساد بعد ذلك في البلاد العربية والإسلامية، في العهد العثماني، عندما طُرد اليهود من إسبانيا في القرن الخامس عشر، ورفضت أوروبا استقبالهم بينما فتح العثمانيون بلادهم والبلاد التي تحت سيطرتهم لليهود الهاربين من إسبانيا، لكي يلجأوا إليها ويعملون ويستوطنون فيها. ولولا بروز الصهيونية السياسية في بداية القرن العشرين، وما فعلته في فلسطين، لظل اليهود في فلسطين، واليمن، والعراق، والبحرين، وسوريا، والمغرب، وغيرها، مواطنين مكرّمين، على الرحب والسعة.
-2-
وبهذه المناسبة نريد أن نقول، إن هذا المؤتمر العتيد، مناسبة حضارية لن تتكرر كثيراً، ولن تلقى الدعم والدفق السياسي والثقافي الذي تلقاه الآن. لذا، يجب على هذا المؤتمر أن ينجح نجاحاً ليس عادياً، ولكن نجاحاً باهراً، يتمثل بقرارات وتوصيات موضوعية واقعية، تصلح للتطبيق أكثر مما تصلح لمجرد تسجيل مواقف معينة، وتُلزم الجميع.
ولكي ينجح هذا المؤتمر، ويؤتي أُكله الطيب، علينا أن نأخذ في الاعتبار نقطة مهمة جداً وحيوية، وهي التقليل جداً من دعوة رجال الدين والمفكرين المهتمين بهذا الشأن من الأطراف الثلاثة من المعتدلين. فهؤلاء بفكرهم المنير، وبصيرتهم العارفة السابقة والحالية، كانوا خير معين على عدم وصول الإرهاب والتطرف إلى حده الأقصى، وهم ليسوا بحاجة ماسة إلى مثل هذا المؤتمر. فهذا المؤتمر - برأيي المتواضع- ليس للمعتدلين من الرجالات، ولكنه بالدرجة الأولى للمتشددين المتطرفين الذين يواصلون الليل مع النهار، في الدعوة إلى إشعال نار الفتن بين الطوائف، والأديان، والمذاهب، والأعراق، المحلية والإقليمية والعالمية. فهؤلاء هم المستهدفون من هذا المؤتمر بالدرجة الأولى، ونريد منهم الاشتراك في هذا المؤتمر بكثافة، لكي يقابلوا ويتحاوروا، مع من يتصورون أنهم الخصوم والأعداء، وجهاً لوجه. فمثل هذا المؤتمر ليس لمن تصالح مسبقاً مع نفسه ومع الآخر، فمثل هؤلاء لا يحتاجون إلى كل هذا العناء. فعقلهم، وبصيرتهم، وعلمهم، هدتهم إلى المصالحة مع النفس والسلام مع الآخر، والعيش المشترك مع المُختلف. ولو استطاع هذا المؤتمر، أن يحوّل بعض المتشددين والمتطرفين من الديانات الثلاث إلى الاعتدال، والانفتاح، ومحبة السلام، فسيكون بذلك قد حقق هدفه الأسمى، وهو التخفيف من وتيرة التعصب، والاحتقان، ونفي الآخر. وهو الهدف الأسمى لهذا المؤتمر، كما أفهمه، وكما يفهمه كثيرون معي، في ظني.
-3-
رغم أن مؤتمر مدريد ، بادرة تاريخية واضحة، إلا أن التواضع في هذا المقام، يقودنا إلى القول إن ما سيتم في مدريد، هو استمرار لما تمَّ في عهد المسلمين طيلة ثمانية قرون في الأندلس، من تعايش، وتسامح، وعدالة بين كافة الديانات والأعراق. وقبسات سريعة لحال اليهود - مثلاً - في تلك الفترة، كافية لأن تعطينا فكرة واضحة عما كان أجدادنا الأوائل يعاملون ويتعاملون مع الآخر. ونحن انتقينا اليهود هنا، لأن ما حصل من فريق منهم في فلسطين، بقيادة الصهيونية السياسية، كان "مربط الفرس"، ولُبّ الصراع، والعداء القائم الآن، بين متطرفينا ومتشددينا وبين الصهيونية السياسية، وكذلك بين الساسة العرب والسياسة الغربية الداعمة للصهيونية السياسية. في حين أن علاقتنا بالآخر - مهما كان هذا الآخر - ظلت سمناً على عسل في الأندلس، وبعد الأندلس، إلى أن ظهرت الصهيونية السياسية، وفعلت ما فعلته في فلسطين بتأييد ودعم غربي من السياسة الغربية، التي رأت مصلحة لها في هذا الدعم، وفي هذا التأييد. ولم نستطع نحن حتى الآن، أن نجعل للغرب مصلحة في دعم الحقوق المشروعة للفلسطينيين في وطنهم، وظلَّ خطابنا السياسي في هذا الشأن، عاطفياً ونزقاً وعنيفاً.
-4-
يقول المؤرخ الفلسطيني خالد الخالدي، في كتابه المهم "اليهود تحت حكم المسلمين في الأندلس" إن اليهود خلال حكم العرب للأندلس، كانوا يعاملون كأي مواطن له من الحقوق ما عليه من الواجبات. والدليل على ذلك، أن اليهود كانوا يسكنون في قرطبة خارج الحي اليهودي، وكذلك في باقي المدن الأندلسية. وإسكان اليهود في أحياء خاصة بهم يختلف اختلافاً كلياً عن "الجيتو"، الذي أُجبر اليهود على السكن فيه في أوروبا في العصور الوسطى. لأن تصرف المسلمين كان للتقسيم القبلي، ولم يكن من منطلق عنصري، كما هو الحال في تنظيم الدول الغربية للجيتو، بدليل أنه سُمح لليهود بالإقامة خارج أحيائهم، وبين دور المسلمين. كذلك، فقد استقرَّ معظم أفراد الجالية اليهودية في طليطلة في الحي اليهودي الذي يقع في الجزء الغربي من المدينة. وما تزال بعض الشوارعِ والساحات في هذا الحي تحمل إلى الآن أسماء يهودية. وينتمي إلى طليطلة العديد من المفكرين والأدباء والمشاهير اليهود، أمثال بنيامين الطليطلي، وإبراهيم بن داود الطليطلي، وإبراهيم بن عزرا. كما اشتهر الفيلسوف اليهودي المعروف موسى بن ميمون(1135-1204) الذي كان تلميذاً لابن رشد. وفي كتابه "دلالة الحائرين"، نجد أفكاره قائمة على صدى فلاسفة الإسلام، وعلماء الكلام. وقال عنه الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885- 1947)(شقيق علي عبد الرازق) وشيخ الأزهر، ووزير الأوقاف المصري السابق، ورائد الفكر الفلسفي في مصر، "إن ابن ميمون يُعدُّ من الفلاسفة المسلمين". والأمثلة كثيرة من الأندلس. ولكن واقعة سقوط غرناطة في يدِ الأسبان عام 1492 وقيام فرديناند وزوجته إزابيلا بطردِ اليهودِ منها، وهدم الحي اليهودي، وبناء كنيسة مكانه، عملٌ لم يفعله العرب المسلمون من قبل. وظلت علاقة المسلمين باليهود في الأندلس، وبعد الأندلس، وفي ظل الإمبراطورية العثمانية حتى مطلع القرن العشرين وديّة، ودافئة، إلى أن قامت الصهيونية السياسية، بالمطالبة بفلسطين وطناً قومياً لليهود. ومؤتمر مدريد العتيد، في يوليو القادم، يريد أن يؤكد من جديد العلاقة القوية بين اليهود والمسلمين، وبين المسيحيين والمسلمين، ويعيد سيرة السلف الأولى في التسامح، والتعاون، والانفتاح على الآخر، ويدع السياسة وأحقادها ومطامعها جانباً، لكي يتعايش الإنسان مع أخيه الإنسان بسلام، لبقاء عمران هذا الكون، الذي يشارك في بنائه الجميع، دون استثناء.