خلوة مع النفس هل القسوة وعدم التسامح يشكلان جزءاً من سلوكنا الاجتماعي؟
كثيراً ما فكرت في سلوكنا اليومي نحن العراقيين, وكثيراً ما شعرت بألم جارح حين كنت التقي في بعض الأحيان بأحبة يعانون من قسوة الآخرين عليهم أو بآخرين يعانون من ممارسة القسوة في ما بينهم. وكثيراً ما حاولت أن أبحث في أصل هذه السلوكية غير السليمة. وغالباً ما سجلت ملاحظات على أمل كتابة مقال بشأنها, رغم أني عالجت هذه المشكلة المعقدة في كتابي الموسوم "الاستبداد والقسوة في العراق" الصادر في العام 2005. والقسوة لا تبرز بين الأعداء فقط, بل وبين أفراد العائلة الواحدة أو العشيرة أو بين الأصدقاء أو بين أعضاء حزب سياسي واحد وبين أعضاء منظمة مجتمع مدني واحدة أو بين المعلم وتلميذه.الخلافات بين الناس ممكنة وتباين وجهات النظر ممكن أيضاً, ولكنه لا يحتاج إلى قطيعة, إذ أن لكل ذلك حلول عقلية وبعيدة عن التشرذم والتنافر والتنابز والإساءة أو الانسحاب والانغلاق على النفس أو التخندق. نحن جميعاً بحاجة إلى رؤية واضحة للعلاقة التي تشد الجميع مع الاستقلالية الضرورية للرأي والرأي الآخر وبعيداً عن الإقصاء والتهميش, كما أن هناك أهدافاً مشتركة تجمع بين أفراد العائلة أو بين أفراد الحزب الواحد أو المنظمة الواحدة أو المجتمع الواحد دون الحاجة إلى الغضب وممارسة القسوة بأي شكل كان, سواء بالاعتداء أو بالكلمة الجارحة أو بالنظرة الزاجرة.
يتشكل سلوك الفرد في مجتمعه. والمجتمع هنا يبدأ بالفرد, فالأسرة ثم يمتد إلى المدرسة والمحلة وموقع العمل والمدينة والدولة التي يولد فيها الفرد ويعيش مع غيره من الأفراد. هنا يتلقى الفرد القيم والمعايير العامة والتقاليد والعادات والأعراف التي تتعامل بها الأسرة والمدرسة والمعمل والمجتمع بشكل عام والسلطات الثلاث, التشريعية والتنفيذية والقضائية, وكذلك المنظمات والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وسبل تعاملها مع الفرد والمجتمع, وبشكل خاص موقف السلطة التنفيذية من الفرد والمجتمع.
القيم والمعايير التي يتلقاها الفرد في مجتمعه ليست سوى نتاج لمجموعة من العوامل المؤثرة والفاعلة والمتبادلة التأثير, إنها عوامل تاريخية وتراثية ودينية ومعرفية أو ثقافية عامة وحضارية بشكل أعم. وهي بشكل عام بطيئة في تغيرها وعميقة في تأثيرها على الفرد وتصرفاته اليومية وتعامله مع نفسه والآخر,
لا يعني هذا أن كل الأفراد في هذا المجتمع أو ذاك يمتلكون نفس السمات ويمارسون نفس السلوك ويتعاملون مع نفس القيم والمعايير أو التقاليد والعادات والأعراف دون تباين في ما بينهم. إذ أن العوامل السالفة حين تلعب دورها تؤثر في الفرد بشكل متباين أحياناً كثيرة بسبب تأثير أحدها أو أكثر بصورة أقوى أو أخف من تأثير العوامل الأخرى, وبالتالي تكون الحصيلة تباين نسبي بين شخص وآخر. إلا أن هناك بعض السمات والخصائص التي يمكن الإشارة إلى كونها عامة والتي تبلورت في هذا المجتمع أو ذاك عبر مئات السنين والتي تركت فعلها وتأثيرها على الفرد الذي يتلقاها في البيت والمدرسة وتتجلى في سلوك المشرع في صياغته للقوانين التي يراد العمل بها في المجتمع وفي العلاقة مع الدولة, أو التقاليد والعادات والأعراف المعمول بها في المجتمع. والكثير من الباحثين المتخصصين بعلم النفس الاجتماعي قد كتبوا عن هذه الحالة, سواء أكان الدكتور علي الوردي أم الدكتور قاسم حسين صالح أم الدكتور إبراهيم الحيدري أم آخرين, وشخصوا المشكلة التي يعاني منها الفرد والمجتمع في العراق.
المجتمع الذي يتشكل من مجموع أفراده لا يعيش في فراغ ولا يعيش منفصلاً عن بعضه, بل تربطه علاقات متنوعة, منها العلاقات الاجتماعية العائلية والقبلية وفي إطار دولة معينة, ولكن أكثرها تأثيراً هي العلاقات الإنتاجية التي يرتبط بها الإنسان في الريف والمدينة, وهي التي تترك تأثيرها وفعلها على الفرد في إطار مرحلة معينة أو أحياناً تمتد لمراحل عدة من حياة المجتمع ولأجيال كثيرة. إذ ينتج عن هذه العلاقات الإنتاجية الدولة بسلطاتها الثلاث, وما تضعه من قوانين ومراسيم أو من حياة دستورية أو من سلطة استبدادية وقمعية.
والفرد العراقي في إطار مجتمعه العراقي يعيش منذ مئات السنين تحت وطأة عوامل كثيرة وفي ظل علاقات إنتاجية استغلالية, إذ يمكن القول أن هذا الوضع قد بدأ بالدولة الأموية والدولة العباسية ومن ثم الدولة العثمانية والدولة الحديثة والتي لا يزال الشعب يعيش تحت وطأة أوضاعها الاستثنائية, دع عنك الفترات التي سبقت ذلك, أي في العراق القديم.
حين تغيب الديمقراطية وتصادر حقوق الإنسان وحقوق المواطنة, وحين يمارس القهر السياسي والاجتماعي وحين تسود الفاقة الفكرية والثقافية بشكل عام وحين يسود الفقر والعوز في المجتمع, لا يمكن أن نتصور نشوء فرد ديمقراطي ومجتمع ديمقراطي, بل يكون الفرد والمجتمع هو نتاج تلك العلاقات ويمكن أن تتجلى تصرفاته اليومية بالكثير من تلك السمات التي تميز الدولة وأجهزتها المختلفة, رغم وجود من يناضل من أجلها, ولكنه يبقى غير متخلص منها. ويمكن ان يظهر ذلك في تصرفات الأحزاب والتنظيمات السياسية التي تكافح ضد الاستبداد والقهر والقمع, ولكنها حالما تصل إلى السلطة تمارس ذات السبل والوسائل لقمع الشعب وفرض سطوتها أو تمارس ذلك في العلاقة بين أعضاء حزبها حين لا تكون في السلطة أيضاً.
ما أقوله هنا ليس حالة مطلقة, بل هي نسبية في كل الأحوال. وحين أشير إلى السلبيات التي تبرز في سلوك الفرد والمجتمع لا يعني بأي حال غياب الإيجابيات التي يمتلكها الفرد أو المجتمع العراقي, إذ أنها ليست قليلة. ولكن حديثي هنا يتجه نحو تلك السمات التي يفترض أن تبذل الجهود الحثيثة من أجل تغييرها في صالح الفرد والمجتمع. من هنا أؤكد عدم نسيان السمات الإيجابية في أفراد هذا الشعب أو المجتمع بأسره. ولكني أريد هنا التركيز على معالجة السمات أو الخصائص أو السلوكيات السلبية التي يعاني منها الفرد والمجتمع.
لقد سادت أساليب الاستبداد والقسوة والقمع وغياب العدالة الاجتماعية وغياب الثقة المتبادلة في تعامل الدولة مع الفرد والمجتمع, وكانت ردود الفعل من جانب المجتمع في بعض الأحيان حادة وقاسية أيضاً. كما ساد التعامل الخشن في ما بين أفراد المجتمع في ظل علاقات الإنتاج السائدة, سواء أكان في ما بين أفراد طبقات وفئات المجتمع أو في إطار كل منها أيضاً.
لقد تعاملت الدولة مع الفرد بأسلوب تعسفي قسري بحيث ألغي دور الفرد وشخصيته المستقلة وأضعفت الثقة بنفسه من جهة, ونمت في الفرد روح الثأر والانتقام وعدم التسامح والقسوة في التعامل مع الآخر إلى حد الكراهية والحقد. كما عمدت الدولة في فتراتها المختلفة إلى تربية الأجيال بروح التمييز بين الأفراد على أساس الدين أو المذهب أو القومية أو اللون أو الجنس أو الفكر أو الرأي السياسي. ولم يقتصر هذا التعامل مع الفرد حسب, بل ومع المجتمع بأغلبيته. والواقع الراهن هو حصيلة كل ذلك.
لقد تعمقت جملة من تلك السمات السلبية في الأفراد إلى حد أن وجودهم في مجتمعات حضارية أخرى تختلف عن واقع مجتمعاتنا التي تعاني من التخلف لم تستطع تغييرهم كثيراً رغم مرور نصف قرن على وجود بعضهم في مجتمعات المهجر.
فالكلمة الجارحة والنظرة الخازرة والزاجرة والمتعالية على الآخر, وعدم التسامح إزاء ما يمكن التسامح فيه والإحساس السريع بجرح الكرامة الشخصية وعدم التراجع عن الخطأ, إذ يرى فيه إهانة لذاته بدلاً من اعتبار ذلك فضيلة تحسب له, وهي الصيغة المفضلة في التعامل اليومي وفي الاعتقاد بامتلاك الحق والحقيقة كلها. إن القسوة في التعامل لا تظهر في ممارسة الضرب أو التعذيب الجسدي, الذي يمارس اليوم في العراق من جانب الدولة في السجون ومن جانب قوى إرهابية دموية وطائفية سياسية متطرفة أخرى في الشارع العراقي, حسب, بل وكذلك بالكلمة التي تترك ندباً في روح الإنسان وفي علاقاته اليومية, والتي تتسبب في خلق جو يدعو إلى الثأر والانتقام من الإهانة المحتملة التي وجهت للفرد.
إن الظواهر والسلوكيات السلبية التي يتحدث بها الناس في بلادنا كثيرة, ولكن الكثير منهم يمارسها يومياً, ومجتمعاتنا الصغيرة المغتربة بعيداً عن أرض الوطن والمقيمة في الشتات تندد بتلك السمات والممارسات التي يعيش الشعب العراقي اليوم في ظلها, تمارسها أيضاً رغم تنديدها بها, بل تمارس في داخل منظمات المجتمع المدني, التي وجدت من أجل تعزيز العلاقات الاجتماعية, فإذا بها تتحول إلى مواقع للصراع وتبادل الكلمات القاسية وغياب روح التسامح. إنها السلوكيات الراهنة في المجتمع العراقي بكل تفاصيله ولكن بصورة مصغرة.
ندين ما يجري في العراق من قسوة وخشونة في التعامل في ما بين القوى السياسية العراقية, ولكننا لا ننتبه إلى أنفسنا وفي ما نمارسه في ما بيننا بحيث أصبحنا نموذجاً مصغراً لما ندينه يومياً في عراقنا المبتلى.
يحس البعض بالانتصار على "غريمه" حين يهين زميلاً له بكلمة قاسية ونابية بل وجارحة في حديث معه, يشعر وكأنه قد مسح صاحبه بالأرض وانتصر عليه, كأنه البطل المغوار الذي استطاع تحدي صاحبه وألقمه حجراً. البعض الآخر يشعر بأنه تغلب على "غريمه" حين دفعه للبكاء بعد أن وجه له تهمة ذميمة غير موجودة أصلاً ,وبالتالي أساء إليه بقصد مسبق. لقد راقبت أولئك الذين يوردون أمثالاً شعبية تسيء لحقوق الإنسان لا بهدف الإفادة منها, بل بهدف الطعن والإساءة, ثم ينظر إلى جماعته منتشياً أترون كيف أسئت إليه ولم يجرأ علي الرد.
إنها شيء من السادية المتجذرة التي تميز السلوك القاسي في التعامل مع الآخر. كم هو جميل أن يبادر من أساء إلى صاحبه أن يعتذر له, وعلى الآخر أن يقبل اعتذار صاحبه بدلاً من التخندق والتصعيد المؤذي للجميع.
عشت تجارب كثيرة في هذا الشأن, ولا أعفي نفسي كعراقي من ذلك. ولكن كيف يفترض فينا أن نسعى للتخلص من تلك السلوكيات غير الحضارية التي تعود إلى ماض سحيق تكرست فينا, ولكن هذه السلوكيات لم تعد تنسجم مع الحضارة الجديدة للإنسان, على الأقل في الدول الأوروبية التي نعيش فيها. كيف نتعلم أن نصغي لبعضنا ونتعامل على أسس المساواة والابتعاد عن الإساءة لبعضنا أو امتلاك روح التسامح حين يعتذر البعض عن التهم أو الإساءات التي وجهها لغيره. قيل قديماً: القيام بثورة ناجحة أسهل بكثير من تغيير الإنسان لنفسه! أفلا ينبغي لنا أن نسعى لتغيير هذه السلوكيات فينا وإزاء بعضنا الآخر.
فيما مضى كان بعض الأفراد والجماعات لهم مرجعيات وطنية يعودون إليها بطلب النصيحة أو الرأي والموقف, سواء أكانت تلك المرجعيات حزباً سياسياً أم منظمة مدنية. إلا أن هذه المرجعيات لم تعد قادرة على تقديم النصح ولم يعد من يسمع رأيها أو نصيحتها ولم تعد قادرة على إسداء الخدمة التي كانت تقدمها حينذاك. وهو أمر غير سلبي بشكل عام لكي لا تفقد الفرد شخصيته وقراره الشخصي. ولكن الأمر أصبح خاضعاً للمصالح الفردية والتدافع بالمناكب لأجل مصالح ضيقة وزائلة.
إنها المحنة التي تحتاج من كل عراقية وعراقي أن يعالجها فيه قبل غيره, ولا أبعد نفسي عن ذلك. والسؤال الذي يؤرقني هو: هل سيعتبر البعض أن هذه موعظة فارغة أم أنها تعبر عن حالة نعاني منها اليوم في العراق وفي الشتات العراقي, وهي سلوكية تعمقت لدينا بفعل معاناتنا الطويلة جداً من النظم الاستبدادية والاستعلائية والمريضة التي عشنا تحت وطأتها وعانينا من سلوكياتها الأمرين, ورغم إدانتنا لها أخذنا منها الكثير وليس القليل في تعاملنا وسلوكنا اليومي, وهي المحنة ذاتها!
يشعر الإنسان بالإعياء حين يواجه حالات من هذا النوع, ويفقد طعم النوم والعمل حين يرى تجمعاً صغيراً لا يزيد عن عدة عشرات من الناس المثقفين لا يستطيعون أن يجدوا لغة مشتركة في ما بينهم بغض النظر عن هذا المسيء أو ذاك, إذ أن الأمور كلها يمكن حلها حين يمتلك الإنسان الشجاعة على الاعتراف بالخطأ وحين يمتلك الحس الضروري للتسامح الإنساني والتخلي عن الكبرياء والتعالي على الآخر وحين يسعى لتعديل ما يشعر أنه خاطئ بروح إيجابية ووعي بأهمية ذلك وبمسؤولية عالية وبصبر وأناة.
7/6/2010 كاظم حبيب