سر تطوير الجامعات يكمن في تطوير قابليات اساتذتها
يحاول كثير من الكتاب في الشأن الاكاديمي القاء تبعية ازمة التعليم العالي في العراق على ما حصل للجامعات العراقية من تهديم وتخريب، وللاكاديمين العراقيين من قتل وتشريد بعد سقوط النظام السابق، ولكنهم يتناسون ان ازمة التعليم العالي والجامعات العراقية ترجع الى ما يزيد عن 30 عام حينما اصبح التعليم الجامعي رهينة بيد النظام، فبفضل سياسات النظام السابق والعزلة الدولية وتفشي الفساد اصبح التعليم العالي مجرد تعليم سطحي لمنح شهادات معظمها لا تؤهل الخريج لاحتياجات سوق العمل، ولا تتناسب ومتطلبات المنافسة في عصر العولمة، واستمر تدهور احوال الجامعات فلم تستطع جامعة واحدة ان تصل الى مستوى احسن 1000 جامعة على مستوى العالم.ولا زالت الجامعات تعاني من هذه التأثيرات التي اصبحت نتيجة عدم الاستقرار السياسي تشكل حجر عثرة امام تطور التعليم العالي، وتفرض تحديات داخلية هائلة امام الادارة الجديدة فهي تعيق من حركة استقلالية الجامعة واللامركزية وتطوير وسائل التدريس وتدريب اعضاء هيئة التدريس ورفع كفاءتهم التعليمية والعلمية بجانب تطوير الامكانيات المادية وتقويم التدريس والامتحانات بحيث يكون لها مصداقية وموضوعية. كما تداخلت هذه التأثيرات مع التحديات الخارجية التي بدأت تلعب دورا مهما نتيجة عولمة سوق التعليم العالي والنمو السريع للمعلومات وازدياد دور الجامعة في المجتمع، فاصبح من الصعب حتى للسياسات الصائبة من تحقيق هدفها كنتيجة لهذه التراكمات ولسنين طويلة مما يتطلب اصلاح شامل، اي اعادة البناء الاكاديمي بشكل صحيح سليم، بعيدا عن الترميم والترقيع، بناء مبني على اسس علمية كما تبنى عليه الجامعات في الدول المتطورة (راجع مقالة سابقة للكاتب بعنوان: هل من ضرورة لاصلاح التعليم العالي في العراق؟).
لقد ذكرت هذه المشاكل لكي تكون مقدمة لتناول مسألة مهمة في اصلاح واعادة بناء الجامعة الا وهي دور الاستاذ الجامعي في اية عملية لاعادة البناء وفي تحسين مستويات الاداء للجامعات العراقية، فنحن عندما نتكلم عن مشاكل التعليم الجامعي لا ننسى ان مستوى الجامعة العراقية ارتبط تاريخيا بمستوى اداء هيئة التدريس، فالاستاذ كان دائما العامل الاساسي في تحفيز الطلبة على المثابرة والتتبع ويولد عندهم الفضول للاستمرار في الاستماع والتعلم. وبسبب ان التعليم في العراق تاريخيا وبصورة عامة يعتمد على قابليات الاستاذ في عرض المادة بصورة واضحة ومثيرة للاهتمام، وعلى دور الطالب الذي ينحصر في الاستماع والتدوين واسترجاع المعلمومات عند الامتحان، فالطالب لا يتعلم لحد ما معارف التعلم الذاتي والاعتماد على النفس ومهارات التفكير المبدع والتفكير الناقد، لذا فان الاستاذ كان ولا يزال هو الركن الاساسي الذي تقوم عليه العملية التعليمية في الجامعات.
من هذا كله يمكن الاستنتاج بان جزء من ازمة التعليم الجامعي في العراق يعود بالاساس الى هجرة الاساتذة وعدم رجوعهم الى الوطن والى عزوف عدد كبير من اعضاء هيئة التدريس عن المتابعة وتطوير القابليات وعدم الاهتمام بالتطورات العلمية وغيرها من الاسباب التي تؤدي الى تراجع وضعف اداء الهيئة التدريسية، بالرغم من ان ذلك يعود ايضا في بعض جوانبه الى عوامل سياسية واجتماعية وادارية وهيكلية ذكرنا عددا منها اعلاه. ولهذا تفرض عملية الاصلاح الجامعي اولا واساسا تطوير قابليات الاستاذ التدريسية وتحسين مستواه العلمي وتحفيزه على متابعة التطورات العلمية وتعميق معرفته العامة بموضوع اختصاصه، وعلى ترجمة الافكار الاكاديمية الى ممارسات عملية، واشعال روح الاهتمام والتتبع والحماس للبحث العلمي العميق. والبحث العلمي، بمعرفتنا الشخصية، رغبة وامل كل اكاديمي عراقي ، وعلى حد قول الشاعر حافظ ابراهيم: البحر في احشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاته. كما تتطلب عملية الاصلاح درء اخطار الاحباط والتذمر الذي يسود خصوصا بين المؤهلين عاليا من اعضاء هيئة التدريس وذلك بتشجيع الجهد الجماعي حيث تسود روح الفريق الواحد، واعطاء ادوار اكبر لاعضاء هيئة التدريس في تمشية الامور الاكاديمية للاقسام والكليات، كما يجب اعتبار مكافئة الاستاذ الكفؤ والمنتج ضرورة وواجب، والتنافس مع الجامعات الاخرى من اجل تطوير كادر الجامعة التدريسي هدفا ووسيلة للتطوير. ويجب ان لا ننسى ان هذه الاجراءات ترتبط عمليا بوجود المرونة التنظيمية والهيكلية للجامعات والكليات والاقسام، والتي ستتطلب تحولا جذريا في مفهوم القيادة والادارة والتخطيط والعمل بمستوياته المختلفة، وستكون هذه المرونة التنظيمية والهيكلية ضمانة لاداء الاستاذ لمهماته الاكاديمية، وكذلك عنصر مهم للتخلص من قبضة الثقافة السائدة والقناعات الجاهزة، وستساعد على ايجاد مصادر جديدة للتمويل، وعلى ربط الجامعة بحاجة السوق والمجتمع، والتخلص من القيود المفروضة على الرواتب، وتطوير العلاقات مع الجامعات العالمية، وزيادة التفاعل بين البرامج والتخصصات الاكاديمية. والمرونة التنظيمية تعني التحرر من القيود التي تمنع الجامعة من دخول السوق الوطني والعالمي للبحث عن افضل الاساتذة واغرائهم بعروض تتناسب مع خبرتهم، وهذا يولد رغبة عند الاساتذة لتطوير قابلياتهم واشعارهم باهميتهم بوسائل التحفيز والتشجيع لتأدية عملهم بجودة عالية، وينبغي هنا ان تكون الحوافز واضحة الاهداف ومناسبة لشخصياتهم، وهذا لا يمنع من دخول الاساتذة الجيدين السوق الاكاديمي بحثا عن افضل العروض، وفي هذه الحالة يبقى ويتطور الافضل وينقرض الاسوء. وقد ترتاب الجامعات من هذا الاسلوب الذي قد يؤدي الى فقدانها لافضل اساتذتها ولكن التطوير يرادف دائما التحسين والذي يزيد من جاذبية العمل في الجامعة التي تهتم باساتذتها، ومهما كانت النتائج ستستفاد الجامعات كلها من التطوير الذي يخلق المنافسة.
وربط الجامعة بحاجة السوق والمجتمع لا يعني فقط ان الجامعة ستكون مسؤولة عن تكوين وتخريج كوادر تلائم احتياجات السوق والمجتمع وتمتلك مهارات عالية وقابلية على التعلم المستمر، وانما ايضا مسؤولة عن اختيار افضل الاساتذة للعمل فيها والحفاظ عليهم كسلعة نادرة وغالية الثمن، وبكل وسائل العناية والتطوير، حيث بفقدان هذه الوسائل تفشل الجامعة في اداء احدى اهم مهماتها. فتطوير قابليات الاستاذ ليست من شأنه فقط فهي مسؤلية تعود بدرجة كبيرة الى الجامعة وادارتها. ان عملية تطوير قابليات اساتذة الجامعة ضرورية ومهمة خصوصا في ضروف العراق الحالية بعد خروجه من الظلمات والعزلة الدولية، والعملية تحتاج الى دراسة واسعة لاحتياجات الاساتذة ولغرض الوصول الى افضل السبل لسد هذه الاحتياجات.
للجامعات العراقية انظمة عمل لهيئاتها التدريسية تعتمد على ساعات التدريس لكنها لا تهتم كثيرا بالتعلم، واذا كانت هناك ساعات للتعلم والتطوير فانها قليلة ولا تتعلق بواجبات الاستاذ. اقول هذا وانا على علم بان وزارة التعليم العالي العراقية مهتمة جدا بهذا الموضوع، فهي تسعى لوضع برامج للتدريب بداخل وخارج العراق ولتبديل الانظمة القديمة لتشمل ساعات التعلم، كما ان تعليمات وزارة التعليم العالي في اقليم كردستان تفرض ان يخصص الاستاذ 50 ساعة على الاقل في السنة الدراسية للتعلم عن طريق حضور او تقديم السيمنارات العلمية او بالمشاركة في المؤتمرات العالمية او النقاشات والدورات وورشات العمل المتعلقة بالسياسات العلمية، بالاضافة الى الساعات المخصصة لكتابة ونشر البحوث العلمية. وهنا يبدو ان مسؤولية الجامعات في اقليم كردستان لا تنحصر في اقامة السيمنارات وورشات العمل فقط وانما في تقييم الاستاذ على ضوء مشاركته في برامج التعلم وصولا الى اقالته من منصبه في حالة رفض الاستاذ المشاركة في هذه البرامج. ولكي يضمن نجاح هذه البرامج يجب ان يتوفر مستوى عالي من الدعم المالي واللوجستيكي في الاوساط الادارية لتطوير اعضاء الهيئة التدريسية وحثهم على الانخراط في ورشات العمل والدورات، وان تشمل البرامج هيكليات واساليب التعليم التي تعتبر مهمة في السنة الاولى لتعيين عضو هيئة التدريس، بالاضافة الى التزام قوي بالتحسين، وهذا يعتمد على نشر ثقافة الجودة والتطوير، واعتبار ان تحسين الجودة في الجامعة يرتبط ارتباطا وثيقا بالتحسين المستمر لجوانب تكوين واعداد المدرس، وبان لا يستخدم تقييم المدرس لفرض عقوبة او وسيلة تستطيع الجامعة بواستطتها اتخاذ قرار تعسفي باتهامه وتعريضه لمساءلة غير عادلة، وأن لا يخشى المدرس الكشف عن اعماله وممارساته تجاه التقييم.
انني فخور بالاشارة الى برنامج وزارة التعليم العالي في اقليم كردستان في تطوير الخبرة والى برنامج وزارة التعليم العالي العراقية في البعثات البحثية قصيرة المدى للتدريب خارج الوطن بالرغم من محدودية عدد المبعوثين، وانا اتطلع الى النتائج الايجابية التي ستظهرها هذه البرامج والى ان تكون منارا للجامعات في جهد وطني مشترك متنام لتحسين مستوى الاستاذ وما يعود ذلك على تحسين تعلم الطلاب. اننا نعرف ان المزالق كثيرة في هذا الطريق فما ينشده الاستاذ كثيرا ما لا تستطيع الجامعة تقديمه، الا انها تستطيع ان تساعده في تطوير مواهبه وقابلياته مثلما تعمل على تطوير مواهب وقابليات الطالب، ولا ارى صحة في اهمال الهدف الاول والتركيز على تحقيق الهدف الثاني فهما هدفين مترابطين من اجل تحقيق اهداف الجامعة في خدمة المجتمع والتميز.
ان التطوير كما ذكرنا اعلاه له فوائد عديدة اخرى ومنها توفير اجواء من الانفتاح والنقاش الايجابي وتوفير الفرص لتنمية اخلاقيات العمل الاكاديمي وتعزيز الثقة لتمكين الاساتذة من المشاركة البناءة في تحقيق اهداف الجامعة وكذلك في توفير البيئة المناسبة لتشجيع التعلم الذاتي المستمر. وتعد مسؤولية تحديد احتياجات الاستاذ التدريبية مسؤولية مشتركة بين الاستاذ والقسم والجامعة ويحتاج هذا الى متابعة مستمرة لغرض تأمين فرص المشاركة في البرامج والانشطة التدريبية. ولرب سائل يسأل عن اهم هذه الانشطة التدريبية وعن ما يحتاجة الاستاذ العراقي فالجواب هي انها كثيرة ومتعددة الجوانب، فبالاضافة الى طرق التدريس والبحث العلمي تتضمن طرق البحث العلمي، وقابليات الاتصال، وتوصيل المعلومات، وبناء وتعزيز الثقة بالنفس، والادارة الجامعية والاكاديمية والبحثية، والاشراف على الطلبة، والقيادة، والقاء المحاضرات، وكتابة التقارير ومشاريع البحث ونشريات البحث والاطروحات، وادارة الاجتماعات، واخذ القرارات، وحل النزاعات، والمقابلات، وتعزيز الاندفاع والاهتمام، وتدريب المدربين والخ من عدد كبير من الانشطة التدريبية المهمة في حياة الاستاذ والجامعة. كما لا ننسى ان التعاون والتفاعل بين اعضاء هيئة التدريس يلعب دورا مهما في ترسيخ مقومات الثقة والانتماء والاعتزاز بالعلاقة الاكاديمية من خلال ترسيخ القيم الاخلاقية للعلم والشوق الدائم للمعرفة، ويوجد عدد كبير من الوسائل التي تساعد على تحقيق قدر كبير من التفاعل بين هيئة التدريس رسميا وبصورة غير رسمية، فعلى سبيل المثال تشجع الجامعة اعضاء هيئة التدريس (في كل قسم او كلية) الاجتماع الى مائدة الغذاء يوم في الاسبوع بحيث لا يكون هذا الاجتماع عفويا، فالدعم الاداري يوفر المكان والوقت لضمان ان يجد الاساتذة فرصة للاجتماع معا.
لقد اثبتت الدراسات اهمية التطوير المستمر لقابليات اعضاء هيئة التدريس من ناحية تحسين القدرة الجماعية لهم لتحقيق رؤية الجامعة واهدافها خصوصا اذا اتيحت الفرص للاستاذ لمواصلة النمو المهني الذي يعكس مصالحه الشخصية الاكاديمية، وبحيث يصبح الهدف توفير عدد من الخيارات التي تعكس المصالح المتنوعة للاساتذة. والتحدي الذي يواجه الجامعات هو توسيع القدرة الجماعية للاساتذة بالكامل والتحرك باتجاه تحقيق رؤية الجامعة بضمن جهد متماسك ومرٌكز للتطوير، ودفع الاساتذة للعمل بضمن طرق جديدة لتعليم الطلبة بحيث تتعدى التلقين او مجرد الحصول على المعلومات من قراءة الكتاب المقرر او حتى المصادر المتوفرة لكي تبرز اهمية وجود الاستاذ كمصدر مغذي للمعلومات. ان تشجيع الاستاذ لتنفيذ وتقييم استراتيجيات وطرق جديدة تساعدهم في تحقيق اهدافهم في بناء المعرفة لهو عنصر حاسم في التنمية المهنية وللوصول الى مستوى اعمق من التفاهم المشترك الذي يمكنهم من التكيف مع الممارسات الجديدة. ان الاختبار الحقيقي لتنمية قدرات التدريسين لا يكمن في عدد الموضوعات والمبادرات التي تم تناولها ولا الى عدد التدريسين الذين شاركوا في ورشات العمل او مستوى المشاركين وارائهم فقط، وانما يكمن ايضا في تغيير سلوك وممارسات التعليم بما يفيد الطلاب، وفي خلق ثقافة تعاونية بين التدريسين لتحسين تعلم الطلاب. ان احد اهم التحديات التي تواجه القيادات الجامعية هو ترسيخ ثقافة التغيير داخل الجامعة وهي ثقافة تعتمد على الجودة وادراتها، وهذا يحتاج الى وقت الا انها المفتاح لتطوير ورقي الجامعة العراقية ووصولها لمستوى الجامعات العالمية.
31 تشرين أول 2011
http://akhbaar.org/home/2011/10/117572.html