Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

عندما تكون الأيديولوجية الدينية مطية السياسة

العالم بحاجة لأن يتعمق في دراسة وفهم واستيعاب الظاهرة الإسلاموية بشقيها السني والشيعي وارتباطها بمفهوم الإسلام السياسي أو استخدام الإسلام كدين مطية لتحقيق أغراض وأهداف سياسية بذريعة تطبيق الشريعة واتخاذها كدستور وحيد للمسلمين في كل مكان وإرغام الأنظمة في العالم الإسلامي وبالقوة على تطبيق الشريعة ورفض القوانين الوضعية التي يتبعها العالم الغربي المتحضر لاسيما بعد منعطف الحادي عشر من أيلول 2001. تنبغي الإشارة إلى أن الفكر السلفي المتشدد والمتعصب ظهر منذ انتشار المذهب الحنبلي السني وتبني أنظمة في العالم الإسلامي لهذه المدرسة الفقهية المتشددة التي استمدوا تعاليمها من كتابات فقهاء متعصبين من أمثال ابن تيمية ومن بعده محمد بن عبد الوهاب والذين أفرزوا لنا في التاريخ الحديث تنظيمات إرهابية مثل القاعدة وإرهابيين أمثال بن لادن والزرقاوي وأيمن الظواهري وأبو قتادة وأبو حمزة المصري وأبو أنس الليبي والجماعات المسلحة الجزائرية والقائمة طويلة .. وهؤلاء يدعون للعودة إلى دين المؤسسين وينشرون الإسلام المتطرف والمتعصب ويسعون لانتصاره في كل مكان حتى لو كان لذلك بسفك دماء الأبرياء والمدنيين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. ينبغي ألا ننسى أنه ومنذ أواسط القرن الثامن عشر نشأت عرى تحالف وعلاقة وثيقة بين مؤسس التفسير الصارم والطهراني للإسلام وسلطة شيخ عشيرة محلية في شبه الجزيرة العربية. الفقيه الإصلاحي المتطرف هو محمد بن عبد الوهاب وشيخ القبيلة هو محمد إبن سعود. الأول ينتمي إلى فرع من قبيلة تميم المعروفة وإبن لأحد رجال الدين والثاني هو زعيم آل سعود وينتمي إلى قبيلة العنزة. التقى الرجلان في سنوات 1740 وتحالفا وولد من تحالفهما الحركة الوهابية التي تتبناها رسميا الدولة السعودية الحديثة وتحاول فرضها بفعل البترودولار على العالم الإسلامي برمته فيما عدا الشطر الشيعي منه الذي تحاول إبادته بكل الطرق الممكنة والذي تعتبره عدوها اللدود. بالطبع لا يستخدم السعوديون ولا المؤسسة الدينية المتحالفة معهم تعبير الوهابية والمذهب الوهابي بل يلجئون إلى صيغة السلفيون ويدعون تمسكهم بسيرة السلف الصالح في صدر الرسالة المحمدية ويصفون أنفسهم بالموحدين . إن صفة الوهابية يطلقها عليهم خصومهم من المذاهب الأخرى لاسيما الشيعة بقصد القدح والذم. كما يمكننا أن نعثر على تعبير الوهابيون في المراسلات بين الدبلوماسيين الأوروبيين مع حكوماتهم كالروس والفرنسيين في زمن نابليون.

ولكن فجأة قفز تعبير الوهابيين إلى صدارة وسائل الإعلام في مطلع القرن الواحد والعشرين بعد أن كان مغموراً ومجهولاً من قبل الغربيين الذين اكتشفوا مذهولين أن المملكة الوهابية في العربية السعودية هي مهد الإرهاب الإسلاموي المعاصر. فظهرت عشرات الكتب والأبحاث والدراسات لكي تسلط الضوء على هذه الظاهرة الغريبة والمخيفة في آن واحد.

كان الشيخ محمد إبن سعود زعيم عشيرة محلي يقود منطقة لم يسمع بها أحد بين 1740 و 1744 تقع في وسط المملكة السعودية الحالية وتسمى داريا عندما التقى بالشيخ المنبوذ من قبل رجال الدين التقليديين ومن قبل محيطه وعائلته وعشيرته بسبب أفكاره وآرائه الراديكالية الشيخ محمد بن عبد الوهاب . تقول الرواية السعودية الرسمية أن الشيخ محمد إبن سعود استقبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقال له :" إن هذه الواحة موطنك فلا تخشى بعد الآن أعداؤك وبعزة الله حتى لو قررت نجد بأكملها طردك فلن نتخلى عنك أبداً " فرد عليه محمد بن عبد الوهاب:" أنت زعيم هذه الواحة وأنت رجل حكيم، أريد منك وعداً بشن الجهاد ضد الكفرة ومقابل ذلك ستكون الإمام وزعيم الأمة الإسلامية وسأهتم أنا بالشؤون الدينية". ولم تكن نجد ـ وهي اليوم جزء من العربية السعودية ـ خاضعة لهيمنة غربية بل وحتى لم تحتلها الإمبراطورية العثمانية.

وجد محمد بن عبد الوهاب في هذا التحالف سلطة سياسية صاعدة يمكنه من خلالها البدء بإصلاحاته لنمط حياة وتفكير المسلمين وتكوين صورة مصغرة لمجتمع إسلامي محلي نموذجي على غرار مجتمع المدينة المحمدي في بدء الرسالة على أمل توسيعه ليشمل العالم الإسلامي بأسره كما كان يطمح ويتمنى. بينما وجد محمد إبن سعود في هذه العقيدة المتصلبة والطهرانية مشروعية دينية لإخضاع باقي القبائل والعشائر المجاورة لسلطته لاسيما الهاشميين، معلنا أنه وحده ومعه المسلمين الحقيقيين من يحق لهم شن الجهاد ضد باقي المسلمين غير الوهابيين الذين اعتبرهم مشركين ومرتدين ومن أتباع أصحاب البدع الخارجين عن الملة. ولكن أين موقع الوهابين من خارطة الحركات الإصلاحية الإسلامية؟

في المجال الفقهي هناك مشتركات مع باقي المدارس الفقهية السنية الأخرى مثل مفهوم التوحيد المطلق لله والدعوة للاقتداء بالسلف الصالح والعودة لمثال الدين الأصيل والنقي الذي كان سائداً في مكة والمدينة في عهد النبي محمد والخلفاء الراشدين ورفض التصوف والتيارات التي تؤمن بالشفاعة والوساطة بينهم وبين الله وتحريم تقديس الأولياء . ولكن هناك خلافات جوهرية هائلة بين المدرسة الوهابية والمدارس والتيارات الإسلامية الأخرى. يشدد المذهب الوهابي على رفض كل ما يخرج عن نصوص الدين الأصلية ودمغها بالبدع غير المستندة إلى القرآن والسنة. والوهابية ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي وهي امتداد أكثر تشدداً للمذهب الحنبلي الذي ظهر في القرن التاسع الميلادي أي بعد الهجرة بثلاثة قرون، باعتباره أحد المذاهب الفقهية السنية الأربعة الباقية إلى يوم الناس هذا. فالوهابية مدرسة فقهية سنية لكنها جاءت لتحارب باقي المدارس الفقهية السنية ناهيك عن المذهب الشيعي بكل تفرعاته، وهي تحارب المسلمين الذين تكفرهم وتتيح القتال ضدهم . وكانت البداية حملات ضد مسلمي نجد، البدو المنعزلين والمنطوين على أنفسهم والغارقين في ممارساتهم الشعائرية والطقوسية التي لا تعجب الوهابيين وكان هؤلاء الوهابيين في حرب دائمة ضد الشيعة في شرق العربية السعودية وفي وسط وجنوب العراق حيث شنت عليهم العديد من الغارات والهجمات الدامية ، وكذلك ضد الإسلام الأكثر انفتاحاً في مكة والمدينة وجدة الذي كان يبدو في أنظارهم منحرفاً وإهانة للدين الأصيل حسب تصورهم ويتهمونه بالميوعة والتسيب والتساهل المثير للفزع. ويعتبر الوهابيون أنفسهم هم أصحاب الإسلام الأصيل والحقيقي والمتفرد عن باقي التيارات والمدارس الإسلامية بما فيها الصوفية .

في سنة 1744 نشأت دولة سعودية حقيقية بعد إخضاع القبائل المجاورة وتوسعت تلك الدولة الوليدة بعد غزو الأماكن المقدسة في الإسلام في مكة والمدينة في أعوام 1803 و 1804 وبذلك تكون الأسرة السعودية قد سيطرت على القلب الرمزي للدين الإسلامي وفرض المذهب الوهابي كمذهب رسمي للدولة ولم يلتفت الأوربيون في القرن الثامن عشر لهذه الظاهرة الدينية والسياسية الخطيرة المثقلة بالدلالات لأنهم اعتبروا ما حصل ليس أكثر من حدث أو شأن داخلي في الإسلام ليس له تأثير مباشر عليهم. وجاء الاهتمام فيما بعد بهذه الحركة في الوقت الذي كان يمكنهم استغلالها لمحاربة وإضعاف السلطة العثمانية. فالأماكن الإسلامية المقدسة كانت تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية وتحكم من قبل الخلافة العثمانية في اسطنبول . كانت ردة فعل دولة الخلافة عنيفة وقد كلف السلطان العثماني والي مصر محمد علي باشا بتدمير الحركة الوهابية وتصفية سلطان آل سعود وقد نجح محمد علي باشا في مسح داريا من الخريطة وألقي القبض على أحد أفراد آل سعود وهو إبن محمد إبن سعود وأعدم بقطع رأسه في اسطنبول. وقد عادت دولة آل سعود مرتين بعد ذلك إلى الوجود كانت العودة الثانية قد تعرضت للتدمير في نهاية القرن التاسع عشر وأخيراً تأسست الدولة السعودية الثالثة بعد الربع الأول من القرن العشرين وبالتحديد سنة 1934 على يد الملك عبد العزيز إبن سعود. وبتحريض ودعم ومساندة من البريطانيين تمكن هذا الملك من وضع أسس دولة مركزية وقام بتحديث للبنى التحتية في المملكة وشق طرق المواصلات والاتصالات والحد من سلطات تأثير " الأخوان" والمقصود بهم المتطرفين من علماء الوهابية وكان قد قتل منهم الآلاف بين 1929 و 1930 . وكانت النتيجة أن قوة الوهابيين الجهاديين تحولت باتجاه غزو العالم الخارجي وعلى الأخص العالم الإسلامي وكان هناك بعض العلماء انضموا إلى الأخوان، ومن جهة أخرى كان هناك المقاتلون الوهابيون الذين تحالفوا مع إبن سعود. ومالت الكفة في النهاية لصالح حكم وسلطة آل سعود بتحالف استراتيجي مع أركان المذهب الوهابي. تم اكتشاف النفط على يد مهندس بريطاني في السعودية سنة 1932 ونصح هذا الأخير الملك عبد العزيز إبن سعود بالتعاون مع الأمريكيين في هذا المجال وتم إبرام بضعة عقود مع شركات أمريكية نفطية سنة 1938 ، وبعدها،حدث ذلك اللقاء الشهير سنة 1945 على ظهر البارجة بين الملك إبن سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ووضعت أسس تحالف طويل الأمد بين الولايات المتحدة الأمريكية والعربية السعودية تتعهد الثانية بتزويد الأولى بالنفط وتتعهد الأولى بحماية الثانية من أي عدوان خارجي عليها . استمر الأمر على هذا الحال حتى أواسط القرن العشرين حيث تغيرت الأوضاع في سنوات الستينات والسبعينات بوصول مئات الآلاف من الأخوان المسلمين المصريين والسوريين وغيرهم إلى أرض المملكة العربية السعودية ونشوب نزاعات ومواجهات ودسائس ومؤامرات بين زعيم الاتجاه القومي العربي آنذاك الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وبين نظام آل سعود. في تلك الحقبة من الزمن تدفق آلاف من أنصار حركة الأخوان المسلمين وبدأوا بتكوين وتأهيل الآلة الأيديولوجية والتربوية السعودية. في نهاية سنوات السبعينات وتحديداً سنة 1979 انتصرت الثورة الإسلامية الشيعية في إيران ووقع حادث محاولة احتلال الحرم المكي من قبل عناصر إسلاموية متشددة سعودية بقوة السلاح والغزو السوفيتي لأفغانستان مما غير من ملامح الحركة الوهابية الحاكمة في السعودية وحولها من حركة تبشيرية كلاسيكية إلى حركة جهادية تكفيرية مما يبيح لهم قتل الكفار والمسلمين المخالفين لهم واعتبارهم مرتدين عن الدين ويحق عليهم القتل وكان ذلك بمثابة الواجب الديني في عنق الوهابيين. وانطلاقاً من هذا الفهم والتفسير اغتال الجهاديون التكفيريون المصريون الرئيس المصري أنور السادات استناداً إلى فتاوي وتفسيرات منظر الحركات الإسلاموية الجهادية الشيخ إبن تيمية وحدث الدمج التدريجي بين الوهابية الكلاسيكية والحركة السلفية والتيارات الأصولية والأطروحات المتشددة والمتعصبة والتكفيرية والعناصر المتطرفة السورية والمصرية في حركة الأخوان المسلمين لتشكل ما يعرف اليوم بالشبكة الإرهابية الدولية الجهادية والتكفيرية التي تجسدت ميدانياً بتنظيم القاعدة الإرهابي وحركة طالبان في أفغانستان. وتأثر بهؤلاء آلاف الشباب السعودي الذي انخرط في حركة الجهاد في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين وتطوعوا للجهاد والتضحية بالنفس من أجل هذه الأفكار التدميرية ولكن هذه المرة ليس ضد مسلمين آخرين فحسب بل ضد الكفار والغربيين من مسيحيين ويهود وعلمانيين على نحو أخص. فهؤلاء هم الغرب وما يمثله من سطوة وفساد وتحلل وغطرسة وعدوان وانتهاك للحرمات وما يحمله من قيم العصرنة والحداثة والعولمة وإدخال المفاهيم الغريبة في صلب الإسلام كحرية المرأة وحقوق الإنسان وتشويه الأسس الأخلاقية الإسلامية وانفلتت هذه التيارات التكفيرية من عقالها وخرجت من أطرها الجغرافية لتنطلق في كل أنحاء الكرة الأرضية. وتبنى بن لادن وتنظيمه وسائل العالم الحديث وتقنياته وتوجيهها ضد مبتكريها وتحررت الإسلاموية الراديكالية من كل سيطرة وطنية واتخذت رمزاً لها تنظيمياً شبكياً لاملامح له ولا هوية ولا موقع جغرافي محدد عرف إعلامياً عرف بالقاعدة وصارت هذه المنظمة تحشد وتعبيء وتجند الأتباع في كل البلدان ومن كافة الأقوام والجنسيات والأعراق . استغل الغرب هذا التوجه الراديكالي وبأموال سعودية وخليجية لمحاربة السوفييت في أفغانستان وتدفق آلاف السعوديين والمصريين والسودانيين والليبيين والجزائريين والمغاربة والعراقيين والباكستانيين والشياشنيين والفلبينيين والاندونيسيين إلى أفغانستان للمشاركة في الجهاد ضد الملحدين. وعندما وضعت الحرب أوزارها في أفغانستان، عاد هؤلاء إلى بلدانهم الأصلية وشكلوا شبكات إسلاموية تكفيرية حولت بنادقها ضد السلطات والأنظمة القائمة . عاد بن لادن إلى السعودية لكنه لم يجد مكانه فيها وتعرض للضغوط والتهديدات فغادر إلى السودان ومنها إلى أفغانستان ثانية ليستقر هناك مع مقاتليه وأنصاره . لم ير الغرب آنذاك أية خطورة أو تهديداً من تلك الحركات الراديكالية التكفيرية المتهورة خصوصاً من جانب الطالبان وحلفائهم في القاعدة .

استغل الإسلامويون الراديكاليون الأوضاع المتردية في بلدانهم وتفشي البطالة والفقر والفساد والجهل والأمية والتخلف الاقتصادي والتقني ليلقوا تبعات كل ذلك على استغلال الغرب لثروات ومقدرات البلدان الإسلامية وفساد الأنظمة الحاكمة فيها لكسب الأنصار والمؤيدين لتحقيق نبوءة صاموئيل هنتنغتون وأطروحته حول صدام الحضارات. كانت الشرارة الأولى لهذا الصدام الحضاري كما رد له وخطط الإسلامويون هو ضرب الغرب في صميمه وتدمير رموزه السلطوية والسياسية والاقتصادية وتجسد بهجمات الحادي عشر من أيلول 2001 . وجاءت ردة الفعل الغربية بشن الحرب الانتقامية والوقائية كانت الأولى ضد أفغانستان والثانية ضد العراق. أطاحت حرب أفغانستان بنظام طالبان وأرغمت القاعدة على العمل السري والاختباء تحت الأرض بالرغم من اعتقال وقتل الآلاف من أتباعها في مختلف أنحاء العالم، كما تم تفكيك خلايا سرية نائمة وإبطال مفعول عبوات ناسفة وسيارات مفخخة وتفجيرات كانت معدة ضد أهداف حيوية وإستراتيجية ضد سفن راسية في مضيق جبل طارق ومحاولات استخدام مواد سامة في بريطانيا وفرنسا واسبانيا وإطلاق صاروخ أرض ـ جو من طراز ستينغر ضد طائرة مدنية في مطار هيثرو البريطاني وإسقاط طائرة على مبنى القنصلية الأمريكية في كراتشي وتفجيرات متعددة ضد سفارات غربية في بانكوك وبيروت وسينغافورة والعديد من التفجيرات هنا وهناك في المغرب ومصر والعربية السعودية وغيرها وتفشي أسلوب العمليات الانتحارية.كما ادعت واشنطن بأنها تمكنت من قتل واعتقال حوالي ثلثي من قادة القاعدة في أكبر عملية مطاردة الإنسان في تاريخ البشرية وأشهر هؤلاء القادة رمزي بن الشيبه الذي اعتقل في أيلول وعبد الرحيم النشيري الذي قتل في أكتوبر وأبو زبيدة في نوفمبر وخالد شيخ محمد في آذار ورضوان إسماعيل الدين المعروف بالحلبي في آب بينما قتل آخرون كقائد سنان الحارثي في اليمن في نوفمبر في أفغانستان في ديسمبر .

قدر بروس هوفمان الخبير بالإرهاب من مؤسسة راند الأمريكية للبحوث آنذاك في بين سنة 2001 و 2004 عدد قتلى القاعدة بـأكثر من 4000 عنصر قيادي لكنه أشار إلى أنه تم استبدالهم بسرعة بمجرد تعرض البعض منهم للقتل أو الاعتقال فالقاعدة تعيد تنظيم نفسها باستمرار وبالرغم من تعرض المنظمة للإرهاق والضعف إلا أنها قادرة دوما على تجنيد عدد كبير من الأتباع والمتعاطفين ومواصلة إستراتيجيتها .

وهكذا منذ أيلول 2001 غيرت القاعدة من تكتيكها وتبعثرت في أوسع مساحة ممكنة من الأرض وشجعت المجموعات المحلية على التحرك المستقل باسمها ونشر أيديولوجيتها وتكنيكها عبر الانترنيت فقد تم استبدال قادة ميدانيين وكوادر قيادية اختفت بكوادر وسيطة من الدرجة الأدنى أقبل خبرة ومراسا بيد أنهم قادرون على أخذ زمام المبادرة وقيادة العمليات كما صرح نائب الأميرال لويل جاكوبي في نهاية 2004 بصفته مديرا لوكالة الاستخبارات العسكرية التابعة للبنتاغون . بينما علق مختتما الخبير بالإرهاب والعميل السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سي آي أيه مارك ساغمان والذي درس باسهاب وتمعن أساليب القاعدة كخبير نفسي ودرس خلايا القاعدة في أوروبا عقب في سلسلة من المحاضرات في عدد من الوكالات الحكومية الأمريكية قائلا: قد لاتحدث في الأمد القريب هجمات استعراضية هائلة من طراز هجمات أيلول 2001 بل المزيد من الهجمات من النوع الذي حدث في مدريد في ولندن وشرم الشيخ وبالأخص في أماكن أخرى في أوروبا. لا ينبغي أن يغيب عن أبصارنا أن القاعدة تعمل بسرعتين فمن جهة تقدم الدعم التقني والمالي للجماعات الإسلاموية المتطرفة لمهاجمة الغربيين وحكومات الدول الإسلامية التي يعتبرونها عميلة وخائنة ، وفي نفس الوقت التحضير سراً وبتأني وبطء لعمليات كبرى استعراضية تحدث دوياً إعلامياً كبيراً وتوقع الكثير من الضحايا ضد الولايات المتحدة الأمريكية أساسا تفصل بينها بضعة سنوات لازمة للإعداد الدقيق والتنظيم المتقن كما يشير دانيل بينجامان المسؤول عن مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ويعمل اليوم كباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية . حاولت الإدارة الأمريكية إخفاء هذه الحقائق والمعطيات الجديدة لأنها تولد لدى المواطن شعورا بالهزيمة في معركة الإرهاب كما يؤكد لاري جونسون نائب مدير سابق في شعبة مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية.

مازال للقاعدة نفس الأهداف السياسية التي تتلخص بتوسيع رقعة الصراع ونشر الجهاد ضد الغرب وطرد الكفار من الشرق الأوسط وإصابة الهدف الحقيقي الذي هو في نهاية المطاف الأنظمة العربية والإسلامية الموالية للغرب التي تنوي إطاحتها في الباكستان والعربية السعودية ومصر والنظام العراقي الحالي الذي جاء في أعقاب سقوط نظام صدام حسين الديكتاتوري . فغزو العراق قدم فرصة لاتقدر بثمن للإرهاب الدولي ونفساً جديدا لتنظيم القاعدة الذي تعرض لضربات موجعة في أفغانستان وذلك لسببين : فلقد اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية في أوقات حاسمة وحساسة إلى سحب جزء كبير من إمكاناتها ووسائلها العسكرية من جنوب شرق آسيا سنة 2002 مما أتاح للقاعدة فرصة تكوين ملاذات جديدة في المناطق المتاخمة لباكستان . فلقد تم نقل وسحب 70 إلى 80 بالمائة من التجهيزات والقوات الخاصة والمخابرات إلى العراق لإطاحة صدام حسين وكان ذلك من الأسباب التي مكنت أسامة بن لادن البقاء على الحياة والمكوث في المنطقة وإعادة تنظيم وتجميع قوى منظمته القاعدة كما تعتقد جولييت كاييم العضوة في اللجنة القومية للإرهاب وعملت في وزارة العدل في عهد كلينتون ودرست مادة مكافحة الإرهاب في جامعة هارفرد.

وبالتالي فإن عملية غزو العراق وفرت للقاعدة إمكانية تحشيد وتجنيد وكسب عناصر جديدة متحمسة ومندفعة لم تكن تأمل بها قبل الغزو إلى جانب توفير أرض للتدريب وقاعدة جديدة للانطلاق .

ومن هنا، وعلى عكس ما أشيع بأن القاعدة تنظيم شبحي حلت محله مجموعة من الخلايا الإرهابية الطوعية فهذا التنظيم مازال يسيطر وينظم وينسق العمليات ولديه دور عملياتي ويقدم مساعدة تقنية كما أثبتت التحقيقات تورط هذا التنظيم بجميع العمليات الإرهابية الكبرى في السنتين الماضيتين في العربية السعودية وقطر ومصر واسبانيا وبريطانيا بالرغم من كونه أقل تنظيما ومركزية بعد أن فقد ملاذه الأفغاني ودعم نظام طلبان المنهار وبالتالي تغيير وسائل الاتصال إلا أن أسامة بن لادن ونائبه أيمن الظواهري مازالا يقودان التنظيم ويوصلان الرسائل والتوجيهات والأوامر لأتباعهما في كل مكان لاسيما في العراق وفي أوروبا. منذ الحادي عشر من أيلول 2001 وكرد على الهجمات التي تعرضت لها الولايات المتحدة الأمريكية في عقر دارها تخوض إدارة بوش حربا لاهوادة فيها ضد ما تسميه بالإرهاب العالمي دون أن تنجح في تقديم تعريف علمي واضح ودقيق لمفهوم الإرهاب . فليس مصادفة يعد سلسلة الهجمات الإرهابية الأخيرة التي وقعت في لندن وشرم الشيخ أن ترد الإدارة الأمريكية في هذه المعركة بسلاح المصطلحات والمفاهيم وقامت بتغيير تسمية إستراتيجيتها إلى " المعركة العالمية ضد التطرف العنيف" وهي تسمية فضفاضة وأشمل من التسمية السابقة التي كانت تعرف " بالحرب الشاملة لمكافحة الإرهاب" فهل هذا يدل على عجز أم تغيير في التوجه الاستراتيجي الأمريكي بغية عدم تجاهل البعد السياسي والأيديولوجي للصراع القائم ؟ يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية باتت واعية لكافة أبعاد هذه المواجهة المدمرة والخطيرة فالرد العسكري الذي أعلنته أمريكا على هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 قد أعطى نتيجة محدودة توجت بنصر عسكري تقليدي تجسد بإطاحة نظامي طالبان في أفغانستان والبعث في العراق لكن الرد العسكري لم يؤد إلى إضعاف أنصار الحرب المقدسة ضد الوجود العسكري الأمريكي في العالمين العربي والإسلامي.


د. جواد بشارة/ باريس

Jawad_bashara@yahoo.com




Opinions