Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

عواصف الغربة

...... أكلتهُ الغُربة ومزقتهُ وجعلتهُ أشلاءاً..... ومحطاتُ الطريق من بلادهِ حتى وصُولِهِ هذهِ البلاد كانت مُعاناة متواصلة مُؤلمة فيها من الصعُوبات مالايُطاق أو يُوصف .....قسّت قلبهُ هذهِ المعاناة وتصلبت مشاعِرهُ .... وأصبحت الدموع عصيةً على عينيهِ ..... تألمّ أكثرَ مما ينبغي وبكى طوال رحلتهِ حتى هُنا فجفت الدموع وبعضاً من أركانِ قلبهِ أستقر فيها الحجر وتراكم .... لم يعُدْ يفهم ماذا دهاه؟ ....لم يعُدْ يعرِف مشاعِرهُ ويفهمُها لقد باتت غريبةً عنهُ ..... رُبّما لم يُعدْ كما كان .... رُبّما تغير.... إِنّهُ أصبح شخصاً أخر غير الذي كانهُ في وطنهِ ..... وكأنّ بالمُعاناة متناثرة على طول الطريق من حيثُ ودعّ وطنه حتى هذهِ البلاد وكُلّما زاد أبتعاداً عن وطنهِ تكاثرت المُعاناة ففاجأتهُ بالجديد الغريب.... والصعب والسهل والشاق والمُستنكر والمقبول والمناسب والمرفوض .....هُنا كل شئ يبدو مُعيباً وغير مُستساغ وعلى غير مايُرام ورُبّما يعود ذلك الى أنّ الأنسان الشرقي بطبعِهِ ميّال الى الأنتقاد وأستهجان مُعظم الظواهر أحياناً حتى الطبيعية منها وصعوبة تقبُّل الأشياء بحقيقتها وخلع رداء المثالية والقُدسية عنها والذي ألبّسهُ المجتمعُ الشرقي لها رُغماً عنها وهو في النهاية رجلٌ من هذا الشرق الذي رضع منهُ أيجابياتهُ كما سلبياتهُ تماماً ..... لا يذكُرُ أنّهُ تعلمّ في محيطهِ ذلك تشجيع الأخرين وأمتداحهم بقدرِ ما تعلمّ رصد الهفوات وأنتقاد مُرتكبيها مهما كانت من هفواتٍ بسيطة أو كبيرة ..... لم يتعلم في محيطهِ ومُجتمعهَ ذاك كثيراً عن الغُفران والتسامُح ومحاولة علاج المشاكل بأفضلِ الطُرق ..... تعلمّ في مُجتمعهِ ذاك كيف يكونُ حدّياً لايرضى للأسود أن يشُوبهُ خيطٌ أبيض ولا للأبيضِ أن يُنقشَ فيهِ بلونٍ أخر .....وهكذا يبدو كل شئ على غيرِ مايُرام وتُصبِحُ الحياة أصعب وأكثرُ تعباً وشقاءاً ......فقائمةُ الممنوعات أطولُ بكثير من قائمة المسموح بهِ والمقبول........ والحصارُ المفروض على الأفكار والرغبات والمشاعر الأنسانية يلاحِقُ الأفراد حتى في أحلامهم .....لقد خرجَ من وطنهِ وفي جيبهِ صورةَ حبيبته الجميلة الرائعة ...... أحبّها كما لم يحبَّ أحداً من قبل .....وحين كانت تُفارِقهُ ..... روحهُ أيضاً تذهبُ برفقتها بعيداً عنهُ وأن خاصمتهُ عزّ عليهِ النوم وخاصمتهُ السعادة وأن أبتسمت لهُ رضيت عنهُ الدُنيا بأسرِها .... لطالما تمنّى أن يلّمُسها .... أن يضُمّها .... أن يحتضنها ..... لكنّها كانت متمنعة دائماً .... كانت مُستقيمة حتى أنّهُ لم يعرف ملمس وجنتيها ..... كانت( شريفة جداً) على حدّ تعبير أهل بلادهِ .... ففي وطنهِ هكذا تُثّمنُ الفتاة .....الشريفة هي التي لا ترضى لمسةً من حبيبها ..... ولا حتى ملمس يديها .... وأنّ دلَّ هذا فأنّما يدّلُ على أنّها الزوجة الصالحة المُناسِبة الأمينة التي تحفظُ بيتها وعهدها لزوجها ..... أما أذا سمحت بغيرِ ذلك وأهتزّ قلبها فتلك فتاةٌ سهلة ورخيصة لاتستحقُ أن تُختار لتكون زوجة المُستقبل .....وبظلِ هذهِ المقاييس تُتقلصُ المساحةُ المرسومة للمشاعر والعواطف والأحاسيس وكُلُ ما يمكن أن يعتمل في النفس كبشر .... تتقلصُ المساحة لتكون أحياناً معدومة تماماً ومُلغاة ويُصبحُ التهاون من الخطايا التي يصعُبُ غفرانها ..... هو نفسهُ كان مُستعداً للتخلي عن حبيبتهِ رغم كُل حبهِ لها لو طاوعتهُ مرة وتركتهُ يُقبلّها .... لكنّها لم تفعلْ ....ففي رأي مُجتمعهِ أن الفتاة هي التي تُعطي الفُرصة للرجُل وتدعوهُ ليفعل الكثير .... والرجُل برئ ضحية أحابيل المرأة فهي التي تُوقِعُ بهِ ....وهو لاخيار َ لهُ ..... هي من تدعوهُ ليُقبلها وليحتضنها وليلمسّها .... وبهذا فهي المسؤولة عما يكون دائماً واللوم فيما بعد هو ما تستحِقهُ ...... لو رأى أهل وطنهِ ما رآهُ
لعرِفوا كم هم يظلمون النساء .... ولتأكدوا بأنّهم يُعاملون المرأة مجردينها من أنسانيتها .... وطنهُ الذي تركهُ خلفهُ وهو يحترِقُ ألماً لفُراقِ حبيبتهُ والتي لم يعرِف طعم شفتيها لحد الآن .... هل كانتا بطعم الكرز .... أم التُفاح .... أم الخوخ .... أم المشمش ؟؟.... لكم تمنّى أن يحتضِنها ويضُّمها اليهِ ..... كانت دائماً تصُدّهُ وتتمنّع وتُحاجِجهُ : ــ كُلُ شئ يأتي بعد الزواج .... في اوانهِ.
تمنُّعها هذا وصدّها لطالما زادهُ لوعةً ولهفةً وتعجُلاً للزواجِ بها ..... الآن وبعدَ أن شبِعَ غُربةً وفُراقاً وشبِعَ من أجساد الفتيات الجميلات اللطيفات يعرِفُ لماذا كان الشباب في بلادهِ يتقاتلون من أجل الزواج .... لم يكُنْ الحُب وحدهُ كما كان يُفسّر في وطنهِ بل كان هُناك دافِعٌ أخر لايُسمحُ البوح بهِ وهو الجنس كغريزة أنسانية .... لقد كان الزواج طريقهُم الوحيد اليهِ .... وهكذا أختلطت الأمور ببعضِها وجاءت التفسيرات للأسباب والنتائج غير حقيقية وخالصة ....
لقد عرِف أجساداً كثيرة جميلة ورائعة ولم يعُدْ يتحرقُ شوقاً للزواجِ بمحبوبتهِ التي عاهدها على الأخلاص والعمل لألحاقها بهِ بسُرعة ..... قررّ أن يضعَ هذهِ الصُورة في خانة أحلى الذكريات .... الأسباب كثيرة ومُتوفِرة ولن يعجز عن قولِها .... أبسطها إنّهُ يشعُرُ بالمسؤولية أتجاه أهلهِ وهو العاق في حقِهم طوالَ حياتهِ .... إَنّهم في ضيق الحال وعليهِ مُساعدتَهُم مادياً .....هذا السببُ كافٍ لجعلِ كُلِ الأفواه اللأئمة تصمُت ولا تعترض حتى فاه حبيبتهِ الغالية وإن غُلِبَ حمارهُ كانت هُناك أسبابٌ أُخرى وعِللٌ ما أكثرها .... وحينَ سيضطرُ للزواج أملاً في الذُريّة سيُفكِرُ تماماً كما كان يُفكِرُ في بلادهِ وسيبحثُ عن فتاة ( شريفة ) بمقاييس بلادهِ تصُونَهُ وتصونَ بيتهُ وعهدهُ.... بالطبع لن يتزوج واحدةً ممنّ عرِفهُنّ وحفظَ تفاصيل جسدها فهو في النهاية رجُلٌ شرقي وسيبقى شرقياً في تفكيرهِ حتى لو أستوطنَ القمر .... وتغيير الأماكن لايؤثر فيهِ فهو من أشدّ المُقاومين للتغيير وتقبُّل الجديد .... وكرامتهُ لن تدعهُ أبداً يثِقُ في امرأةً ناصفتهُ فِراشهُ دون عقدِ زواج مُوثّق في المحكمة وبشهادة الشهود .... عقدٌ محفوظٌ في أوراق رسمية ..... ماأشبههُ بعقد أمتلاك العقارات والأشياء الأُخرى حيثُ يُعطيهِ هذا العقد حق أمتلاك الأخر وبسط هيمنتهِ عليهِ ....... كيف لهُ أن يُصدق أن هذهِ المرأة لن تُشارِك رجُلاً أخر غيرهُ فراشه كما فعلت معهُ تماماً .................................................
ــــ بعد بضعةِ سنين ــــ

المسألةُ في نظرهِ أخذت كفايتها من القناعة والتفكير ... فلقد سبق وأن قلّبَ الموضُوع في ذهنهِ طويلاً وبحثَ في كُلِ أوراقِ تأريخهِ في وطنهِ وأستعرض كُلُ وجوه الفتيات اللواتي رآهُنّ حيثُ عاش في وطنهِ وأعترف لنفسهِ أن من الأفضل لهُ ان يُخرِجَ صورة حبيبتهِ من خانةِ أحلى الذكريات الى الواقع فيتزوجَ بها أن لم يكُن من أجلِ الحب فلأنّهُ لم يعثرْ على أُخرى غيرها يعرِفُها كما يعرِفُ حبيبتهُ هذهِ ....
وجدَ نفسهُ غارقاً في بحرٍ من الأفكار ..... أمواجٌ تتلاطم وتتدافع وتتقاتل والنتيجة عقلٌ مُنهك وجسدٌ مُتعبٌ مُرهق .... أي شعُورٍ أعتراهُ وهو وحده .... لقد نظر الحياة فوجدها خاليةً خاوية كالصحراء تماماً .... لا بشر .... لا نبات .... لا حيوان .... لا أي كائن ولا حتى حجر ..... وحدهُ والفراغ .... فراغٌ هائِل .... وهو وحدهُ وسط هذهِ الرمال التي أبتلعتهُ لنصفِ قامتهِ ..... شعورٌ أقلُ ما يمكِنُ وصفهُ أَنّهُ شعورٌ مؤلم ومُفزع وجارِحٌ للحياة لأنّهُ النقيض لها تماماً .....
تذكرّ وجه حبيبته الجميل .... هل هو وجهٌ جميلٌ حقاً أم إِنّهُ يتصورُ ذلك .... على الأرجح إِنّهُ وجهٌ عادي
..... ليس بقبيح ولكن ليس بجميلٍ أيضاً .... إِنّهُ وجهٌ بقسمات مقبولة ومرضية .... الحُبُ يُصّوِرُ الأشياء والأمور بكثيرٍ من التزيين والتزويق ويُضيفُ لها الرتوش والضياء فيطمسُ حقيقتها .....
وأياً كان الحال لم يعُدْ يُطيقُ وحدتهُ والأمرُ سيّان أن كانت مشاعِرهُ مُتقدة تجاه حبيبتهُ أو أصبحت أكثر هدوئاً وتعقُلاً وواقعية ..... فالنتيجة واحدة .... إِنّهُ يرغبُ في أن يُصبِحَ أباً كأي رجُل ....وكرجل شرقي لن يسمحَ لنفسهِ أبداً أن يكونَ لهُ أولاد ممنّ قاسمنهُ الفراش صداقةً لا زواجاً دونَ عقد زواج موثق صادر عن المحكمة ..... وهكذا يُريدُ أن يتزوج بواحدةٍ لم يلّمُسها قط أبداً كما لم يلّمُسها غيرهُ من الرجال .... أرضاً بِكر يكونُ هو فاتحها ومُكتشفها
......مثل هذهِ المرأة فقط تستحقُ أن تُصبِحَ أُماً لأطفالهِ وهو لايعرِفُ فتاةً أكثرُ أستقامةً ( وشرفاً )
ممنّ تركها خلفهُ في وطنهِ ولازالت تنتظِرهُ مُخلصةً لهُ ولعهدهِ .....
كان فيما مضى يرسمُ في مُخيلتهِ صوراً درامية للقائهِ بها مُمتلئة شوقاً ودمُوعاً وتناجياً ومناغاة ....بعد كُل هذهِ السنين وبعدَ أن تشبعَ الغُربة والألم والبعاد والأجساد الناعمة الرقيقة يعرِفُ أكثر من أي وقتٍ مضى وهو مُوقن أن اللقاء الذي أنتظرهُ لسنين طويلة سيكونُ لقاءاً عادياً .... ليس بارداً .... ليس فاتِراً .... ولكن بلا دموع
ولا لوعة ولا حرقة ولا مُناجاة .....سيكونُ لقاءاً عرِفَ الغُربة وغرفَ منها ..... فهو لم يعُدْ يُصدِقُ قصص ليلى والمجنون ولا روميو وجوليت ولا ديفيد كوبرفيلد ......
فكُلُ هذهِ القصص أخذتها الرياح وسرقتها عواصفُ الغُربة ......
بقلم : شذى توما مرقوس
2003
مُلاحظة :ــ ( عواصف الغُربة ) قصة قصيرة من ضمن مجموعتي القصصية الغير المنشورة ( حكايات جدُّ صغيرة ..... كبيرة ) ..... عن الغُربة Opinions