Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

غربال الذاكرة : ممدوح عدوان

في الثاني والعشرين من كانون اول تمر الذكرى السنوية لانتقال الشاعر والاديب والمسرحي ممدوح عدوان من دنيانا الى الدنيا الاخرة (2004) !!
عاش ممدوح عدوان 63 عاما في نشاط فكري وإبداعي لا يكل ولا يهادن حتى مع نفسه .. وبجرأة عجيبة كان يتحدى معوقات الكتابة ابتداء من المحاذير السياسية والممنوعات والمحرمات .. الى صراعه مع المرض الخبيث الذي لازمه في سنواته الاخيرة .. ولم يفقده مرحه وخفة ظله والمودة النقية التي يكنها دائما للآخرين وحبه للإبداع والاتقان الفني وفرحه الطفولي بكل شيء جميل وضحكة الصاخب !!
في آخر مرة اتصلت به ، ما ان نطقت بأول كلمتين في الهاتف سائلا عنه حتى جاءني صوته الودود ناطقا باسمي ، وقد تعرف على صوتي بالرغم من انني لم اتصل به منذ سنوات .. فعبرت له عن سروري ودهشتي لذلك فقال ( صحيح ان المرض اثر على ذاكرتي .. ولكنني لا انسى تلك الامور المنقوشة في اعماق الوعي واللاوعي .اين انت يا رجل ؟) وأراد ممدوح عدوان ان يعرف عني كل شيء في تلك المكالمة .. وفاجأني بسؤال غريب ( فيصل هل انت زعلان مني ؟) ولم اتذكر ان هنالك سببا يدعوني للزعل من ممدوح عدوان وعندما سالته عن سبب اعتقاده بانني زعلان منه , قال ( قبل سنوات قمت باجراء تعديلات على مسلسل انت كاتبه دون ان اسالك او اطلب موافقتك )
كان ممدوح عدوان يقصد مسلسل ( بام عيني) الذي كتبته للتفزيون بناء على طلب من منظمة التحرير عن مذكرات المحامية اليهودية فليسا لانغر ، وارادوا لاسباب انتاجية اجراء تعديلات على السيناريوهات فكلفوا بها ممدوح عدوان وتم تصوير المسلسل في ابو ظبي !!
ضحكت من تذكر ممدوح لذلك الموضوع القديم ، ولكنه نسى اعتذاره عنه قبل خمس وعشرين سنة ، وقلت له ( سآتي لزيارتك الان .. فقد دلوني على مسكنك في المزه .. )
قال ممدوح ( لن تأتي الان .. سأغادر في هذه اللحظة الى بيروت .. عندي هناك جلسات علاجية دورية ضد المرض الخبيث .. تعال بعد الغد .. سأنتظرك ... ياه .. مشتاقين يا رجال .. والله زمان ... اتذكر مغامرتنا في مسرحية كيف تركت السيف ..!! تعال ونحكي ..انا بحاجة الى احاديث مفرحة .. )
لم استطع زيارة ممدوح عدوان في الموعد المتفق عليه فقد قامت حرب 2003 على العراق وانشغلنا بتفاصيلها ومتابعة شؤون الوطن ، وعندما عدت بعد زمن الى دمشق كان ممدوح عدوان المبدع الدؤوب بتميز واصالة وعمق في كافة فنون الكتابة من الشعر الى الرواية والمسرح والمقالة والدراما التلفزيونية والترجمة... قد غادرها الى الدار الاخرة ! وهكذا لم نستطع ان نتذكر معا مغامرتنا في مسرحية كيف تركت السيف كما اراد في حديثنا الهاتفي
الاخير ، وعليه ساتذكرها هنا وحدي .

كان ذلك عام 1974 عندما جاءني ممدوح عدوان على غير موعد – كعادته- حاملا معه حزمة اوراق وضعها امامي طالبا مني ان اقرأها فورا !! وجلسنا نقرأ معا .. كانت الصياغة الاولى لمسرحيته ( كيف تركت السيف ) .. ولم تكن طويلة ، وكانت مثل مسرحيات ممدوح عدوان في تلك الفترة خليط من الشعر والنثر ، ساعد على ذلك كون المسرحية تقوم على حالة افتراضية وهي مجيء ابي ذر الغفاري الى عصرنا ، ودخوله في جدل ومناقشة حول مواقفه من خلال مقابلة تلفزيونية يستفزه فيها المذيع ليقول رأيه فيما صار عليه الاسلام عندما حاول البعض تغليب مصالحهم المادية على مصلحة الدين الجديد الذي لاذ به الفقراء بحثا عن العدالة والحرية !! وتدين المسرحية بشكل واضح نمو طبقات طفيلية تسلقت قمة الهرم الاجتماعي بفضل انتهازيتها.
قلت له ( كانك تتحدث عن الوضع الحالي وتشابك المصالح السياسية والاقتصادية )
قال ( لا نستطيع ان نتحدث عن هذه الايام فنلوذ بالتاريخ بالانابة .. )
قلت ( وماذا تريد ان تقول من وراء هذا النص المسرحي ؟)
قال ( انني احرض على عدم نسيان المبادئ الحميدة ... وادافع عن الإنسان المضطهد وحقه في الوجود والعيش الكريم وادين السكوت عن الظلم والاجحاف .)
كان ممدوح عدوان في مسرحية ( كيف تركت السيف ) كما في مسرحية «ليل العبيد» قد وضع الاحداث في فترة صدر التاريخ الإسلامي ليستشف من خلالها كيف تعيد الطبقات الاجتماعية الثرية البنية السياسية في المجتمع بما ينسجم مع ديمومة مصالحها الاقتصادية والقبيلة ، وكان لجوء ممدوح إلى التاريخ والاستعانة به محاولة منه للإجابة عن بعض ما كان قد أنتجه واقع مجتمعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي .
قلت له ( ارى في عنوان مسرحيتك نوعا من العتاب .. كيف تركت السيف !!)
قال ( .. ليس عتاب فقط ، بل انه صرخة الم ..العتاب على «أبي ذر» .. الم تر انني اكرر عليه في المسرحية مقولة «تعيش وحدك، وتقاتل وحدك، وتموت وحدك»، بدلا من التوجه إلى الناس كي يقاتل بهم بغية رد الاعتبار إليهم.)
وسالته ما المطلوب مني بعد قراءة النص ..
قال انه يريد مني ان اقوم باخراج العمل للمسرح خاصة وان اللعبة الفنية فيه تحتاج الى خيال جرئ يعرف استخدام الصورة فالفكرة تعتمد على فرضية مجئ ابي ذر الغفاري الى عصرنا واجراء لقاء تلفزيوني معه !!
لم يكن طلبه سهل التحقيق من عدة جوانت ، فمن الجانب الاجرائي كان النص جرئيا واستفزازيا من الناحية الرقابية الامنية والسياسية ومن ناحية القيود الدينية ، كما انه بحاجة الى جهة تتبني العرض المسرحي اذ ان القانون في سوريا لا يسمح بتقديم اعمال مسرحية الا من قبل فرق مجازة ، ولا نتوقع ان يسمحوا لفرقة خاصة بتقديم هذا العمل بما يحمله من قيم فكرية وسياسية ، وهل ستوافق مديرية المسارح ووزارة الثقافة على اجازة النص !! من جانب اخر قضية اختيار الممثلين لمثل هذا العمل الجاد !
يبدو ان ممدوح عدوان كان قد فكر بهذه الامور واجرى بعض الترتيبات مع المسرح الجامعي التابع لاتحاد الطلبة ، وفيه عناصر فنية جيدة وشجاعة ، كما ان عروض المسرح الجامعي لا تحتاج الى موافقة من وزارة الثقافة !
وهكذا كنا بعد ايام مجتمعين مع نخبة من الممثلين الجامعيين يملآهم الحماس للعمل والتحدي ايضا في التفوق على اعمال مسرح وزارة الثقافة .. وكان اول اجراء قمت به على النص ان حددت ملامح تلك الشخصيات التي رمز لها ممدوح عدوان بمجرد ارقام ( الرجل واحد – الرجل الثاني .. الخ ) فجلعت لكل منهم صفة ومهنة واسما وانتماء !!
وتم اختيارالممثلين من عناصر المسرح الجامعي ( وبعضهم الان من ابرز نجوم التمثيل والاخراج في سوريا ) واستمرت التمارين وراء ابواب مغلقة كي لا يطلع غيرنا على مضمون المسرحية فيسعى البعض الى منعها قبل عرضها !!
وبعد شهر من التمارين ارتأى البعض ، واعتقد ان ممدوح عدوان كان منهم ، ان نستأنس برأي رجل دين واستاذ جامعي مختص بالشؤون الاسلامية ، وبالفعل تمت دعوة رجلين من ذوي الاختصاص لهذا الغرض ، وقد اعجبهما العمل جدا وابديا بعض الملاحظات الممكن تنفيذها مثلا التخفيف من ابراز علاقة ابي ذر بالامام علي ، ولكنهما نصحانا بعدم تجسيد شخصية الخليفة عثمان على المسرح فذلك سيثير ضدنا بعض الاشكاليات ، ولم يكن من السهل حذف شخصية عثمان من المسرحية فهي محورية واساسية ، وكذلك شخصية معاوية التي لم يعترضا على تشخيصها على المسرح !! وقد توصلت الى حل بالنسبة الى ظهور عثمان ، وذلك عندما يطلب ابو ذر من مقدم البرنامج التلفزيوني حضور عثمان للشهادة يعترض المقدم بان ذلك غير وارد لان تشخيص الصحابة الكبار مرفوض من الهيئات الاسلامية ، ولكن ابا ذر يصر على سماع اقوال عثمان ، فيتطوع طالب من المعجبين بعثمان ويحفظ مواقفه واقواله ان يقول نيابة عن عثمان ما ينبغي ان يقال ، وقد جعلنا الطالب في البداية يقول حواره وهو يجلس في صفوف المشاهدين وتدريجيا ينتقل الى المسرح ويرتدي شيئا فشيئا الملابس الاسلامية حتى يتقمص الشخصية التاريخية !
استطاع اتحاد الطلبة بصفته منظمة جماهيرية وحزبية ان يحصل على جميع الموافقات للعرض وان يحجز مسرح الحمراء في دمشق لمدة شهر ..
ومر يوم الافتتاح بسلام .. وبنجاح كبير ملآنا سرورا ونشوة !
ولكن في اليوم التالي وجدنا جنودا يحرسون مبنى المسرح ، واخبرنا الضابط المسؤول عن وجود تهديدات من بعض المتطرفين بحرق المسرح اذا لم يتوقف العمل !!
جاءني ممدوح عدوان – واعتقد انه كان يومها ضابط احتياط في التوجيه المعنوي – وسالني رأيي معبرا عن قلقه على سلامة الممثلين وسلامتي كمخرج خاصة وانني غير سوري ، بعد التشاور اصر الممثلون على تقديم المسرحية احتراما للجمهور الذي ملاء القاعة !! وفي نهاية العرض قال لنا بعض الحاضرين من المثقفين والاعلاميين ان السلطات لن تسمح لنا ان نستمر ... وسيمنعوننا غدا !!
لم يمنعوننا من العرض في اليوم الثالث ولكن كانت جميع مقاعد الصف الاول والثاني محجوزة بامر من وزير الثقافة الذي حضر ومعه رهط من المسؤوليين والاتباع .. شاهدوا العرض حتى نهايته .. بعدها وقف وزير الثقافة صارخا بعصبية ( لن يشتم معاوية في بلد معاوية !! ) ..كانت شخصية معاوية هي العقل المدبر لكل ما يتعاكس مع توجهات ابي ذر !!
في اليوم الرابع كان الممثلون مستعدين للعرض ، وكانت القاعة ممتلئة بالحاضرين الذين اصروا على الحضور ولو وقوفا كي يشاهدوا المسرحية قبل منعها المتوقع !
وقبل العرض بدقائق جاءنا من يقول ان العرض ممنوع بامر وزير الثقافة .. وباءت جهود بعض اعضاء اتحاد الطلبة بالفشل لرفع المنع ..وبعد انتظار طويل بدأ المشاهدون في القاعة باحداث يعض الشغب المشروع .. فصعدت خشبة المسرح مع بعض الممثلين وقلت ( ايها الحضور .. باختصار شديد .. المسرحية ممنوع عرضها .. نأسف ونشكر حضوركم !!)
****
بعد ذلك بشهرين كنت اجلس جوار ممدوح عدوان في صدر قاعة كبرى بدمشق حيث اقيم احتفال لتكريم اهم الاعمال المسرحية خلال سنة - وبعد منح الجوائز للمثلين في اعمال مسرحية مختلفة ، قام راعي الاحتفال- وكان وقتها وزبر الدفاع- ليعلن فوز ممدوح عدوان بجائزة احسن نص مسرحي وفوزي بجائزة احسن اخراج مسرحي لعام 1974 عن مسرحية ( كيف تركت السيف ) التي منعوا عرضها في اليوم الرابع !!! Opinions