قداسة البابا والعالم الأسلامي وجدلية حرية الفكر
المقدمةلقد ولد الدين الأسلامي في الجزيرة العربية في مكة اولاً وبعدها شبّ في المدينة المنورة حيث نادى نبي الأسلام محمد بن عبدالله أبناء أمته في جنبات جزيرة العرب بلسان النبي :
أتبعوني أجعلكم أنساباً
والذي نفسه بيده
لتملكن كنوز كسرى وقيصر .
وكانت اولى الفتوحات الأسلامية في بلاد سورية والعراق واليمن ومصر وهذه بلاد مسيحية في الغالب ، فكان التمازج والتفاعل الحضاري ، وكان المسيحيون في هذه البلدان يشكلون الأرض الخصبة لنمو وانتشار الدين الجديد ، إن كان بالأقناع او بحدّ السيف او تهرباً من الضرائب الفروضة على غير المسلمين ، او رغبة في التقرب من الحاكم الجديد .
العصر الذهبي للأمة العربية الأسلامية
لقد كان المجتمع العربي في صدر الاسلام في ذروة مجده وقوته ، ورأى انه بحاجة ماسة الى تطوير نفسه من الناحية الفكرية والعلمية لكي يتمكن من مسايرة الطفرات والتطورات السريعة ، وبغية بناء الدولة التي تدعو الى طلب العلم ولو كان في الصين ، وهكذا طرق هؤلاء أبواب الترجمة من الفارسية واليونانية والسريانية لتشكل اولى النوافذ نحو الحضارات المختلفة في خطوة طموحة للتفاعل مع علوم وثقافة الآخر .
لقد بدأت الترجمة من المدينة المنورة في ترجمة الرسائل وكتب الملوك ثم كانت الترجمة في دمشق عندما انتقل الحكم العربي اليها ، وكان من السريانية الى العربية . ولكن هذه الحركة العلمية والترجمة بصورة خاصة ازدهرت في العصر العباسي واشتهر هذا العصر بمدارسه العلمية كمدرسة حنين بن اسحق ومدرسة ثابت بن قرة الحراني وغيرهما ، واشتهر في حقل الثقافة والطب والفلك والترجمة في هذا العصر : يوحنا بن ماسويه ، وأبي زكريا الطيفوري وبختشوع بن جبرائيل ، وعيسى بن علي النصراني ، وعيسى بن يحي بن ابراهيم ، وثابت بن قرة الحراني ، ومتي بن يونس ابي سعيد السيرافي ، والجاحظ ... والقائمة تطول إذا أردنا نشر أسماء كل من ساهم في الحقل العلمي والثقافي في هذا العصر الزاهر من تاريخ الأمة العربية الأسلامية .
إذا وضعنا الحالة العربية الأسلامية على مائدة التشريح ، مقرونة بسؤال مفاده : لماذا تأخر العالم الأسلامي بعد ان كان متقدماً لمدة خمسة قرون في الوقت الذي نرى تقدم العالم المسيحي بعد ان كان متأخراً لمدة عشرة قرون . ربما تكون الأجابة على هذا السؤال مقرونة بالعودة الى عهد الخليفة العباسي المتوكل ( اغتيل 862 م ) الذي أغلق ابواب الأجتهاد وألغى دور العقل فحرم الكتب المخالفة ، وربما كان ذلك انعطافة في مسيرة الأمة العربية والأسلامية ، لتتوقف عجلة التقدم اولاً وليبدأ مشوار العودة نحو الوراء ثانياً .
لقد أغلقت نوافذ العلم والمعرفة في هذه الديار ولم يتجدد الهواء الآسن ، وزاد في الطين بلة ألوان التحريم والتكفير وتكميم الأفواه ، فكان القمع الفكري والسياسي ، وهكذا مُنع العلم واسباب التقدم عن هذه الأمة لتبقى في القرن الواحد والعشرين تحبو في مؤخرة موكب التقدم العلمي والحضاري والأنساني رغم ما تحمله من اسباب التقدم من قوى بشرية وثروات طبيعية .
محاضرة قداسة البابا بينديكت السادس عشر
على صعيد الحوار الفكري يمكن شرعنة كل الأسئلة ، دون وجل او خوف ، وما كان ثابتاً من النصوص المقدسة بات متساهلاً وفاسحاً مساحات كبيرة من التراجع أمام تيار التقدم العلمي الهائل ومساحات أخرى لحرية الفكر والسلم والمعتقدات ، وكان هذا التساهل مقروناً بتراجع فكر الحرب والعنف مع انتعاش الفكر التفكيكي النقدي للنصوص المقدسة .
ونحن نولج عتبة القرن الواحد والعشرين بات من السهل التصريح بأن المقولة التي تقول : ان هذا النص او هذه الثقافة صالحة لكل زمان وفي كل مكان ، فإنها بحاجة الى تدقيق ومراجعة من لدن المفكرين .
ما يشغل العالم اليوم هو العنف والأرهاب الذي يطال الناس الأبرياء في العالم الأسلامي اولاً وبقية مناطق العالم ثانياً . وتاتي ( مقاطع ) من محاضرة قداسة البابا بينيديكت السادس عشر يوم 12 ايلول في جامعة ريجينبيرغ بألمانيا في هذا السياق . في جملة ما تتطرق اليه هو الحوار الذي جرى عام 1391 م في الثكنات الشتوية قرب أنقرة بين الأمبراطور البيزنطي مانوئيل باليولوغوس الثاني وفارسي متعلم ، حول المسيحية والأسلام ، وورد في الأقتباس على لسان الأمبراطور ان نشر الأيمان بالعنف أمر مناف للعقل والمنطق فالعنف لا يتفق مع طبيعة الله ولا يتفق وطبيعة الروح . إنه يقول إن الله لا يسر بالدماء وليس بعقلانية مناقضة طبيعة الله ، فالأيمان يولد في رحم الروح ، وليس الجسد ، ومن يهدي الى الأيمان إنما يحتاج الى القدرة على التكلم حسناً والتعقل دون عنف او تهديد او وعيد .
شخصياً قرأت مقالات كثيرة لكتاب تطرقوا الى محاضرة قداسة البابا منهم من تناولها بمهنية وحيادية وتحليل عقلاني ، وكان مأخذهم على المحاضرة من ان المحاضر ( قداسة البابا ) لم يتطرق الى الطرف الأخر في الحوار وهو المثقف الفارسي حيث انصبت المحاضرة على إبراز أقوال الأمبراطور البيزنطي دون التطرق الى اجوبة المثقف الفارسي ، لكن الغريب لم يحاول أي كاتب من أيراد ما كان من أقوال الطرف الآخر الذي أهمله المحاضر .
من جانب آخر يريد المحاضر في كلمته الأكاديمية تعزيز الصلة بين العقيدة والفلسفة ، وإن اوروبا تحتفظ بمرجعيتها المسيحية والمنطق اليوناني ، وهو يحاول تذكير العلمانيين العقلانيين بهويتهم المسيحية ويشد على مجاورة العقيدة للعقل ، وقداسة البابا من موقعه الديني في قمة الهرم التنظيمي للكنيسة الكاثوليكية كانت محاججته لصالح دين منظم مع رفض الأخلاقية العلمانية لخلفيتها الممتدة الى الثورة العلمية .
العبرة تكمن في قبول الآخر
إذا نظرنا الى الأديان بمنظور علمي بحت ستبدو كلها غير عقلانية ، كما ان هذه الأديان في كثير من جوانبها تكون غير عقلانية من زاوية أيمان الآخر ، فالمسيحية غير عقلانية بنظر المسلم او البوذي ، كما يمكن ان تكون البوذية غير عقلانية من وجهة نظر المسلم او اليهودي او المسيحي ، والأسلام يكون غير عقلاني بنظر العقائد الدينية الأخرى ، وقد دفع بابن الزعيم الليبي الى دعوة البابا لاعتناق الأسلام باعتبار ان الدين الأسلامي يمثل العقيدة القويمة ، وهكذا كل دين يرى الحق والصواب بجانبه ، ولها ينبغي ان يكون عامل الأحترام هو السائد لكي يتحقق التعايش السلمي بين التنوعات الدينية والمذهبية في هذا الكوكب .
العالم الأسلامي اليوم بأمس الحاجة الى العقل المستنير ويدافع عن حرية فكر الأنسان ويتطلع الى بناء جسور لمقاربة الآخر دون التشبث بامتلاك الحقيقة ، والبادئ من نقطة صلدة لا يتهيب فكر الآخر والمحاورة معه بندية وصداقة من دون اللجوء الى عوامل التهديد والوعيد انطلاقاً من الفكر الأديولوجي في امتلاك الحقيقة وامتلاك حق تمثيل الفكر المقدس على الأرض . إن تجسيد الحرية وتقديس الحوار مع الأخر يعني قبول الآخر كما هو بل يقبل هفواته واخطائه إن وجدت ، هذا هو الوجه الجميل في قبول الاخر . فاللجوء الى اثارة ردود فعل عاطفية وثورية قبل الألمام ومناقشة المقال بروح موضوعية وبعملية نقدية علمية وتاريخية هذا هو الوجه الأمثل للحوار . نحن مسيحيي الشرق الأوسط وفي العراق بصورة خاصة لا يمكن ان نكون ( رهائن ) دائميين بيد اخواننا المسلمين ، إذ كلما ألف احدهم كتاباً او رسم رسماً او القى محاضرة في بلد من البلدان وحُسب على انه اهانة للأسلام والمسلمين ، يفرغ هؤلاء شحنة غضبهم على كنائسنا ومقدساتنا ،والى متى نتحمل تداعيات ردود افعالهم لما يجري في هذا العالم الواسع ؟ إن المسلمين يشكلون اليوم سدس البشرية وعليهم ان يواكبوا سلم الحضارة في التسامح والتفاهم وحرية المعتقدات والرأي . فالجهاد يفهم منه على انه عملية دفاعية وليس هجومية . إن الواقع يظهر ان الجهة التي يطالها عمليات ( الجهاد ) بالدرجة الأولى هم المسلمين الأبرياء او غيرهم من الأديان الأخرى ، وإن المشهد الدموي العراقي خير شاهد على ذلك . أقول : ليس من العقلانية بشئ توجيه تهمة الأرهاب الى مليار مسلم باعتبار ان العمليات الأرهابية تدور حول المحور الأسلامي ، ولكن علينا ان نتذكر مرة اخرى ان معظم هذه العمليات تطال الأبرياء من المسلمين قبل غيرهم من الأديان الأخرى . علينا ان نواكب روح العصر جميعاً بمنظار من التسامح والمحبة والوئام .
حبيب تومي/ اوسلو