Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

لماذا الانسداد التاريخي وفشل التنوير في العالم العربي؟

-1-
هاشم صالح المفكر السوري المقيم في باريس جنباً إلى جنب مع المفكر الجزائري محمد أركون، له أهمية كبيرة وخاصة في مسيرة التنوير الفكري العربي المعاصر. فقد وقف هاشم صالح حياته وجهده على ترجمة كتب محمد أركون الذي يكتب بالفرنسية إلى العربية والعربية المُيسَّرة وهذا هو المهم بالموضوع. فهاشم صالح لا يعتبر مجرد مترجم لأعمال محمد أركون ولكنه شارح لها، وميسِّر لها بحيث يستطيع القارئ العادي أو قارئ الصحف أن يقرأها ويفهمها. وهذا ما نحتاجه لنشر أفكار التنوير والإصلاح والليبرالية. يجب أن لا نكتب لغة للخاصة فقط. فالخاصة تعلم جيداً ماذا سنقول، ولا حاجة لها بنا وبقولنا. ولكن المهم كل الأهمية أن نكتب للعامة وهي الطبقة التي يسيطر عليها رجال الدين الأصوليين، ويعتبرونها وقود نارهم. ويجب أن نخاطب العامة ببساطة اللغة نفسها التي يخاطب بها رجال الدين الأصوليين طبقة العامة. ولعل سرّ انتشار أفكار طه حسين التنويرية والأثر الكبير الذي تركه في العامة وسواد الناس، أنه كان مفهوماً جداً وبسيطاً جداً، في لغته الموسيقية الجميلة في القرن العشرين. واستطاع بهذه اللغة الجميلة أن ينقل للعامة فكره التنويري والحداثي الليبرالي. وكان الشيخ خالد محمد خالد من مدرسة طه حسين الأسلوبية كذلك، وهو سرُّ الانتشار الكبير لأفكاره كذلك. وهذه اللغة هي ما نفتقده اليوم في المفكرين التنويريين العرب وخاصة مفكري المغرب العربي، الذين يفكرون بالفرنسية، ويكتبون بالعربية، فتخرج أفكارهم "يونانية لا تُقرأ"، كما سبق وقال طه حسين نفسه شاكياً من عدم فهم بعض المفكرين، الذين كانوا يكتبون في عصره. ولعل عسر لغة معظم مفكري التنوير العربي في هذا العصر، واحد من أسباب الانسداد التاريخي وفشل مشروع التنوير في العالم العربي إلى الآن. لذلك كانت مهمة هاشم صالح في ترجمة وشرح أفكار محمد أركون التنويرية مهمة صعبة ومهمة جداً في الوقت نفسه. فمن الصعب أن تكتب بأسلوب بسيط ومفهوم. ولكن من السهولة بمكان أن تكتب بأسلوب صعب عسير القراءة. والصعوبة بالنسبة للكتَّاب كانت فطرية في البدء. أما السهولة فهي التربية والمعاناة الكبيرة.

-2-

وهاشم صالح بذلك يُعدُّ بمثابة ابن رشد (1126-1198م) في الأندلس، الذي قام بترجمة وشرح أعمال أرسطو المعلم الأول. ولم تقتصر مشاركة هاشم صالح في مسيرة التنوير العربي المعاصر على ترجمة وشرح أعمال أركون، ولكنه إلى جانب ذلك، وانطلاقاً من دراسته العميقة للفكر الغربي في ماضيه وحاضره، ودراسته العميقة للفكر العربي في ماضيه وحاضره أيضاً – وهذه هي الأدوات اللازمة لشرح أعمال أركون – كتب عدة كتب مهمة في مسيرة التنوير العربي المعاصر منها : "معضلة الأصولية الإسلامية"، و "مدخل إلى التنوير الأوروبي"، وكتابه الأخير "الانسداد التاريخي: لماذا فشل التنوير في العالم العربي؟".

-3-

ما هو الإنسداد التاريخي في العالم العربي؟

ولماذا فشل التنوير في العالم العربي، بينما نجح في أوروبا وأمريكا واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا وبعض البلدان في آسيا كسنغافورة وغيرها، وفي بلدين عربيين: قديماً في مصر على يد محمد علي باشا(1769-1849)، وحديثاً في تونس على يد الحبيب بورقيبة (1903-2000)؟

دون الذهاب بعيداً في أعماق التاريخ العربي والأوروبي، ودون تفاصيل كثيرة عن أسباب الانسداد التاريخي العربي، والانفتاح التاريخي الأوروبي، يمكن لنا أن نُلخِّص أسباب هذا الانسداد وبالتالي عوامل الانفتاح بالحرية الفكرية التامة. متى حضرت هذه الحرية حضر الانفتاح، ومتى غابت وحلَّت محلها الحقيقة المطلقة الواحدة، والعقيدة الحقيقية الواحدة، والرأي الواحد، واللون الواحد، كان هناك الانسداد التاريخي، وهو ما نعاني منه في العالم العربي، بعد القرن الثاني عشر للميلاد، وهو القرن الذي عاش ومات فيه ابن رشد، آخر الفاتحين الفكريين العرب. وبعد هذا التاريخ سقطت الإمبراطورية العربية العباسية 1258م، وظهرت في العالم العربي أثناء العصر العباسي الثاني وبعده، عهود الطوائف والممالك الصغيرة كالأدارسة في المغرب (788-974م) ، والأغالبة في شمال إفريقيا (800-909) ، والطولونيون في مصر (868-905م) ، والأيوبيون في مصر والشام والعراق (1171- 1342م)، والمماليك في مصر وبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية (1250- 1517م)، والمرابطون في المغرب (1060-1147م) والموحدون أيضاً (1147-1269م)، وغيرهم من الطوائف. ثم جاء الاستعمار العثماني للعالم العربي منذ 1517، عندما فتح السلطان سليم الأول الشام ومصر، وأسقط حكم المماليك في معركة "مرج دابق" في نواحي حلب. واستمر هذه الاستعمار أربعة قرون (1517-1918). وبعد الحرب العالمية الأولى، جرى تقسيم العالم العربي كمناطق نفوذ واستعمار بين بريطانيا وفرنسا وايطاليا كذلك. ولم يرحل الاستعمار نهائياً عن العالم العربي إلا عام 1971 من دولة الأمارات العربية المتحدة. فكان العالم العربي بذلك في سبات فكري وعلمي عميق، طيلة ثمانية قرون (1200- 2000)، خاصة وأن الخليفة العباسي المتوكل (847-861م) قفل باب الاجتهاد وقال: "ما قرره الخلف لا يرفضه السلف". وقد أُدين غلق باب الاجتهاد من قبل الكثيرين، وكان من بينهم رجال دين قالوا "أن قفل باب الاجتهاد، على الرغم من أنه اجتهاد غير ملزم، فإنه مناقض لخاتمية الشريعة، وخلودها ، وتجديد فهمها في ضوء معطيات العصر، وتخاذل عن حمل أمانة المسؤولية، والمساهمة السلبية بفصلها عن الحياة من حيث الواقع، مهما كانت دعاوانا عريضة، بأن الشريعة خالدة وصالحة لكل زمان ومكان، على مستوى الشعارات. وأعتقد أن مسوغات إغلاق باب الاجتهاد عند من اجتهد في ذلك، سدًا للذرائع بحجة فساد الزمان، وانعدام الأهلية، والخوف من دخول الساحة من يحسن ومن لا يحسن، ومن يملك المؤهل والشروط ومن لا يملكها، هو فوق كونه اجتهادًا يلغي اجتهادًا. (عمر عبيد حسنة، "إغلاق باب الاجتهاد تخاذل"، موقع إسلام أون لاين، 4/10/2009).

-4-

وكانت المنازعات الطائفية/السياسية، هي المظهر العام في العالم العربي من خلال عهود ملوك وسلاطين وأمراء الطوائف. كما كان العالم العربي في عزلة عما كان يدور في أوروبا، وخاصة تداعيات الثورة الفرنسية 1789 وأسبابها الفكرية والسياسية. وكان العرب طيلة الاستعمار العثماني معزولين عزلاً تاماً داخل ستار حديدي أشبه بالستار الحديدي السوفيتي. ولا يدرون ما يدور في أوروبا من تطورات سياسية وفكرية ودينية خطيرة في القرن الثامن والتاسع عشر، وهما عصرا التنوير الأوروبي. ولم يقرأ العرب فكر التنوير قراءة جادة وواعية ومتأملة، إلا مؤخراً، وخلال النصف الثاني من القرن العشرين.

وهذا الوضع التاريخي خلال القرون الثمانية الماضية، كان من أهم الأسباب للإنسداد التاريخي.

-5-

فإذا كان أسلوب الكتابات الفكرية، وقفل باب الاجتهاد، وسيطرة الاستعمار وخاصة العثماني على العالم العربي، من عوامل الانسداد التاريخي وفشل مشروع التنوير في العالم العربي، فإن هناك عوامل أخرى، يبسطها لنا هاشم صالح في كتابه المهم "الإنسداد التاريخي، وفشل مشروع التنوير في العالم العربي" على الوجه التالي:

1- أن ما يقود إلى التنوير والإصلاح، هو فهم الدين فهماً صحيحاً يتوافق مع العقل الحاضر، ولا يتناقض معه كما هو حاصل اليوم في العالم العربي، حيث تنتشر أفكار الشعوذة والسحر والعادات والتقاليد والخرافة والأساطير على أنها من صُلب "إسلام الرسالة" وهي في الواقع من إسلام بعض الفقهاء، ومن "الإسلام التاريخي" الذي دخلت عليه أفكار ليست من صُلبه ولا من أساسه. ولعل أفكار الشعوذة هذه، وغيرها مما ذكرناه هي التي تكوُّن اليوم "التدين الشعبي"، الذي يقوده بعض الفقهاء، ويسلِّطوه بواسطة العامة على أفكار التنوير، والإصلاح، والليبرالية.

2- إن دين العقل - وهو الإسلام في كثير من جوانبه الإنسانية، وحرصه على تقدم الإنسان وسعادته – دين كوني يشمل الجنس البشري كله. والعقل هو القاسم المشترك الأعظم بين البشر على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم. وأن إبراز الجانب العقلي في الإسلام، هو العامل الأكبر والفعال لمزيد من الانتشار الإسلامي. فقد انقضى عصر الفتوحات. ونحن الآن نعيش في عصر العقل. وانجازات العقل، وتحقيقاته، تحيط بنا من كل جانب. ولا بُدَّ أن نُخضع النصوص الدينية إلى التأويل العقلي والمعاني المجازية، ونُبعد هذه النصوص عن التفسير الحرفي المباشر.

ولنا عودة إن شاء الله.
Opinions