ما تفعله انثى الانسان لصغارها.. تربية ام رعاية؟
من المثير ان يحصل اللبس بين مفهومين مهمين في حياة الانسان، بينما لا مجال لترجيح مفهوم على آخر او تلبيس احداهما للآخر ....المفهوم الأول خارج قدرة الانسان فهو انتخاب طبيعي يدخل ضمن منظومة النوازع الفطرية للكائنات الحية، ويمنح الأنثى خصائصها الفسيولوجية بالقوة مثلما يمنح الذكر خصائصه..اما الثاني فهو مفهوم وضعي ثلاثي الأبعاد على اقل تقدير،البعد العلمي،السايكولوجي،والأخلاقي، وقد صاغه الانسان بصفته حيوان عاقل تفوق بوعيه على عالم الحيوان،مع اختلاف معاييرالبعدين الأخيرين من مجتمع لآخر..
الحديث هنا عن مفهوم رعاية الطفل ومفهوم تربيته ..
من المضحك المخجل ان لا يقف اللبس عند الخلط بين هذين المفهومين بل يمتد للخلط بين مفهومي التربية والتفرغ، فيبدو التفرغ لرعاية الطفل، تربية، وتبدو التربية ليس اكثر من حاجة الأنثى الى التفرغ المحض! ....
انعدام الرعاية يعني تصفية الطفل جسديا،اما انعدام التربية فقد يعني تصفية الطفل انسانيا...بمعنى إلحاقه بعالم الغاب- إن لم اقل اعادته الى عالمه الأصل-، فبالرعاية فقط ينمو الطفل ويحيى ليجد نفسه فيما بعد اسير التشابه الفسلجي،والفيزيائي/الشكلي بين النوع البشري،إلا انه غالبا ما سيكون طليقا خارج المحتوى الجوهري لقيمته كأنسان...
في عالم الحيوان يلقح الذكر وترعى الأنثى،حيث تقوم بحماية صغارها وتعليمهم الطيران والسباحة وسبل الإنقضاض على الفريسة وما الى ذلك من نواميس حياة الحيوان وانشطته،كل وحسب نوعه وما تفرضه الحاجة الفطرية للعيش والبقاء وبما تتيحه الطبيعة له من أدوات..
في عالم الانسان يلقح الذكر وترعى الأنثى!،إلا انه لا يمكن ان نمضي بما تعلمه انثى الحيوان لصغارها وما توفره لهم من رعاية وحماية فطرية على انه تربية توازي تربية انثى الانسان المنشودة لصغارها، فشتان ما بين العالمين،وشتان مابين احتياجات وأدوات كل منهما ..
بشكل عام، الرعاية الفطرية بمقدور الأنثى، إلا انها لا تصنع بمفردها من الانسان انسانا فيما لو تموضعت موضع التربية وحلت محلها او مسختها الى رعاية، وإن تكثفت الرعاية بالتفرغ فهي لا تتفوق كثيرا على المستوى الحيواني،والفارق بين المستويين هو التربية،يسقط هذا الفارق بإسقاط العقل فهو الفيصل في موضوع التربية او قل الفاصلة..
طفولة الانسان تعتبر اطول طفولة في عالم الأحياء،وبهذا صار لابد ان تمتد فترة الرعاية لتوازي طولا فترة الطفولة-اما التربية فمن المفترض ان توازيها حركيا لكون الطفل كيان متغير-،بعد ان يولد الطفل صارخا (حمدا لله انه لا يولد مستصرخا،إلا انه قد يستصرخ بعد أجل مسمى ) تحتضنه اصغر مؤسسة في المجتمع،بعد الصراخ بشوط قد يطول او يقصر يبدأ بتعلم اللغو..هنا تبدأ مهمة التربية،وهذا لا يعني انتفاء الحاجة الى التربية قبل اللغو، إلا ان حاجة الطفل الى الرعاية قبيل مثول اللغة هي الغالبة، علما ان السبع سنوات الأولى من عمر الطفل هي المفصل في تشكيل شخصيته لاحقا،ورغم ان التربية تقع على عاتق الوالدين على حد سواء داخل المؤسسة الأسرية إلا ان حصة الأسد تلقى على كاهل الأنثى بصفتها المربي الأول،فهذا دورها الأهم في الحياة، وربما الوحيد حسب رؤى بعض الأيديولوجيات المستهلكة لقيمة الانسان وخصوصا الأنثى، لا اتجنى على الطبيعة ونواميسها فالأنثى هي الراعي المنتخب بلا جدل..ولكن،هل انثى الانسان مربي فعلا بالمفهوم العلمي للتربية ؟..
هل تمتلك مقومات التربية مثلما تمتلك غريزيا مقومات الرعاية؟. .. هل اكتفى المجتمع بإنتخاب الأنثى كمربي واسقط الإعداد او تناساه؟
بصدق ووضوح...هل ما تفعله انثى الانسان لصغارها تربية ام رعاية؟
من الطريف ان نطلق على قدرة انثى الانسان الفطرية على رعاية صغارها ولفترة طويلة نسبيا قياسا بباقي الكائنات،تربية...ومثل هذا اللبس تشهره الأعراف المستهلكة فكريا واجتماعيا،الضحلة ايديولوجيا، والتي تلقي بمسؤولية تربية الأجيال على الأنثى وبغض النظرعن مستوى وعيها ومدى المامها بقواعد المهمة التربوية واساسياتها ، بل وتغلق بوجهها ابواب التأهيل والتمكين..
عموما...اللغو بالرعاية الفطرية على انها تربية،له دوي يصم الآذان في منظومة العرف والتقليد..وغالبا ما يُرافِق اللغو،المطالبة بتفرغ الأنثى لتكريس حياتها واختزالها في المهمات التربوية،وتلك قفزة نوعية تضع انثى الانسان خلف مثيلاتها في عالم الحيوان الذي لم تتفرغ اناثه لمهمة التربية/الرعاية كونها مهمة تستوجب طبيعيا وضمنا الإنخراط في عالم الغاب لمعرفة افانينه وخفاياه....
كم يدان المجتمع فيما لو اكتفى بالنسق الحيواني للتربية (الرعاية) وجاهد عبثا لتعزيز هذا النسق داخل الأنثى المعزز اصلا بقوة الطبيعة ظنا انه تأهيل تربوي يقدمه بسخاء لنصفه المؤنث ! .....
المربي بحاجة الى تأهيل قبل ممارسة دوره كمربي ليضطلع بمهمة التربية الأنسانية السليمة التي ترتقي بالمجتمع وتطوره،الانسان وبغض النظرعن جنسه،مخلوق عاقل ومن اليسر تأهيله لأداء ما يلزم،فلنسلط الضوء على غرابة التأهيل،وعجائب خصائص مربي الأجيال في مجتمعاتنا :
- تعليم المربي بالمنظور الأجتماعي يعتبر من الترف العلمي..اما تعليمه تعليما عاليا فهذا من هوس الإنحراف عن المهمة التربوية في احسن الأحوال!
- من متطلبات التأهيل السايكولوجي للمربي الفاضل وحسب العرف: قهره،اضطهاده،ممارسة كل صنوف العنف ضده الى الحد الذي يقتضي تأديبه ضربا وهجرا داخل ميدانه التربوي !...
- ترى مجتمعاتنا نقص العقل والدين من مقومات المربي الناجع!.. اما ما يعنيه نقص العقل والدين فهذا خارج تأثيرالصياغة اللغوية الإنتقاصية، فما يهمنا هنا هو ما تتركه تلك المقولة وامثالها من انطباعات ذهنية لا تتسق مع خصائص المربي وآهليته كقدوة يحتذى بها، ومدى تأثير تلك المقولات والتقولات في صياغة المستوى الأدراكي للمربي- وغير المربي- وعلى بلورت وعيه الأجتماعي وتوازنه النفسي ..
- عزل المربي عن الإنخراط في المجتمع،وحجبه عن صقل مواهبة في ميادين الحياة بكافة اصعدتها،هذا ما تعتبره مجتمعاتنا ضرورة كفيلة بشحذ طاقاته التربوية وصقل مهاراته وخبراته الأجتماعية!
- كي يقوم المربي بممارسة دوره في توعية الطفل وتنمية مهاراته في التعبير عن ذاته بحرية، وتحرير شغفه المعرفي وطاقاته الأبداعية لرفد المجتمع بمهارات جديدة ، ترى مجتمعاتنا أن كبت انفاس المربي وتقييد طاقاته وتحجيم ذاتيته او حتى إلغاءها، يصب ايجابا في صلب المهمة وترائبها!..
- رغم ان المربي يجب ان يكون قوي الكلمة، صانعا للقرار، سليط الذاكرة..إلا ان مجتمعاتنا تفضله ضعيف الذاكرة كثير النسيان والى الدرجة التي لا تؤهله لشهادة كاملة امام القضاء،كما لا تفضله من صناع القرار وتحبذه مستعضف الكلمة طواعا للرضوخ والإنقياد!
- القدرة على الاختيار من خصائص المربي، وخصوصا اذا كان اختيارا شخصيا لما هو صالح لذاته ،فلا خير في مرب لا يفرق بين الطالح والصالح ولا يدرك ما يناسبه ،إلا ان المجتمع يرى ان المربي غير مؤهل لأختيار ما يناسبه من احتياجات ، ولا يثق باختياراته ابتداءا من اختيار اللباس الى اختيار الشريك، في الوقت الذي يضع بين يديه الأجيال لتربيتهم على فنون الإختيار السليم وسبل التمييز بين الضار والنافع!! ..ومن الجميل ان ترى بعض المجتمعات بأن ظهورالمربي تحت الشمس مضرا بخصائصه فتمسخ مظهره الى عينين وغمامة سوداء كونه عورة او جملة عورات..
- من خصائص المربي ثقته بنفسه واعتداده بها..ومن ممارسات الثقة بالنفس علميا، النظر في عين المتلقي أيا كان،والإنتباه الى حركاته لإستقبال لغة الجسد المكملة للغة اللسان..ولكن لمجتمعاتنا وجهة نظر مخالفة، فهي لا تستوعب المربي إلا خجولا مطرقا بمناسبة او بدون،وتصنف هذه الخاصية تحت باب الحياء،وفي هذا التصنيف التباس واضح بين الحياء والإصغاء،ناهيك عن اختزال قدرة المربي على فهم الآخر بترويعه من قراءة لغة الجسد !...إلا ان لغة جسد المربي تقرأ بشغف ونهم..
- لا تستلطف مجتمعاتنا اي عمل اضافي للمربي فهو محجوز في قمقم ميدانه التربوي،اما لو اقتضت الضرورة فلا بأس، الا انه مقيد وتحت الرقابة والإخطار فيما لو سولت له نفسه وتجاوز في اختياره على قائمة المهن المستحبة والتي تحافظ على نعومته وملمسه،النعومة من اهم خصائص المربي ومن مقومات الدور التربوي!..
- لا ترى مجتمعاتنا ضررا في امتهان المربي جسديا بعد أن حافظت على نعومته، امتهانا قد يصل حد التجحيش،وهذا من المنشطات لقابلية المربي على اجترار البؤس الفكري من مؤخرته لربما!
- اما استحقارالمربي والإنتقاص من انسانيته وجدانيا وغريزيا،فهذا واجب تقتضيه مهمة تربية الأجيال!..فالمربي قاصرغريزيا كقصوره عقليا، وممكن الهاءه بمجتمعاتنا بربع بعل! في الوقت الذي قد يستعصي على المربي الهاء تلميذه بربع دمية !
- قد يرى المجتمع ضرورة تصحيح اخطاء الرب في خلقة المربي!،ويتجرأ على مد سواعده بالمشارط لاستأصال السهو الآلهي الوارد في جهازه-المربي- التناسلي، وبهذا يحقق المجتمع غايتين،اما الأولى فهي تهيئة المربي كوسادة جنسية،واما الثانية فهي تقديم خاصية جديدة ترفع من مستوى الكبت الغريزي لديه ،اذن.. من خصائص المربي هو ان يكون عاجزا نسبيا عن اشباع حاجاته الغريزية،فلسفة هذا الإجراء مستقدمة لربما من كون طاقة الكبت تتحول اوتوماتيكيا الى قدرة تربوية وتأهيل نفسي،اما الفائض فيتحول الى شغل اخلاقي - وبالمفهوم الفيزيائي للشغل والقدرة -!
- من لا نثق به لا نستأمنه على اطفالنا..ولا نكلفه بمهمات تربوية على مر الأجيال..إلا انه من الطرافة ان يكلف المجتمع من لا يثق به بمهمة التربية فيلصق به تلميذ من تلامذته كرادع له عن الإنحراف فيما لو اراد التنقل والترحال..المجتمع هنا يرى ان من خصائص المربي هو أن يكون ميالا طواعا للإنحراف والإنفلات الأخلاقي متمكنا من الغواية بجدارة ولا يجوز له التجوال منفردا بدون محرم كي لا يدس الشيطان انفه في شخصية المربي الرخوية الهزيلة فيحوله الى عاهر.. !!
اكتفي بما ذكرته من خصائص ذات ظرافة واقعية، خصائص لا تدين الأنثى اطلاقا ولا تحط من كيانها كأنسان ولا من قابليتها الثاقبة كمربي ناجح فيما لو تم اعدادها مثلما اعدتها الطبيعة لمهمة الرعاية،بل تدين المجتمع الذي احاطها بممارسات مفككة القيمة مزدوجة المعايير والتقييم،وبتقولات متناقضة معفرة بالسفاهة اللفظية،وخواء المعنى، مجتمعات جسدت صورة كاريكاتورية عن الأنثى فوضعت الجنة تحت اقدامها بينما أودعت النقص برأسها كأمانة تراثية ،ملاحم من المتناقضات التي انتشلت الأنثى بعيدا عن معترك الحياة لتغرقها بمهمات دورها التربوي المزعوم التباسا بمهمة الرعاية، فما يقتضيه الدور التربوي خارج سقف ادبياتنا الأجتماعية والرؤى المتوارثة عن قيمة الأنثى،واغلبها مستقدم وبميكانيكة ينحسر فيها العقل، من القيم اللاهوتية بأصولها وفروعها وتأويلاتها التي لا تحصر..
رغم التاريخ السلوكي التربوي للأنثىالحافل بالإنقياد والرضوخ والإمتهان، ورغم استلاب المجتمع لحقوقها وتجميدها تحت مسميات شتى تتأرجح بين علمين،علم الفسلجة وعلم الفبركة الأجتماعية الذكورية،ورغم تصورات التفوق الذكوري لديها القابع في الشعور او اللاشعور او كليهما، وتداعياته.. إلا ان المجتمع يجد بها المربي الأنجع لأجيال الغد وبقائمة خصائصه الطويلة آنفة الذكر وما شاكلها من امتيازات وخصائص، فلا غرابة ان تحفل مجتمعاتنا بما يحفل به تاريخ الأنثى كمربي!
أرجو ان لا اكون قد مزقت بهذا الطرح قيمة الأنثى في التربية ومكانة تلك القيمة اجتماعيا، فأكون قد سحبت آخر بساط سحري يعرفنا بقيمتها ودورها في الحياة! ولا ارى اني فعلت.. لأنها قيمة ممزقة اصلا،فضفاضة المحتوى ويعلوها اللبس، كما يكتنفها النفاق الإجتماعي لجبر خاطرالأنثى بعد استفراغ قيمتها كأنسان ، وملاهاتها بمقولات براقة خائبة لا تحمل ثقلها التطبيقي..
المجتمعات الذكورية لا تفضل اصلا دور المربي للأنثى، بل دور الناقل والملقن لكل المفاهيم الخاطئة التي مررت عليها، وذلك لديمومة التسلط الذكوري ولرفد علة التفوق النصفي في المجتمع، ولهذا فهي تخشى إعداد الأنثى وتمكينها من الدور التربوي بقيمته العلمية،تمكين كهذا سيشحذ الوعي الأنثوي وينضجه، فتتمكن الأنثى بالتالي من استقراء المفاهيم الذكورية المشوشة، واعادة تركيبها وصياغتها او تنقيحها وغربلتها قبل غرسها وترسيخها في اذهان الصغار،مما سلف يبدو ان اللبس الذي تحدثت عنه بين مفهومي الرعاية والتربية مقصود ذكوريا لحصرالأنثى في حقل الرعاية الفطرية ومهمة اجترارالقديم وتلقينه دونما قراءة وتدقيق ..
.. علينا بمواجهة ذواتنا واعادة النظر موضوعيا في دورالأنثى اجتماعيا وانسانيا بلا تدليس او ترقيع،وأيا كان مصدره-اي الترقيع- وأينما وقعت جذوره في الأرض او السماء، وبعيدا عن الإسفاف والتناقضات والمحاولات التوفيقية الظريفة غير الموفقة..هذا فيما لو ادركنا الحاجة الى مجتمعات معافاة لا تعطل نصفها الثاني بنصفها الأول..
.. صدق من قال.. الأم مدرسة إن اعددتها اعددت شعبا طيب الأعراق.... من المخجل والمحزن ان تكون المدرسة سجنا .. قضبانه الإعداد الرجعي وبكل نفيس من الخزين البالي...
فاتن نور
06/11/07