متى يمكن تطبيق مبدأ التداول الديمقراطي للسلطة في العراق؟
كانت الإدارة الأمريكية تروج لرأي مفاده "حين يسقط نظام صدام حسين ستسود الديمقراطية في البلاد"! وكان بوش الابن يعتقد جازماً بأنه مرسل من خالقه لنشر الحرية في العالم والخلاص من "قوى جوج وماجوج" الشيطانية التي تريد تدمير إسرائيل والتي كانت معسكرة في بابل, ثم انتقلت بعد سقوط النظام تحت ضربات القوات الأمريكية إلى المثلث الإيراني – التركي – العراقي لتواصل عملها من هناك. هذه هي تصورات وتفسيرات رئيس أكبر دولة في العالم لما جاء في التوراة (العهد القديم) بهذا الصدد, وهي خرافات لا أول لها ولا أخري! هذا ما نقله جاك شيراك, رئيس جمهورية فرنسا السابق, حول حوار له مع جورج دبليو بوش قبل بدء حرب الخليج الثالثة والأخيرة حتى هذا الحين, إذ كان يريد إقناعه بضرورة خوض فرنسا الحرب مع الولايات المتحدة.أشك تماماً في أن القوى الواعية في الولايات المتحدة كانت تعتقد بأن الديمقراطية ستسود في العراق بعد سقوط الدكتاتورية كما اعتقد بها الرجل الإنجيلي المذهب والمتعصب وغير المثقف جورج دبليو بوش. كما أشك بقناعتها بما ورد على لسان رئيسهم حينذاك حول قوات الجوج ماجوج.
الديمقراطية ليست صبغة يمكن تلوين العراق بها, بل هي عملية معقدة وصعبة وطويلة الأمدً, إنها عملية سيرورة وصيرورة معقدة ومتشابكة, عملية حضارية ترتبط بالتحولات التي يفترض أن تجري في المجتمع على البنية الاقتصادية والاجتماعية وعملية التنوير التي تسمح بنشوء وعي عقلاني جديد يفتح أبواب فردوس المجتمع المدني الديمقراطي الحديث على أرض وشعب العراق! إنها تراكم معرفي وخبرات وقيم.
ما كان ولا يمكن أن نتصور وجود إنسان عاقل تصور إمكانية بناء الديمقراطية في العراق في ظروف الفترة المنصرمة بعد أن عانى الشعب عبر مئات السنين من الاستبداد الشرقي المشهود له بالعنف والقمع والدموية, وبعد أن ساد الاستبداد القومي الشرقي الأكثر تطرفاً وعدوانية وشراسة طوال أربعة عقود بالتمام والكمال (1963-2003) في ظل حكومات بعثية - قومية, وقومية, ثم بعثية, مع المعرفة التامة بأن الأحزاب السياسية العراقية كلها قد نشأت وترعرعت في ظل تلك النظم, وأن كانت مناهضة لها, ولكنها كانت تحلم بالوصول إلى الحكم ليمارس بعضها أو كلها ذات السياسات أو ما يماثلها ويطبق مبدأ "نمسك الحكم بأسناننا" أو "ما نعطي الحكم لأحد بعد اليوم"!
أشرت أكثر من مرة إلى أن السيد علي الأديب, وهو قائد في الدعوة, قد أكد بوضوح لا لبس فيه بأن الديمقراطية بالنسبة له ولحزب الدعوة ليست سوى وسيلة وليست فلسفة. واستكمل السيد نوري المالكي هذا التصور لدى حزب الدعوة حين قال في تجمع انتخابي لشيوخ العشائر "أخذناها وبعد ما ننطيها". وقد جسد بذلك فهم ووعي قوى في حزب الدعوة لمقولة الديمقراطية باعتبارها وسيلة للوصول إلى السلطة, ولكنها ليست فلسفة للممارسة الفعلية بعد الوصول إلى السلطة. وهو ما وجدناه عند السيد إبراهيم الجعفري حين رفض الانصياع وتسليم الحكم لغيره, إلا بعد ولادة قيصرية.
ما نواجهه اليوم في العراق هو نتيجة ومحصلة فعلية متناغمة مع واقع المجتمع الفكري والسياسي والاقتصادي والبنية الاجتماعية, منسجمة مع وعي غالبية أفراد المجتمع. ومن كان يتصور غير ذلك, يصاب بالإحباط الكبير, كما يتجلى ذلك في مقال الدكتور شاكر النابلسي الذي دافع بحرقة عن ضرورة الخلاص من نظام الدكتاتور الأهوج صدام حسين وتمنى أن تستبدل الدكتاتورية بالديمقراطية.
كان الأستاذ جاسم المطير على حق كبير حين أكد أن الديمقراطية هي عملية معقدة حيث ذكر ما يلي "... حقيقة أن الانتقال المفترض من دكتاتورية نظام صدام حسين إلى دولة ديمقراطية ما بعد نيسان 2003 كان وما زال عسيرا بدون شك. الصعاب كثيرة والظروف الموضوعية معقدة لكن مع ذلك كانت السلطة خلال السنوات السبع الماضية قاصرة بالأساس عن تحقيق الانتقال المنشود. كانت فعالياتها الأساسية محجوزة بالبحث عن مواقع (القوة السلطوية) من خلال إحراز المناصب العليا", هذا ما جاء في مقاله الموسوم "الزمان لن يسمح للشارع العراقي أن يبقى مقفراً أو ساكناً" المنشور في الحوار المتمدن في 11/6/2010.
أؤكد هنا حقيقة أن القوى التي شكلت الأكثرية في الوزارات الثلاث المنصرمة كانت إسلامية سياسية شيعية وسنية, وهي لا ترى في الديمقراطية فلسفة للعمل, بل طريقاً للوصول, وهي ترى في الوعي القائم حالياً هو الأصل في وصولها إلى السلطة ولا تريد تبديل هذا الوعي ولا تعمل من أجله. ومن هنا نجد موقفها الرافض لتحقيق عملية تصنيع البلاد وتحديث الزراعة والإبقاء على التجارة الخارجية لتحتل الموقع الأول المستنزف للدخل الريعي الناشئ في قطاع النفط الخام المصدر.
المناورات السياسية الجارية في العراق لا تعبر عن وعي ديمقراطي مسؤول يجسد مفهوم التداول السلمي والديمقراطي للسلطة. فالصراع لا يدور حول ضرورة الالتزام بالديمقراطية بل حول مفهوم آخر "بين من لا يريد أن يعطيها وبين من يريد أن يأخذها". والعلة هنا ليست "في من لا يريد أن يعطيها ولا من يريد أن يأخذها" في ما لو كانت القضية قائمة على أسس من المواطنة المتساوية والهوية الوطنية العراقية, بل إن العلة تكمن في من يعتبر نفسه ممثلاً لطائفة دينية, شيعية أو سنية, فهو صراع بين أحزاب إسلامية سياسية رغم التسميات الأخرى المستخدمة لكل منها ولكنها في الجوهر مذهبية تمارس التمييز المذهبي وتريد ان تحتفظ بالسلطة للاستمرار بممارسة التمييز أو لأخذ السلطة بهدف ممارسة نفس النهج ضد أتباع المذاهب الأخرى. إنها المعضلة الأساسية في الوضع القائم في العراق. فبعد أن كان قومياً شوفينياً متطرفاً, أصبح اليوم طائفياً مقيتاً.
أن تأييد هذا الطرف أو ذاك المستند إلى مبدأ الطائفة السياسي التميزي يضع البلاد على كف عفريت ويحرمها من التقدم خطوة إلى أمام في حل المعضلات التي تواجه البلاد, ومنها الإرهاب والبطالة والفقر وغياب التنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والتنوير الديني.. الخ.
إن الدور الضعيف جداً والهامشي للقوى الديمقراطية على صعيد العراق في الحياة السياسية لأسباب موضوعية وذاتية يزيد الأمر صعوبة وتعقيداً ويقلل من القدرة على تحريك الشارع الساكن والساكت حالياً, رغم إن الزمن كفيل بتحريكه, ولكن متى؟
إن المشكلة في القوى الديمقراطية تبرز في إنها عجزت حتى الآن أن تجد لها سقفاً مشتركاً يلملم أطرافها ويجمع قواها الضعيفة فيخلق منها قوة دافعة قادرة على التحرك والتحريك.
لا يمكن الخلاص من الواقع الراهن دون وجود قوى سياسية ديمقراطية فاعلة قادرة على تقليص مبرمج لقدرة التأثير التي ما تزال تمتلكها قوى الإسلام السياسية في العراق, فهي مهيمنة حالياً على وعي غالبية الناس الذي نتج عبر القرون السابقة وتكرس وتحجر في فترة حكم البعث الدكتاتوري في أذهان الناس.
وهذا بدوره يتطلب من القوى الديمقراطية أن تكون ديمقراطية وحديثة حقاً في فكرها وبرامجها السياسية وخطابها السياسي وفي علاقاتها مع فئات المجتمع ومع أعضاء أحزابها وتنظيماتها وبعيدة عن السلفية في الحنين إلى الماضي الذي لن يعود أو الاعتماد عليه, وإلا فلن يستقيم لها الوضع وستبقى هامشية كما هي عليه الآن, رغم كونها تؤكد أنها قوى المستقبل. ولن يكسب أي حزب المستقبل ما لم يعمل الآن من أجله. إنه الأمر المفقود كثيراً في الوقت الحاضر أو أنه في حدوده الدنيا.
سيبقى الصراع على السلطة شديداً وستبذل الأطراف المختلفة جهداً لكي لا تلجأ إلى القوة والعنف, بل تواصل استخدام المناورات للاحتفاظ بالسلطة أو لأخذها, ولكن هناك من سيبقى يمارس العنف والقتل والتخريب ما دام يعرف جيداً وجود هذا الصراع بين القوى السياسية وبالطريقة الجارية حالياً لكي يمرر من خلالها مخططاته وأهدافه الشريرة.
وإذ يلعب التحالف الكُردستاني دور بيضة القبان فأن التحالفات التي يراد إقامتها لتشكيل الحكومة القادمة فإنه يواجه موقفاً صعباً ومأزقاً كبيراً, اعترف بذلك أو لم يعترف. فالموقف من القائمة العراقية محفوف بمخاطر جدية ناشئة عن موقف مجموعة أسامة النجيفي التي تحتل المرتبة الأولى في القائمة العراقية, إذ إنها تتخذ من المبدأ موقفاً مناهضاً بشكل صارخ لطموحات الشعب الكردي وحقوقه القومية وفيدراليته ومصالحه والتي لا تختلف سياساتها إزاء المسالة الكردية كثيراً عن السياسات التي مارسها صدام حسين إزاء الشعب الكردي في حالة وصولها إلى السلطة! إنها معضلة حقاً.
وتشخيص هذه المسألة لا يعني أنها متفقة تماماً مع قائمة دولة القانون, بل متعارضة معها في العديد من المسائل كما ظهر ذلك في فترة حكم المالكي المنتهية ولايته عملياً. كما إن هناك في الائتلاف العراقي الموحد من يرفض الفيدرالية الكردستانية, كما في حالة التيار الصدري, في حين هناك تعاون واضح واتفاق مع المجلس الإسلامي الأعلى في العراق بشأن العديد من القضايا. وفي هذه التشكيلات والتحالفات ذات السياسات والمواقف المتباينة يكمن المأزق الكردي في العلاقة مع الأحزاب والقوى والتحالفات السياسية في بغداد. ومع ذلك فالتحالف الكُردستاني حسم ويحسم موقفه لصالح التحالف مع الائتلاف العراقي الموحد ومن يختاره لتشكيل الوزارة القادمة. ورغم أنه لم يعلن عن تبنيه لأي من المرشحين, إلا أنه يميل, كما أرى, إلى السيد عادل عبد المهدي ليكون رئيساً للوزراء.
سيبقى العاق يراوح في مكانه الراهن بشأن الموقف من الديمقراطية في العراق, بغض النظر عن كيفية تشكيل الحكومة الجديدة, ما لم تبذل الجهود الحثيثة والمكثفة لتغيير وعي الناس الذي لا يتغير بسرعة, ولا يتغير دون إجراء تغييرات فعلية في القاعدة الاقتصادية والاجتماعية التي تساهم بشكل خاص في بلورة وعي الإنسان الجديد وتنويره.
لقد نشرت قبل أيام مشروعاً لـ "بناء العراق المدني الديمقراطي الاتحادي الحديث" لأغراض المناقشة. وكان هدفي منه الوصول إلى:
تحريك النقاش البناء والجاد والمسؤول بين المختصين بمختلف جوانب المشروع أو جوانب أخرى أغفلها المشروع.
إيصاله إلى كثرة من الطلبة والمتعلمين والمثقفين والقادرين على القراءة والمهتمين بالشأن العراقي بهدف دعم برامج ديمقراطية أخرى لقوى سياسية عديدة, وهي بالتالي محاولة للتثقيف بما هو إيجابي وضروري للعراق ليمكن مقارنته مع ما يجري اليوم في العراق أو مع المشاريع التي تطرحها القوى الأخرى.
أن يكون أداة بيد المناضلين من أجل الحرية والديمقراطية في العراق, من أجل دفع البلاد باتجاه تحقيق ما يمكن تحقيقه في العراق. وبالتالي فهو أداة ضغط على الحكومات التي تتشكل للأخذ بهذه الفقرة أو تلك أو أكثر.
من المعروف أن قوى المعارضة السياسية في أي بلد من البلدان حين تطرح برامجها تدرك تماماً بأن الحكومات القائمة لا تأخذ بها, ولكنها مع ذلك تطرحها للتثقيف بها والدعاية لها من أجل فرضها أو تغيير الحكومة أو الوضع كله. ومن هذا المنطلق أيضاً يفترض أن ينظر إلى المشروع الذي طرحته للنقاش, رغم قناعتي بأن هذه الحكومة أو تلك لا تريد الأخذ به أو ترفضه جملة وتفصيلا أو يفرض بعضه عليها فرضاً.
أدرك تماماً بأن الأوضاع الراهنة لا تسمح بتحقيق بعض أهم وأبرز تلك الأهداف الواردة في المشروع, ولكن أليس من حقنا أن نعمم ما نريد ونحرك فئات المجتمع للنضال من أجله.
أتمنى أن يُقرأ المشروع في ضوء الملاحظات التي أوردتها في أعلاه ليتبين الهدف منه.
11/6/2010 كاظم حبيب