مجتمعاتنا تزحف نحو سراديب معتمة

كل يوم يمضى علينا نشهد فصلاً مأساويًا جديدًا.. كل زمن يتقدم بنا نحو الأمام، ومجتمعاتنا تزحف نحو الوراء! عندما كنا نعانى من ديكتاتورية زعيم، أو تسلط حكومة، أو شراسة دولة.. فإننا اليوم نعيش تفكك مجتمع، وقد تشّظت العلاقات فيه.. ولم نرث من التاريخ إلا أسوأ صفحاته! لقد كانت مجتمعاتنا تتميز بالتنوع والتعدد سواء في الأديان أو المذاهب أو الأعراق أو الثقافات مع اجتذاب الجاليات، وتجد فيها كل ألوان الطيف.. كانت متعايشة متماسكة، ولو لم تكن كذلك لما بقيت معا طوال هذا الزمن الذي صادفت فيه كل أنواع التحديات، وعانت من خلاله كل المآسي والكوارث والنكبات التي فرضها الآخرون عليها.
اليوم ولأول مرة أجد الصورة تتغير في مجتمعاتنا العربية التي تسير نحو سراديب معتمة.. والتغيير أجده خطيرا، لا يمكن أن يتخيله صاحب عقل وتفكير ومنطق.. اليوم تتفجر حصوننا من داخلها لأسباب أجدها تافهة جدًا، ويراها غيري مهمة جدًا كونه سيقضى فيها على الأعداء.. إن التفسخات التي تعانى منها مجتمعاتنا اليوم، والتي كنت قد حللت مع غيري من الكتّاب والمختصين بعض مخاطرها.. ستنتج نتائج وخيمة على أجيالنا القادمة.
لماذا الانتزاع بعد كل هذا التاريخ؟
إنني لا أتخيل هؤلاء الذين يحملون رايات التكفير والتطهير، ويستخدمون كل وسائل الدمار والتنكيل.. ما الذي يريدون الوصول إليه؟ ولماذا اكتشفوا فقط الآن أن المسيحيين هم خطر على الإسلام والمسلمين؟ ولماذا يلتزمون نصًا معينًا، ويتركون جملة كبيرة من النصوص والعهود والمواثيق التي سّنت ووقعّت بين المسلمين والمسيحيين منذ اللحظات الأولى لولادة الإسلام؟ وإذا كان المسيحيون العرب في أي بلد من بلداننا هم المادة الأولى لهذه الأرض، وأنه المواطن رقم واحد في كل من مصر والعراق وبلاد الشام وغيرها، فكيف يمكن للآخرين أن ينتزعوا هذا الحق الشرعي والتاريخي منه؟ وبأي شرع أو قانون أو نص ديني أو إلهي.. يمكن للبعض من المعتوهين أن يحاول اجتثاث هؤلاء عن أرضهم وانتزاع هويتهم باسم الإسلام؟
يقول الصديق حازم صاغية في مقالة ذكية له في جريدة الحياة قبل أيام: «جريمة الكنيسة العراقية الأخيرة التي ارتكبها مقاومون أصوليون دليل على الانسحاب من «العروبة».. ولأنها ليست الجريمة الأولى من نوعها، ولأنّ مثيلات لها سبقتها في العراق وفى غير العراق، جاز القول أنه انسحاب كثيف وعميق، لا هامشىّ ولا عَرضىّ..»! نعم.. لقد تم الانسحاب من العروبة التي أصبحت عنوانًا تافهًا في أدمغة ليس من لم ينتم إليها، بل حتى من أولئك الذين لبسوا لباس الدين، وحاربوها حربا شعواء، بل اتهموا كل من نشر فكرها وثقافتها وتراثها تهما ظالمة، ونحن نعلم كم كان دور المسيحيين العرب كبيرًا في ذلك، قبل أن يغدو بعض السياسيين والمفكرين العرب المسيحيين من مروجّى الأيديولوجية القومية العربية الثورية التي انتكست انتكاسات مريرة بسبب الأساليب الشوفينية التي استخدمتها متطفلة على كل أفكار النازية والفاشية في أوروبا القرن العشرين.
إنني أتفق مع الأخ صاغية أن «التحويل هذا كان أولى عمليات الطرد النظري والرمزي التي واجهت الأقليات، وفيما خصّ المسيحيّين تحديدًا، تسهل المقارنة بين موقعهم في العروبة الثقافية.. وبين موقعهم في العروبة السياسية».. ويمكنني أن أضيف أن شناعات الأصوليين في القتل الرخيص للإنسان لم يجد حتى الآن من يوقفه عند حدّه، كونه يجد بيئة خصبة للنمو، أو يحيا بكل خلاياه في نسيج يؤهله على فعل تلك الشناعات القاتلة.. إنها مشكلة حقيقية عالجها بكل جرأة الصديق عبدالله كمال قبل أيام في بعض مقالاته بجريدة «روزاليوسف» معالجة متميزة عندما كشف أن نسيج الأحزاب والجماعات الإسلامية وعلى رأسهم الإخوان المسلمون، يشترك أغلبها في تأييد ما يحدث، بل يتم الربط بين ما هو أمريكي خارجي وبين ما هو حكومي داخلي.. من الناحية السياسية، وهنا أضيف أن الربط يتم أيضًا بين من هو مسيحي عربي مهما كانت جنسيته العربية وبين ذاك المحتل الخارجي كونهما يمثلان «الصليبية» (كذا)! وأضيف بأن بعض الكُتَّاب التافهين الجدد الذين خرجوا علينا بكل فجاجتهم في السنوات الأخيرة يقدمون موضوعاتهم بتشويه متعمد وتزوير مقصود.. فيجعلون الصراع الحاصل والقتل المباح هو حصيلة إرث دموي من الصراع الديني بين المسلمين والمسيحيين امتد منذ 1400 سنة، وهذا لم يحدث أبدًا كما سأثبته قريبًا ومن خلال المصادر الكنسية والمسيحية بالذات.
الرؤى الأساسية الثلاث
نحن أمام ثلاث رؤى إذن.. فماذا نقول إزاء كل رؤية من هذه الرؤى؟
أولاً: نعم، نحن أمام هجمة تاريخية مجهولة الهوية، وقوية البنية، وذكية المنهج في استئصال المسيحيين من بيئاتهم وأوطانهم الأصلية.. وسحق إرادتهم بقتلهم، وتفجيرهم، وهدم كنائسهم بأساليب شنيعة لا يمكن أن يقبلها أي إنسان يمتلك ضميرا حيا، وإذا كانت العروبة السياسية التي أسميتها بالفكر القومي هي الإيديولوجية القومية التي يتهم المسيحيون بقيادتها قد انتهت لسوء الممارسة التي زاولتها على امتداد خمسين سنة، فإن الإسلام السياسي الذي يجتاح عالمنا اليوم إيديولوجية ناقمة ومعادية ليس للغرب فحسب، بل حتى للمجتمع الذي يأويه، وقد عبث به الإسلاميون سواء الذين كانوا خارج السلطة أم الذين تولوا السلطة، ولكنه ظاهرة سترحل وتزول، وستحتاج إلى زمن لا يقل عن ثلاثين عاما قادمة!
ثانياً: نحن أمام أحزاب وجماعات دينية في بلداننا العربية والإسلامية.. ربما تأتى إدانتها للإرهاب وعمليات القاعدة شكلية على استحياء، ولكنها لم تقف وقفة بطولية وإنسانية لما يجرى على يد الأصوليين والإرهابيين الذين لهم أجندتهم وأهدافهم وإيديولوجياتهم الدموية.. وهم ممولون من بلدان وحكومات معينة لتنفيذ خططهم التي تحولت أهدافها السياسية من ضرب الحكومات إلى تمزيق المجتمعات. إن الإرهاب إن لم يقف كل المجتمع ضده، مهما كانت أشكاله وصوره ومضامينه.. فليس باستطاعتنا فعل أي شيء لإيقافه.. إن مجرد وجود حكومات تسيطر عليها أحزاب دينية، فالمنطق يقول أن العقيدة الدينية ستأكل أية نزعة وطنية أو إنسانية وستقف ضد القانون.. كالذي نشهده اليوم بشكل سافر في العراق مثلاً!
ثالثاً: نحن أمام قوى وجماعات ونخب تمتلك زمام الإعلام، وتشارك في بث أخبار وكتابات وخطابات وتحليلات لا تمت للحقائق بصلة.. بل إنها تستغل الأحداث المأساوية لتوظفها سياسيا وإيديولوجيا وطائفيا.. فهم بمثل هذه الأعمال يساعدون الإرهاب لتأدية وظائفه من ناحية،
ويقدمون الفتن الجاهزة على طبق من ذهب لأصحاب القرار لضرب الوحدة الاجتماعية والوطنية التي يألفها الجميع. إن العصر وأدواته الإعلامية والسياسية قد سمح لكل من هب ودب أن يطلق الأحكام جزافا، وأن يتكلم حسب ما يريد أو ما يراد له من دون أي معرفة، ولا أي تحقيق، ولا أي تدقيق.. فتجد الرأي العام تعصف به أفكار لا أساس لها من الواقع أبداً! ومادامت البيانات والكتابات والمناهج وكل ما يصدر.. لا يستند في مرجعيته إلى الحقائق والعقل، فإن المجتمع سيغرق في الفتن والمشكلات.. ولابد أن أقول: إن حياتنا الاجتماعية تشهد مثل هذه الأوضاع لأول مرة في تاريخها، إذ لم تمر مثل هكذا أحوال عليها في الماضي !
ما العمل؟
إن الهجمة التي تتعرض لها مجتمعاتنا ضارية جداً، وإن تحدياتها لم تجد حتى اليوم أية علاجات حقيقية وصارمة.. خصوصا أن أغلب مجتمعاتنا قد أصابها الصمم، وأنها انغلقت على ذهنية جامدة لا تريد أن تتحرك أبدا عنها، وأنها تتلاقح يوميا على إعلام مهيِّج يثير الفتن والاحتقانات.. وأن أحزابا وجماعات وكتلا سياسية دوغمائية تلبست لبوس الدين، وانقضت على المجتمع انقضاضا خطيرا تحت لافتات وشعارات ولدتها ظروف العالم إثر 11 سبتمبر 2001 وما جرى من تداعيات في عامي 2002 و,2003 إن الحكومات منشغلة بأمنها الداخلي أولا، والانقسامات الإيديولوجية التي ولدتها الطائفية ثانيا.. وابتعد المناخ العام عن الروح المدنية التي افتقدت في بلدان، وانكمشت في بلدان أخرى.. وفى ظل هكذا أوضاع مأساوية، تبلورت ظاهرة الإرهاب الخطيرة، وتقودها منظمة القاعدة التي لا يعرف عنها أية تفاصيل.. وقد ورثت جماعات أصولية اتبعت النهج نفسه سابقا، وهى جزء من ظاهرة أكبر لما فعلته منظمات إرهابية شهدنا ما الذي كانت تفعله في العالم على امتداد خمسين سنة مضت!
إننا أمام محنة كبرى إن لم يقم المجتمع برد فعل قوى ضدها، وستبقى الحكومات عاجزة أمام هذا الطغيان المدمر الذي سيجتاح عالمنا، إن الأجيال الجديدة إن لم تستبدل أذهانها لتقف إزاء هذه التحديات، فإن مجتمعاتنا ستنتقل من جحيم إلى آخر! إن الإعلام العربي الموجه إن لم يكن ذكيا ومبرمجا وهادئاً وحضاريا في الوقوف إزاء هذه التحديات فهو سيبقى عاملا مساعدا لهذه الظاهرة الخطيرة أن تستفحل وتمتد في عبثها.. على الإعلام العربي ألا يتذرع بالمناخ الديمقراطي، وكأن القتلة والمجرمين لهم رأى يمكننا مجادلتهم أو الحوار معهم! على كل من يكتب ويخطب وينشر أن يفكر قليلا في حجم المأساة، وأن يتأكد من معلوماته! إننا بحاجة ماسة إلى النقاد والمدققين في كل ما ينشر ويذاع حتى يتبين للناس الخطأ من الصواب.. مطلوب من الجميع مسئولين ومواطنين ومتحزبين.. أن يزرعوا روح المحبة والتسامح في أي مجتمع من مجتمعاتنا.. وأن يدينوا أي فعل دموي مشين إدانة فعلية غير متلكئة.. وأن يكون القانون المدني هو الحكم الفصل بعيداً عن إصدار الفتاوى أو توزيع البيانات أو نشر الخطب.. وليعلم الجميع أن السنين القادمة ستشهد فصولا مأساوية مريرة، خصوصا إن وصل أي حزب ديني أو طائفي إلى السلطة.. وستدخل مجتمعاتنا فى سراديب مظلمة لا يعلم متى تخرج منها إلا الله!
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ،العدد 4301 - السبت الموافق - 13 نوفمبر 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com