مراجعتي التاريخية بريئة الذمة !
كل من تابع بشغف ، أو كان على مضض ، مشاهدة مسلسل الباشا : نوري السعيد ، والذي عرض في العام المنصرم على قناة الشرقية ، عرف أنني كنت صاحب المراجعة التاريخية للنص ، وكنت قد وعدت أن أبرئ ذمة مراجعتي التاريخية ليس من " النص " الرائع الذي كتبه الأخ الفنان فلاح شاكر ، بل من كل المسلسل ، فقد كنت أتخّيل انه سيعرض بغير الصورة التي عرض عليها ، وكنت أتوّهم أن يقترب كثيرا من حقيقة تاريخ نوري السعيد .. ولكنني أصبت بخيبة أمل كبيرة ، وكتبت معترضا على ما شاهدته بدءا بالحلقات الأولى وانتهاء بآخر مشهد من الحلقة الأخيرة .. ليس لأنني أتنّصل من مسؤولية أوكلت اليّ بكل محبة وتقدير ، ولكنني شعرت أن كل ما سجلته من تصحيحات وملاحظات ، وبقيت أطالب بكل تقويم وتصويبات .. لم يؤخذ بها ، ويا للأسف الشديد .. إنني لم اكتب مثل هذه المقالة التوضيحية لموقفي بعد عرض المسلسل مباشرة ، ولكنني آثرت أن اقرأ واستمع إلى كل النقدات والآراء والأفكار والملاحظات التي نشرها مثقفون وكّتاب وفنانون وصحافيون عراقيون .. كي أقول كلمتي في نهاية المطاف . إنني إذ اكتب هذا " المقال " ليس بسبب رفضي للمشروع ، أبدا ، إذ أنني باركت هذا المشروع الرائع جدا ، وأثنيت عليه ، وتمنيت أن يكون فاتحة لمشروعات فنية كبرى في ترجمة تاريخنا العراقي المعاصر وأبطاله الكبار .. ولكن ما دام الأمر قد عولج بتفاصيل موسعّة ، وان اسمي قد ذكر عدة مرات وفي اغلب المقالات ، فلا يمكنني السكوت أبدا على ما أبداه بعض الكتّاب والمتابعين العراقيين ، وخصوصا أولئك الذين انتقدوا مراجعتي التاريخية للنص . وسأختار عينة واحدة فقط ..يقول الأخ الأستاذ ناطق خلوصي في مقال له : " حين قرأنا في مقدمة العنوان الافتتاحية لمسلسل " الباشا " أن الباحث والمؤرخ سيار الجميل اضطلع بمهمة المراجعة التاريخية للمسلسل ، ساورنا شعور بالاطمئنان إلي أن المسلسل سيكون أمينا ً وصادقا ً في استقراء السيرة الشخصية لنوري السعيد استقراءا ً دقيقا ً وموضوعيا ً واستقراء التاريخ السياسي والاجتماعي للعراق الحديث في المرحلة التي ظهر فيها من خلال استقراء هذه السيرة . غير إننا أصبنا بخيبة أمل ونحن نتابع المسلسل لاسيما في حلقاته الأخيرة ، بفعل المنزلق التحريفي الذي انزلق فيه . فنحن من جيل شهد جوانب من مرحلة الأحداث ، وبين الأجيال التي سبقتنا ممن هم علي قيد الحياة مَن شهد جوانب أكثر ، ولابد من أنهم شعروا بغصة ألم وهم يشاهدون المسلسل لاسيما أولئك الذين كانوا قد اكتووا بشواظ نيران مظالم تلك المرحلة " ( انتهى الاقتباس ).
ومثل هذه الملاحظة ، ذكرها آخرون . وهنا لابد أن أبرئ مراجعتي التاريخية من كل المنزلقات التي عانى منها مسلسل الباشا نوري السعيد ، ومنها ما كان يخص المعلومات التاريخية ، ومنها ما بدا على الشخصيات بدءا بالبطل الباشا وانتقالا إلى غيره من الشخصيات .. ومنها ما كان يخص الموضوع السياسي ، وحجم الخلافات العراقية بين من هو مؤيد لذلك التاريخ الذي يقف على رأسه نوري السعيد ، وبين من هو معارض ، بل وساخط ضده ، حتى بعد مرور خمسين سنة على نهايته الدرامية الفريدة .. فضلا عن كل الذي يخص الموضوع فنيا ، إذ لم ينجح الفن العراقي في أن يسيطر على هكذا موضوع تاريخي له صعوبته وتعقيداته ليقدمه إلى الناس ببراعة متناهية ! وعلى الرغم من إعجابي الشديد بكاتب المسلسل الذي يتمتع بحس روائي مرهف .. لكنني من خلال تعاملي مع الرجل والنص الذي كتبه ، فلقد وجدته وهو يكتب نصا عن نوري السعيد ، وهو في مكان بعيد من بلاد الشام ، ومن دون أن يعيش تجربته ، أو يدرك من عايش تلك التجربة ، فضلا عن بعده الجغرافي عن تراث العراق السياسي ..
عندما بدأت اقرأ النص لأول مرة ، عشت بركانا شديدا ، وحاولت ارفض مراجعة العمل ، ولكن رسائل من الأخ المؤلف جعلتني اطمئن لهذا الفنان المثقف الذي منحني الثقة بأن النص سيكون على غير ما كان عليه .. لقد قرأت العمل كلمة بعد أخرى ، ومشهدا بعد آخر وسجلت عليه ملاحظات كثيرة جدا باللون الأحمر لم أزل احتفظ بها .. كما اعترضت على بنية الروي بأن الشعب العراقي لا يمكن أن يمّثل بشخصية أحادية تافهة تفرد لها مشاهد لا تمت للحقيقة بصلة .. إن كل من تابع مشاهدة مسلسل الباشا ، وسواء كان معه أو ضده ، لابد أن يدرك أن المراجعة التاريخية لم يؤخذ بها ، ولا بملاحظاتها ، ليس بسوء قصد أو نية ، بل ليعلم الجميع ، بأن هذا العمل قد كتب وأنتج واخرج بشكل سريع جدا ، وقد رافقته مشكلات جمة صعبة منذ البدء بالتفكير به وانتهاء بعرضه على شاشات التلفزيون .
ولا يفوتني هنا إلا أن اقتطع بعض نصوص رسالة أرسلتها إلى الصديق الأستاذ سعد البزاز الذي وقف على رأس هذا المشروع ، ومما قلته له برسالة مؤرخة في 10 سبتمبر/ أيلول 2008 :
عزيزي ، اكتب إليك لأعلمك بأنني تابعت بعض حلقات مسلسل ( الباشا ) على البث المباشر للشرقية على الانترنيت ، كون الفضائية لم تصلني تلفزيونيا ( هنا في كندا ) .. وكما تعلم أنني كنت الخبير التاريخي للمسلسل .. وقد تألمت جدا لأن أمورا وتصويبات وأفكار ومطالبات كثيرة سجلتها على النص ، ولكن لم يؤخذ بها وكلها مسجّلة عندي .. لقد باركت خطوتك الرائعة لمشروع هذا المسلسل ، ولكن عرض بعض حلقاته حتى الآن قد خّيب ظني مع الأسف . وكان الأخ المؤلف فلاح شاكر وهو صاحب إبداعات متميزة قد وعدني بأخذ كل تصويباتي واقتراحاتي .. ولكن لا ادري هل كانت الأخطاء من المخرج في الخروج عن النص المصحح ، أم التعابير ، أو المعلومات .. واعتقد أن اسمي قد ظهر في المقدمات كخبير تاريخي . وعليه ، فان أي نقد ، أو طعن ، أو هجوم .. سيفرض عليّ الرد وتوضيح هذا الالتباس .. وإذا كان المخرج ، أو المؤلف ، أو الممّثل لم يأخذوا بما اكّدت عليه ، وحرصت على الأخذ به ، فما معنى قراءتي للنصوص ؟ وما معنى الإتعاب التي بذلتها " .
واستطردت قائلا : " أريد أن أعلمكم بأنني غير مسؤول أبدا عن الحلقات التي ظهرت حتى الآن . لقد أوضحت كيف تكون شخصية نوري السعيد وطريقته .. أوضحت كيف يتكلم العراقيون مع الملك فيصل .. أوضحت أن رتبة جعفر العسكري هي اكبر من رتبة نوري وقت ذاك .. أوضحت مؤكدا بالقلم الأحمر أن المس غروتود بيل تكبر الملك فيصل كثيرا ولم ينادها بابنتي أبدا .. أوضحت أن الطابع العام كان حضريا وليس متريفا في بغداد والمدن الكبيرة .. أوضحت الحاجة إلى أن تكون الأزياء مثلما كانت وقت ذاك ، طالبت بأن تكون هناك مناظر خارجية ، وان لا يبقى التصوير حبيس الغرف .. أوضحت أن لابد أن تكون الموسيقى الشعبية هي بغدادية وليست ريفية .. وان اللهجة المستخدمة عند فيصل هي حجازية ، ورستم حيدر لبنانية ، ولهجة جعفر ونوري بغدادية صرفة .. وان نوري لابد أن يكون خفيف ظل ومرح وليس ثقيل دم .. وغيرها عشرات الأمور . لقد أصبت بإحباط كبير يا أبا الطيب .. وندمت جدا على أن يكون اسمي موجودا على هكذا مسلسل مع اعتزازي بالأخ المؤلف ، فقد كان رائعا معي أثناء تبادل النصوص ، مع اعتزازي بكل العاملين فيه .. ولكن تألمت كيف أنفقت الآلاف المؤلفة من المال ليكون بهذه الصيغة حتى الآن ! ولقد توقعت ذلك لأن الحلقات الأخيرة لم تصلني ويبدو أن الاستعجال كان قد سبب كل هذا الإخفاق .. واعذرني أن أقول ذلك ، وأنا أقارن هذا " المسلسل " بمسلسل فاروق أو غيره من مسلسلات التاريخ العربي الحديث والمعاصر.. " ( انتهى نص الرسالة ) .
لقد أرجأت نشر موقفي من المسلسل حتى الآن كي أطلع على كل ردود الفعل التي كتبها مثقفون وفنانون عراقيون .. ولم أجد حتى الآن أية نقدات من زملاء مؤرخين عراقيين اعتقد أنهم لم يقبلوا أبدا بالمسلسل ، وما رافقه من هنات فنية لا يمكن قبولها . ولابد لي أن أوضّح للعالم كله ، ما دمت لم اقرأ أي رد حقيقي يوضّح بعض الحقائق ، إذ كان المؤلف يخبرني بأن التنفيذ قد بدأ قبل أن ينهي كتابته المسلسل ، فتوقعت حدوث أخطاء جسيمة .. ولقد علمت بتفاصيل واسعة من خلال اتصال تلفوني أجراه معي الأخ مدير قناة الشرقية ، موضحا لي جملة من المشكلات التي لا يمكن تّحملها إثناء تنفيذ العمل ، خصوصا وقد جرى على ارض غير عراقية .. ناهيكم عن سرعة التنفيذ من اجل عرضه في شهر رمضان المبارك السابق ، إضافة إلى ما كان يعانيه بطل المسلسل الفنان الراحل عبد الخالق المختار من أزمة صحية يوميا ، والتي أفضت إلى رحيله المؤسف بعد أشهر ..
إنني اقّدر جدا كل التبريرات ، ولكن ينبغي أن أوضح بعض الملاحظات التي أتمنى على كل الإخوة القائمين لإكمال مثل هذا " المشروع " يوما ، أو تنفيذ أي مشروع مشابه له :
(1) بالرغم من جعل المرئي التاريخي مشروع ذاكرة جمعية لبناء وعي جديد بالتاريخ ، فينبغي أن نكون حياديين في تناول أهم شخصيات العراق حساسية .
(2) أن جيل اليوم من العراقيين يختلف تماما في تفكيره وتصرفاته ، وتعابيره وخطابه ، وفي مناخه العام وأذواقه عن جيل حضري يسبقنا بخمسين سنة .. فينبغي تمثيل ذاك الجيل لا غيره .
(3) إن المراجعة التاريخية أساسية لأي مشروع في السيمافور التاريخي الفني .. وان لا يقتصر دورها لقراءة النص فقط ، بل على صاحبها مراقبة الديكور والماكيير والتمثيل وحتى الإخراج.
(4) إن بعض الانتقادات التي قرأتها على المسلسل ، إنما انطلقت من زاوية سياسية محددة ، وبسبب كره دفين لنوري السعيد ، بحيث لم تكن حيادية في تقييمها وإطلاق أحكامها ، وكان يستوجب معالجة ذلك كما اقترحت من خلال بعض المشاهد .
(5) التروي والدقة وعدم التسرع في تنفيذ أي مشروع يعتني بالتاريخ من اجل مقاربة المرئي والسيمافور التاريخي للحاضر .
وأخيرا، فان مثل هذا " المشروع " الفني الكبير ، وهو يأتي في مثل هذه الظروف الصعبة للغاية ، هو رسالة للعالم ، بأن الفن العراقي لم يزل على قيد الحياة .. وان العراقيين ما زالوا يتعلمون كل يوم شيئا جديدا من تاريخهم المثقل بقوة الأحداث وقوة الشخصيات .. كما أن هذا " المشروع " هو رسالة لكل العراقيين اليوم ، مواطنين ومسؤولين عن زعيم عراقي اسمه : نوري باشا السعيد ، كان وسيبقى يثير أسئلة لا نهاية لها ..
نشرت في الزمان اللندنية ، 6 ابريل 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com