مشكلة اليسار العراقي
" قول الصدق في زمن الخديعة عمل ثوري "- جورج أورويلفي فوضى التعابير والمصطلحات السياسية، اختلط الأمر على البعض، فاعتبر كلمة (اليسار) مرادفة للشيوعية حصرياً، وهذا خطأ. نعم، كل شيوعي يساري، ولكن ليس كل يساري شيوعي. فاليسار تعبير فضفاض يشمل طيفاً واسعاً من السياسيين التقدميين الذين يناضلون ضد الظلم، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا الموقف ليس حكراً على الشيوعيين. وكما بيَّن المفكر المصري الراحل، أحمد عباس صالح، في كتابه القيم (اليسار واليمين في الإسلام)، أن الصراع بين اليسار واليمين كان قديماً منذ فجر الإسلام، ولكن دون وجود هاتين المفردتين آنذاك، فكان اليسار ممثلاً بشخص الإمام علي (ع) وأتباعه، واليمين بشخص عثمان وأتباعه من بني أمية، وبعد مصرع الإمام علي، ابتلي الإسلام والمسلمون باليمين وإلى الآن. وعن مفهوم اليسار، قال المؤرخ والفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ريفيل: " أن تكون يساريا هو أن تناضل من أجل الحقيقة والعدالة الاجتماعية، ولا مخرج لليسار الفرنسي ما لم يعترف بأن ونستن تشرتشِل كان أقرب لليسار من جوزيف ستالين"، وكان من رأيه ورأي كثيرين من اليساريين أن ستالين عدو للشيوعية.
ومما يجدر ذكره، أن المصطلحين، اليسار واليمين، ظهرا لأول مرة إبان الثورة الفرنسية، حيث كان نواب الفقراء يجلسون على يسار الملك لويس السادس عشر، ونواب النبلاء الإقطاعيين على يمينه، فشاع تعبير اليسار واليمين منذ ذلك الوقت. والحقيقة إن الثورة الفرنسية أغنت القاموس السياسي بالكثير من المفردات السياسية، معظمها كانت ألقاباً لأشخاص اشتهروا في سلوكيات معينة، فصارت ألقابهم مصطلحات تعبر عن تلك السلوكيات مثل الشوفينية، نسبة إلى جندي فرنسي يدعى Nicolas Chauvin، الذي كان متطرفاً في وطنيته الفرنسية، وغيرها من مصطلحات لا مجال لذكرها.
وعلى ضوء ما تقدم، فجميع الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في العالم هي يسارية ولو بدرجات مختلفة.
دعوة لإعادة النظر في المسلَّمات
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، تم تثقيف العراقيين بالكثير من الأفكار المعادية للغرب، بما فيها قيمه الحضارية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وغيرها... وعلمونا منذ تعليمنا المبكر، أن هذه القيم والمفاهيم ما هي إلا خدع استعمارية، ومن نتاج الرأسمالية "المتوحشة"، غرضها خدع الشعوب واستغلالها ونهب خيراتها، حتى صارت هذه التعاليم غذاءنا الثقافي والروحي اليومي، ومن المسلَّمات التي لا يمكن الشك بها. ولذلك اعتبروا معظم المعاهدات والأحلاف العسكرية التي أبرمتها الحكومات العراقية المتعاقبة في العهد الملكي مع بريطانيا وغيرها، أنها معاهدات استعمارية إسترقاقية مخلة بالسيادة الوطنية، غرضها استعباد الشعب ونهب ثرواته. لذلك استمرت الانتفاضات الشعبية ضد هذه المعاهدات والتحالفات العسكرية، ودفع الشعب تضحيات جسيمة من أرواح أبنائه، وبدون أي مقابل، كانت حصيلتها الكوارث، وآخرها حكم البعث الفاشي الذي جعل من العراق خرائب وأنقاض.
وبعد كل ما حصل للشعب العراقي من كوارث بسبب هذه السياسات والمفاهيم المعادية للغرب، نعتقد أنه قد حان الوقت لنعيد النظر في تاريخنا ونخضع تلك التعاليم والمفاهيم للمساءلة، كأن نسأل: لماذا حصلت هذه الكوارث؟ وأين يكمن الخطأ؟ وإلى متى نبقى نتردد حتى من طرح السؤال عن مدى صحة هذه المفاهيم، خوفاً من أن توجه ضدنا تهمة الجهل أو معاداة الوطن؟
المعاهدات والانتفاضات في العهد الملكي
معظمنا يذكر بفخر واعتزاز الانتفاضات الشعبية في العهد الملكي، والتي لعب الشيوعيون فيها دوراً بارزاً في تنظيمها وقيادتها ضد المعاهدات التي أبرمتها الحكومات المتعاقبة في ذلك العهد مع بريطانيا. ففي وثبة كانون الثاني عام 1948 ضد معاهدة بوتسموث (جبر- بيفن) قتل وجرح فيها أكثر من 400 في بغداد حسب ما جاء في كتاب حنا بطاطو الذي حصل على الأرقام من سجلات الشرطة، عدا العشرات، وربما المئات، من الذين سقطوا في النهر واستشهدوا، ولم يعرف عددهم. أقول، هل الإنسان العراقي بهذا الرخص بحيث يضحى بحياته، مع العلم المسبق بشراسة القمع في مواجهة هذه الانتفاضات آنذاك، ومقابل ماذا؟ لقد أصبح التمجيد بالاضطهاد والتضحيات كل ما كسبه الشيوعيون، حتى صار الاضطهاد بحد ذاته هدفاً من أهداف حزبهم.
والسؤال هنا، هل كانت معاهدة بورتسموث بهذا السوء بحيث كان على شعبنا أن يدفع كل هذه التضحيات لإلغائه؟ وهل كان الشيوعيون يحرضون ضد هكذا معاهدة ويصفونها "بمعاهدة استعمارية استرقاقية" لو كانت قد أبرمت مع الاتحاد السوفيتي مثلاً؟ فالآن، ونحن في القرن الحادي والعشرين، نعلم الجميع، أن هناك العشرات من الدول ترتبط مع بعضها بمعاهدات سياسية واقتصادية وأحلاف عسكرية، مثل دول حلف الناتو، والوحدة الأوربية. وكذلك في عهد الاتحاد السوفيتي، كانت الدول الاشتراكية في حلف وارسو، فهل كانت سيادة هذه الدول ناقصة بسبب هذه المعاهدات والأحلاف العسكرية؟ والآن لأمريكا قواعد عسكرية في عشرات الدول مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وألمانيا، وقطر، بل وحتى في بريطانيا العظمى، فهل خسرت هذه الدول سيادتها؟
لذلك، أعتقد أن الشيوعيين الذين كان لهم الدور البارز في التأثير على الشارع العراقي وتحريضه للتظاهر ضد تلك الأحلاف والمعاهدات، كان موقفهم منسجماً مع سياسات الاتحاد السوفيتي، وربما بإيعاز منه، ولكن بذريعة الدفاع عن مصلحة الشعب والسيادة الوطنية. ووفق قناعاتنا اليوم، لا أرى هذه الانتفاضات كانت في صالح شعبنا، بل العكس هو الصحيح، إذ جلبت له الكوارث على المدى القصير والبعيد.
وإذا كانت القوى الوطنية معذورة في تبنيها مواقف عدائية متشددة ضد الغرب، ومناهضتها لمعاهدة بورتسموث وغيرها آنذاك، حيث كانت تتعامل مع تلك المعاهدات بذهنية وثقافة مرحلة الحرب الباردة، والانحياز للمعسكر الاشتراكي ضد الغرب الاستعماري، فالأمور مرهونة بأوقاتها، ولكن هل من الحكمة مواصلة ذات السياسة الخاطئة وأن نبقى أسرى عقلية تلك المرحلة ونحن في القرن الحادي والعشرين، زمن العولمة والقطب الواحد، وتداخل مصالح الشعوب؟ نعم، ليس بإمكاننا تصحيح أخطاء الماضي، ولكن ألا يحق لنا أن نعيد النظر في هذا الماضي وننتقد أخطاءه لكي لا نكررها؟
الموقف من العولمة؟
نشرت قبل سنوات مقالاً بعنوان (العولمة حتمية تاريخية)[1]. من المؤسف القول أن مازال بعض القوى السياسية رغم أنها تحسب نفسها تقدمية إلا إنها تتعامل مع قضايا اليوم، مثل العلاقات العراقية – الأمريكية، بعقلية ومفاهيم رجعية، أي بعقلية مرحلة الحرب الباردة. لذلك يعتقدون خطأً بـ "اعتبار انسحاب القوات الأميركية من العراق مشتركا وطنيا غير قابل للمساومة" حسب تصريح قيادي شيوعي لصحيفة (الشرق الأوسط) قبل أيام، وكذلك عداءهم للعولمة. فالعولمة أصبحت اليوم حقيقة لا يمكن مناهضتها أو حتى تجاهلها، بل الترحيب بها، والاستفادة من إيجابياتها الكثيرة، لأنها حتمية تاريخية، ونتاج التقدم العلمي والثورة التكنولوجية في الاتصالات ونقل المعلومات، حيث جعلت من العالم قرية كونية صغيرة، ومصالح الشعوب متداخلة ومتشابكة. فعالمنا اليوم يواجه مشاكل وتحديات عالمية كبرى مثل الإرهاب، والمجاعة في أفريقيا، والجفاف وشحة المياه في العالم الثالث، والأوبئة، وتغير المناخ، والإنحباس الحراري، والأزمات المالية والاقتصادية، وحروب إبادة الجنس، وسباق التسلح النووي، والصراعات السياسية بين الدول (مثل الصراع العربي-الإسرائيلي)...وغيرها كثير من المشاكل العالمية التي لا يمكن مواجهتها إلا بتضافر جهود دولية مشتركة. فكيف والحالة هذه يطالب الرفاق بمناهضة العولمة؟
إن الذين يدعون إلى مناهضة العولمة دليل على أنهم مازالوا يتعاملون مع مشاكل اليوم بعقلية الأربعينات من القرن الماضي، وعقلية الحرب الباردة، ولم يتعلموا أي درس من الكوارث الماضية وسياساتهم الخاطئة، فالسياسي الحصيف هو الذي يحاول الاستفادة من إيجابيات العلاقة مع الدولة العظمى والعولمة لا معاداتهما. ويجب أن يفهم هؤلاء أن المعسكر الشيوعي أنهار لأنه ضد الطبيعة البشرية، والنظام الديمقراطي الرأسمالي انتصر وفق مبدأ البقاء للأصلح.
نقد لا خصام
رغم أن النقد هو جزء أساسي من الفكر الماركسي وفق مقولة ماركس: "النقد أساس التقدم"، إلا إنه ومع الأسف الشديد، ما أن توجه أي نقد لأي موقف يساري أو شيوعي، حتى وتنثال عليك تهمة العداء، ليس للشيوعية فحسب، بل ولليسارية بصورة عامة. فالنقد عندهم عداء، وراحوا إلى أبعد من ذلك، فبعد أن فسروا النقد عداءً، روجوا لمقولة مفادها "أن من يبدأ بمعاداة الشيوعية ينتهي بمعاداة الوطن"، وبالتالي يكون أي نقد للشيوعيين هو بمثابة عداء للوطن، معاذ الله!!. والغرض واضح من ذلك، وهو كم الأفواه، وتصفية الناقد، وإقصائه وإلغائه اجتماعياً وسياسياً، ولو كان بإمكانهم لأبادوه جسدياً، وهذا هو الإرهاب الفكري بعينه، يمارسه البعض من حملة الأيديولوجيات الشمولية، اشتهر به البعثيون وغيرهم من الفاشيين والنازيين.
أؤكد للأخوة، وكديمقراطي ليبرالي، فإني أدين وأشجب كل عداء للشيوعية، رغم أني اختلف مع الكثير من أفكار وسياسات الأحزاب الشيوعية وأيديولوجيتها، إذ كما قيل ملايين المرات: "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية". لذلك فلو صح اعتبار النقد للأحزاب الشيوعية معاداة لها، وبالتالي معاداة للأوطان، لاعتبرت جميع الأحزاب غير الشيوعية في العالم خائنة ومعادية لأوطانها، وهذا هراء. فالنقد واجب من واجبات المثقف المهتم بالشأن العام، إذ كما قال الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت (Kant): "إن عصرنا هو عصر النقد، وكل شيء ينبغي أن يخضع للتفحص النقدي قبل القبول به أو رفضه."
وكمثال عن تطير البعض من النقد، استلمت قبل فترة رسالة إلكترونية من صديق، وهو ومن خلفية شيوعية، والآن ديمقراطي ليبرالي، ومازالتْ تربطه علاقات اجتماعية وصداقة مع الشيوعيين، كتب لي معاتباً، أن مقالاتي الأخيرة لم تعجبه لأن فيها نقد للشيوعيين. كما ونشر آخرون، شيوعيون أو متعاطفون معهم، أكثر من ست مقالات – لحد علمي- رداً على مقالي الموسوم: (التظاهرات كعلاج نفسي)، بعضها اتصف بالهدوء وأدب الحوار مثل رد الأستاذ عادل حبه الذي أجبت عليه في حينه، ومقال آخر للأستاذ أسعد محمد تقي، بعنوان: (الدكتور عبد الخالق حسين بين النوايا الطيبة والموقف من اليسار)، أحاول الإشارة إلى بعض ما ورد في مقاله هذا. أما المقالات الأخرى فكانت تتصف بالتشنج والبلطجة البعثية، لذلك لا تستحق الإشارة إليها، فهؤلاء أساؤوا لمن دافعوا عنه أكثر مما أساؤوا لي. لذا، فالغرض من هذا المقال ليس الرد على أحد بقدر ما هو مساهمة في مناقشة أزمة اليسار العراقي، وبالأخص الحزب الشيوعي، ودوره في حل المشاكل التي يواجهها عراق ما بعد الفاشية البعثية، والإجابة على سؤال: هل العراق بحاجة إلى حزب شيوعي؟ وهل الحزب الشيوعي العراقي هو حقاً شيوعي وفق المنظور الماركسي- اللينيني؟؟؟؟
وبالعودة إلى مقالي (التظاهرات كعلاج نفسي) بينت فيه ما تعرض له شعبنا من ظلم وقهر واستلاب خلال حكم البعث الفاشي. فهناك دراسات تؤكد أنه إذا تعرض أي شعب للظلم ولمدة طويلة، فإن ذلك يؤثر سلباً على سلوك الأفراد والجماعات، ويسبب توترات وانفعالات نفسية، وأفعال متطرفة خاصة بعد القضاء على النظام الجائر وزوال القمع. ففي هذه الحالة تعم الفوضى باسم الحرية التي لم يعهدها الشعب المضطهد من قبل، ولذلك قال فردريك انجلز: "لا تتوقع من شعب مضطهد أن يتصرف بلياقة". ولا أعتقد أني بحاجة إلى شهادة اختصاص في علم النفس أو علم النفس الاجتماعي لأكون مؤهلاً في الخوض في مثل هذه المواضيع، فالمسألة تقع ضمن الثقافة العامة والشأن العام.
كما وانزعج آخرون من قولي (لو لم يكن هذا "الثنائي الشيوعي- البعثي"، لكان العراق الآن أفضل من أية دولة خليجية). لا أرى في هذه العبارة إساءة للحزب الشيوعي، فالثنائية مبدأ من مبادئ المانوية، وهي ديانة عراقية قديمة معروفة ظهرت في بابل أواخر القرن الثاني الميلادي، تربط الثنائيات المتناقضة، مثل: الخير والشر، الضوء والظلام، الحياة والموت...الخ، يعني أحدهما إيجابي والآخر سلبي. ولذلك فالتعبير(الثنائي: الشيوعي – البعثي) هو ثناء للشيوعي، وذلك لما نعرفه عن البعث من شرور. أما قولي "لكان العراق الآن أفضل من أية دولة خليجية"، فما زلت أعتقد بصحته لأسباب كثيرة معروفة. فالدول الخليجية نجت من هذا الثنائي، وسياسات الثورجية، لذلك قاد حكامها شعوبهم إلى الخير العميم.
فالعراق الذي كان يعد أغنى بلد في العالم بالزراعة وخاصة بغابات النخيل، والثروات الطبيعية، قاده الثورجية إلى الخراب الشامل بسبب معاداتهم للغرب، وأحالوا غابات نخيله ومزارعه الأخرى إلى صحارى قاحلة، ومدنه إلى خرائب وأنقاض، بينما حوَّل الخليجيون قراهم الطينية خلال أقل من نصف قرن، إلى مدن كبرى عامرة بناطحات السحاب، تنافس العواصم الكبرى في العالم، وصحاراهم إلى جنات وارفة. وبعد كل هذا، ألا يحق لنا أن نسأل، أين يكمن الخطأ؟
لولا الشيوعية لما كانت الفاشية
ذكر المؤرخ البريطاني Norman Davis في كتابه القيم (تاريخ أوربا) الذي أشرت إليه في مقال سابق، أن ولادة الحركات الفاشية والنازية في أوربا كانت رد فعل للحركات الشيوعية. وهذا ينطبق على ولادة الفاشية العربية المتمثلة في حزب البعث في سوريا والعراق. فقد أكد الأستاذ أسعد محمد تقي في رده على مقالي المشار إليه أعلاه قائلاً: "وكانت الأهداف المعلنة للبعث تفضح الهدف الرئيسي من تشكيلِهِ وهو مصارعة الشيوعيين بالشعار القومي واللبرالي، إضافة إلى منافستهم في شعارهم الرئيسي: الاشتراكية." وأنا إذ أتفق كلياً مع السيد أسعد حول غرض البعث من تأسيسه، وأضيف أنه حتى ميشيل عفلق، أحد مؤسسي حزب البعث ومنظريه الأبرز، أكد ذلك عندما قال، أنهم أسسوا حزب البعث لمواجهة خطر الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية، ولحماية الشباب العربي من الانضمام إليها، لأن الفكر الماركسي اللينيني فيه جاذبية للشباب.
ويذهب ديفز إلى أبعد من ذلك، إذ يقول، أن بعض قادة الحركات الفاشية والنازية كانوا ماركسيين في أول الأمر. وهذا صحيح، فعفلق كان ماركسياً في بداية نشاطه السياسي والفكري. وهذا تأكيد لما قلته بأنه لولا الحزب الشيوعي في سوريا والعراق لما تأسس حزب البعث في هذين البلدين، وبالتالي لما تعرض الشعبان إلى الكوارث التي جلبها عليهما البعث الفاشي. وأنا أعرف كثيرين من العراقيين، بينهم شخصيات وطنية مخلصة ومعروفة، قالوا لي أنهم انضموا إلى حزب البعث ليس إيماناً بشعاراته المعلنة، وإنما لمواجهة الخطر الشيوعي، إذ كانوا يعتقدون أن الحركة الشيوعية تشكل خطراً على العراق، حسب قناعاتهم.
ومن الجانب الآخر، أود التوكيد، ومن تجربتي الشخصية، أن أي إنسان ينتمي إلى حزب شيوعي ويحمل أفكاراً شيوعية، قصده إنساني ونبيل، وغايته التخلص من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، والقضاء على الظلم، وتحقيق المساواة بين الناس وجعلهم متساوين كأسنان المشط، ذلك الحلم الذي راود مخيلة المظلومين منذ قديم الزمان، فظهر في الأديان باسم المخلِّص مثل المسيحية التي تبشر بظهور السيد المسيح المنقذ، أو عند الشيعة الإمامية التي تعتقد بظهور (المهدي المنتظر) في آخر الزمان "ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً". والحزب الشيوعي ليس حزباً دينياً ليؤمن بالميتافزيقا أو الغيبيات، ولكن مع ذلك نرى أن الكثير من أفكار وأهداف الحركة الشيوعية هي طوباوية أقرب إلى الدينية، غير قابلة للتطبيق، وهم يعرفون ذلك جيداً، ولكنهم لا يجرؤون على إلغائها من دستورهم ونظامهم الداخلي. ولذلك أرى من الخطأ إضاعة العمر والجهد في طلب المحالِ.
حزب شيوعي أم ديمقراطي؟
ألف الراحل يوسف سلمان يوسف (فهد) الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي في الأربعينات، كراساً ينتقد فيه بعض رفاقه، بعنوان (حزب شيوعي لا اشتراكية ديمقراطية). ولكنه رغم ذلك وكما ينقل الباحث حنا بطاطو، أن فهد فاجأ رفاقه في أحد اجتماعات اللجنة المركزية قائلاً أنهم أسسوا الحزب وهم يدركون مسبقاً أن ليس بإمكانهم ليّ ذراع التاريخ. والمقصود بهذا القول أن تحقيق النظام الشيوعي هدف بعيد المنال، إذ لا يمكن حرق المراحل. وذكر بطاطو، أن عدداً من الأعضاء استاءوا من هذا القول واعتبروه مثبطاً للعزائم. في الحقيقة، إن قول فهد صحيح، لأن النظام الشيوعي لا يمكن تحقيقه الآن، ولا في المستقبل المنظور. وهناك عالمان أمريكيان في علم الاجتماع، تنبئا قبل عشرين عاماً ودون اتصال بينهما، بتحقيق الاشتراكية والشيوعية بعد مائة وخمسين سنة. لذلك يرى كثيرون من اليساريين أن لينين كان على خطأ في تنفيذ الثورة البلشفية، ومنهم القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني، الأستاذ كريم مروة الذي نشر مقالاً بعنوان: (يجب أن نحاكم لينين ). ومن هنا نفهم أن الشيوعية مستحيلة في المستقبل المنظور على الأقل، إن لم نقل بشكل مطلق!. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نكرس جهودنا في حل مشاكل عصرنا، بدلاً من التضحية بها في سبيل نظام مشكوك بتحقيقه، وحتى لو كان له نصيب في التحقق، فلماذا لا نترك الأمر للأجيال القادمة فهي أولى بتقرير مصيرها بنفسها وفق ما تفرزه الحضارة في المستقبل البعيد؟
وعلى ضوء ما تقدم، وبعد كل التطورات الفكرية والسياسية، وانهيار المعسكر الاشتراكي، وانتهاء الحرب الباردة، والعالم ذي القطب الواحد، هل هناك يساري يؤمن بالشيوعية ومبادئها مثل الدكتاتورية البروليتارية، أو تأميم المؤسسات الاقتصادية وأموال الناس، وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، والتوزيع، والخدمات؟
فالذي نعرفه من أدبيات الحزب الشيوعي العراقي، أن أعضاءه يؤمنون بالديمقراطية والتعددية السياسية والبرلمانية. كذلك أثبت الاقتصاد الماركسي فشله وإفلاسه، تخلت عنه الأحزاب الشيوعية الحاكمة مثل الحزب الشيوعي الصيني والفيتنامي، وتبنت اقتصاد السوق الرأسمالي، وبذلك حققت الصين الشعبية قفزات واسعة في النمو الاقتصادي، بعكس الاتحاد السوفيتي وحلفائه دول الكتلة الاشتراكية (سابقاً) التي أصرت على الاقتصاد الماركسي، فأفلست اقتصادياً، وانهارت سياسياً. لذلك فماذا بقي للحزب الشيوعي غير الاسم؟؟
وإذا كان الأمر كذلك، خاصة في العراق، حيث مجتمع محافظ، وفيه مد ديني صاعد، فما الفائدة من التمسك باسم (الشيوعي) للحزب، بينما المحتوى هو ديمقراطي؟ لماذا التضحية بالمحتوى القابل للتطبيق في سبيل الاسم غير قابل للتطبيق؟ لماذا يتعرض الحزب إلى نعوت شتى مثل الكفر والإلحاد...الخ بسبب تعلقهم بالاسم؟ فمعظم الأحزاب الشيوعية في دول أوربا الشرقية (الاشتراكية سابقاً) قامت بعد انهيار المعسكر الاشتراكي بتغيير أسمائها ودساتيرها، وتبنت الديمقراطية الاجتماعية(Social democracy) واقتصاد السوق، فما المانع للحزب الشيوعي العراقي أن يسلك ذات النهج؟ فالعراق في الوقت الحاضر، والمستقبل المنظور ليس بإمكانه تحقيق أي مبدأ من مبادئ الشيوعية، الماركسية- اللينينية، فلماذا يضحون بالممكن في سبيل غير ممكن؟ أليست السياسة هي فن الممكن؟
حزب سياسي أم منتدى ثقافي؟
في السبعينات من القرن الماضي، احتدم الصراع بين اليسار واليمين في حزب العمال البريطاني بقيادة هارولد ويلسون، رئيس الوزراء آنذاك، والذي كان يمثل الجناح اليميني في الحزب، فقال مخاطباً اليسار: " ليس عيباً على أي حزب سياسي أن يختار النقاء الأيديولوجي، إلا إن عليه حينذاك أن يفهم أن هذا النقاء قد يحوّله من حزب سلطة إلى ناد ثقافي غاية ما يستطيع خوضه الجدل العقيم".
وهذا القول ينطبق اليوم على الحزب الشيوعي العراقي في وضعه الراهن.
لذا، نطرح على قيادة الحزب السؤال التالي: ماذا يريدون لحزبهم أن يكون؟ حزب قابل للمشاركة في السلطة؟ أم يبقى حزب الاحتجاجات كما كان طوال تاريخه؟ أم هو ناد ثقافي مثل الجمعية الفابية في بريطانيا، مهمته التبشير بالاشتراكية؟
في الحقيقة أن الحزب الشيوعي اليوم هو ليس أكثر من حزب احتجاجي، شأنه شأن أي تنظيم آخر خارج السلطة، وظيفته تنظيم المظاهرات الاحتجاجية للتأليب على السلطة، بحق أو بدونه؟ وفي نفس الوقت يتمتع الحزب بكوادر وكفاءات تنظيمية وثقافية وإعلامية وإدارية نزيهة، مؤهلة لتلعب دوراً بارزاً في المشاركة في حكم العراق وإعماره لو أحسن استخدامها، ولكن هذه الطاقات مبددة الآن في النشاطات الاحتجاجية فقط والتي ليس لها أي جدوى، بينما المطلوب من الحزب المشاركة الفعالة في السلطة ونضال إيجابي للبناء والإعمار، وهو النضال الأصعب.
يؤول السيد أسعد محمد تقي في مقاله المشار إليه آنفاً، أن تأسيس الحزب الشيوعي وكسبه الجماهيرية الواسعة (ربما يقصد في الخمسينات والستينات) يعود إلى فقر وبؤس الجماهير وحاجة العراق لهكذا حزب. أنا لا أعتقد بذلك، بدليل أن البؤس والفقر منتشران الآن وعلى أوسع نطاق، ولكن مع ذلك تخلت الجماهير الفقيرة البائسة عن الحزب الشيوعي، وانضمت إلى الأحزاب الإسلامية، فأكثر تيار إسلامي يتمتع بشعبية واسعة هو التيار الصدري الذي هو على الضد تماماً من الحزب الشيوعي. أما لماذا كسب الحزب الشيوعي شعبية واسعة في العهد الملكي، وفي الستينات من القرن الماضي، ولماذا الانتماء للأحزاب الشيوعية، فهذا موضوع يحتاج إلى مقال مستقل.
الحملات الدعائية السلبية
الملاحظ أن الحزب الشيوعي، كغيره من القوى السياسية العراقية المعارضة، يعتمد في معارضته للسلطة على توظيف السلبيات وتضخيمها، وليس على طرح ما عنده من إيجابيات كبديل لحل الأزمات المستعصية، وإذا ما طرح حلولاً فمعظمها خيالية غير قابلة للتطبيق. وأهم هذه السلبيات التي يعتمدون عليها في حملاتهم الدعائية ضد السلطة اليوم، وإبرازها كشر مطلق أسوأ من حكم البعث، هي مسألة (حكومة المشاركة الوطنية)، ولتقبيحها وصفوها بـ "حكومة المحاصصة الطائفية والعرقية البغيضة"، إضافة إلى تفشي الفساد والبطالة، ونقص الخدمات..الخ.
ذكرنا مراراً وتكراراً، أن المحاصصة الطائفية والعرقية، ليست من صنع بول بريمر أو نوري المالكي، أو "الديمقراطية الأمريكية" كما يروِّج البعض، بل هي نتاج التاريخ والجغرافية، وهي مفروضة على العراق بحكم الواقع الذي يتطلب مشاركة جميع مكونات الشعب في الحكم. فالوضع العراقي يشبه وضع أيرلندا الشمالية، الذي فرض هذه المشاركة بين الكاثوليك والبروتستانت (Power sharing) وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع. ورغم ما في هذه الشراكة من سلبيات لا بد منها، إلا أنها أفضل من دكتاتورية الفئة الواحدة، إذ ليست هناك حلولاً سحرية لأزمة الحكم في العراق غير المشاركة. أما إطلاق أسماء ونعوت تسقيطية بذيئة عليها مثل "المحاصصة الطائفية والعرقية البغيضة!!" على هذه المشاركة، فلا يقدم حلولاً ناجعة إن لم يعقد المشكلة أكثر.
فالصراع الطائفي كان موجوداً منذ تأسيس الدولة العراقية، وظهر بشكل واضح يوم قسم