ملاكمة الديمقراطية
تخلف تقوده نخبليس من السهل أبداً نسف بنى فكرية، وتقاليد مغلقة، وأذهان مستعصية في مجتمعاتنا، بل من الصعب إن كان من يمثل تلك المنغلقات أناس يعتبرون أنفسهم نخبة مفكرة ، أو طبقة مثقفة تعيش في مجتمعات متخلفة.. ويتساءل المرء دوماً: لماذا ترفض تلك النخب أو تلكم المجتمعات الديمقراطية وحرية التعبير والخلاف في الرأي؟
ربما لأنها لم تكتشف الديمقراطية ومعانيها حتى اليوم.. وربما تسيطر على أدمغتها جملة من الأفكار والمعتقدات الكاذبة.. فإذا هي لم تتقبل الرأي المخالف، فكيف لها أن تتقبل النقد العلمي ، أو تفكيك النصوص، أو تشريح الأفكار، أو الكشف عن الأكاذيب وإدانة أصحابها علنا؟
كيف لها أن تصمد من دون أيه شتائم، ولا أي سباب ، ولا أي ردود فعل عاطفية؟ كيف لها إن كانت لا تؤمن بالتفكير العلمي أن تكون صبورة في معالجة ما تجده مخالفاً لها بكل حكمة ودقة وأمانة ومقابلتها الحجة بالحجة؟ إذا كنا حتى يومنا هذا قد كتبنا وترجمنا ونشرنا في ثقافاتنا جملة من الأدبيات الديمقراطية الغربية، فما نفعها إذن إن كانت مجتمعاتنا لم تصل بعد إلى القناعة التي انطلقت منها فكرة الديمقراطية في اليونان القديم زمن سقراط، وخصوصاً بين الأساتذة والطلبة قبل آلاف السنين؟
إذا كان الليبراليون يؤمنون بالديمقراطية ، والحريات ، وحقوق الإنسان، فإن كلا من الإسلاميين والقوميين.. وكل المؤدلجين ، كانوا ومازالوا لا يؤمنون أبدا بتقبل الرأي المخالف لهم، بل يسارعون دوماً إلى النيل من صاحبه، بل يهربون من أية مواجهة حقيقية، إذ لا يريدون أي فرقاء لهم.. بل مهمتهم الإملاء على الآخرين، وما على الآخر إلا الانصياع لهم.. ولما يريدونه! فإذا كان ذلك «رأى مخالف»، فما بالك إن صدموا بالنقد العلمي أو توثيق المعلومات أو مقارنة الأدلة والحيثيات.. إلخ؟
اعتقال الرأي والخوف من كشف الحقائق
إن كانت العقليات السائدة قد تربت منذ خمسين سنة مضت على التهويم والتجديف وقمع الرأي ومصادرة الحريات.. فكيف سيكون موقف أصحابها الكبار قبل الصغار من الحياة الديمقراطية؟ ومن يقرأ اليوم كتاب جون كين «حياة الديمقراطية وموتها» ، سيكتشف أن المسألة ليست هينة أبدا في مجتمعات تفتقد فيها حقوق الإنسان وحرياته معا، وأن المشكلة لا تنحصر بالحكومات وأجهزتها القمعية والرقابية.. بل تمتد إلى المجتمعات حيث تتسلط عليها النخب المسيطرة المنضوية تحت مانشيتات شتى، لتمارس أسوأ أنواع الرقابة والإقصاء والتهميش والأساليب المبتذلة.. كي تبقى على اقانيمها وتقاليدها وممارساتها في الذي تفكر فيه تحت مسميات شتى. كنت أتمنى أن يمارس هؤلاء حق الرد إن كانوا يؤمنون حقاً بالرأي الآخر.. وأن يقارعوا الحجة بالحجة إن كانوا يؤمنون حقاً بالنقد مهما كان نوعه أو جنسه أو طبيعته.. وأن يبعدوا العلاقات الشخصية والتدخلات الذاتية بأي موضوع! وكنت أتمنى عليهم أن يجادلوا بالحق، لا أن يتستروا على الأخطاء.. ولا على أصحاب الأخطاء.. وأن يجهروا بآرائهم إن كانوا فعلاً رجال علم وثقافة أو أصحاب فكر وموضوعية.. كان عليهم أن يجردوا أنفسهم من آية ميول إيديولوجية أو سياسية من دون أن يدافعوا عن حقبة معينة ، أو شخصية معينة ، أو زعيم معين ، أو حزب معيّن ، أو حالة معينة من دون أية أدلة ولا أية حيثيات. إنهم يصّرون على الخطأ ، بل ويجعلون أنفسهم أوصياء على مرحلة أو أمكنة أو شخوص .. ويدافعون عن أخطاء لم يتحققوا منها أبدا ، بل والانكى من كل هذا وذاك إنهم لا يتحرون عن الحقائق والمعلومات بدقة متناهية قبل أن يجازفوا في إطلاق الاحكام والآراء . إن من يحترم نفسه ، عليه أن يؤثر السكوت ويصمت إن لم تكن له القدرة على تقديم الأدلة والبراهين .. ثم إن كان لكل من الدارس أو المؤرخ أو الناقد .. أسلحته التي يمكنه من خلالها أن يفحص ويدقق ويثبت أو ينفي أو يدين حالة معينة أو ظاهرة معينة أو شخص ما .. فما دخل الآخرين كي يجندوا أنفسهم للدفاع وهم لا علاقة تربطهم بالموضوع المعني ؟
احترموا الموضوع.. ولا تقدسوا الذات
يعلم الناس أنني كنت قد نشرت منذ العام 2000 كتابي الموسوم " تفكيك هيكل " وهو مكاشفات نقدية في إشكاليات محمد حسنين هيكل .. وأنشر الآن على صفحات جريدة روزاليوسف المصرية.. نقداً تفكيكياً متسلسلاً في كتاب آخر أسميته (بقايا هيكل)، وهو يعنى بالنقد والتحليل والتوثيق والمقارنة والمكاشفة.. لكل ما حكاه الأستاذ محمد حسنين هيكل على قناة الجزيرة الفضائية منذ خمس سنين، ولم يزل يذيع آراءه ومعلوماته وأفكاره عبر القناة المذكورة في موضوعات مختلفة تبدأ بالتاريخ وتستطرد بعيداً وقريباً وتنتهي بأحداث الساعة.. أقول: إن من حقي تماماً أن أعلن عن آرائي وأحكامي بما يقال أو يذاع أو ينشر إيماناً منى بالديمقراطية وحضور الرأي الآخر، واستناداً إلى معرفتي المتواضعة بالموضوعات المطروحة كما تراها الآلاف المؤلفة من المهتمين.. ولم أفاجأ أبدا أن أجد البعض من الأصدقاء والزملاء المحسوبين على التيار القومي يقفون موقفا غير محايد أبدا لما أنشره في نقد (الأستاذ)، حتى ليظن المرء أنهم غير محسوبين على تيار عاش طويلاً، واختلف حتى أصحابه فيما بينهم، بل يحسبهم وقد جعلوا من أنفسهم اتباعاً لهذا أو ذيولاً لذلك.
المناسبة الأولى:
لقد صادفت في ثلاث مناسبات عربية ودولية زملاء وأصدقاء منهم من أعرفهم، ومنهم مّمن لم أعرفهم.. تبادل بعضهم معي الكلام، فقال أحدهم ، وهو كاتب شهير وأستاذ جامعي معروف: هل بالإمكان إرجاء نقداتك للأستاذ هيكل إلى زمن آخر؟ قلت له: ومن يضمن أنني أعيش إلى زمن آخر؟! وقال آخر وهو مثقف قومي معروف: صديقي.. ما لك أنت وهذه الشغلة؟! دع الرجل يحكى للعالم ما لديه؟ أجبته: وهل ترى أنني مانعه من الكلام؟! إنني أتمنى أن يبقى مسهباً في كلامه، حتى نكمل عملية النقد لما يقول! ووقف معي أحد معارفي وأصدقائي القدماء قائلاً: هل أضرك الرجل بشيء.. حتى تعامله بكل هذه القسوة؟ قلت له: وهل تعتقد أن الإنسان معصوم من الأخطاء حتى لا يمكن انتقاده؟! وهل إذا أخضعنا أعماله وأقواله للنقد نكون قد جنينا عليه؟! وهل تعتقد أنني انطلق من وازع شخصي أم أعالج الأمر من ضرورة موضوعية؟! وجلس إلى جانبي مفكر سياسي وهو أحد الأساتذة الجامعيين المعروفين ، يقول: ما لك والأستاذ؟! لماذا تسيء إلى سمعتك عندما تنشر في " روزاليوسف " (كذا)..إذ قد لا تدرى أن هناك تصفية حسابات؟ قلت له: وهل تراني دافعت عن أحد ضد أحد؟! وهل وجدتني صفّقت لصراعات معينة؟! أتمنى عليك أن تقرأ ما أطرحه لترى أنه محاججة جدلية وخطاب حوار ونقد مفاهيم وتصويب أخطاء.. بل حتى اعتراف بصحة بعض الآراء.. فما الذي فعلته حتى أسيء إلى سمعتى؟!
المناسبة الثانية
في مناسبة أخرى، سخرت من ( مفكر ) يحسب نفسه صاحب تنظير قومي عندما قطب حاجبه وكشر عن نفسه، وكنت أعرفه منذ عشرين سنة.. ناديته بأعلى صوتي: خلينى أشوف ابتسامتك.، ما بالك كئيب كمالك الحزين كما لم آلف ذلك منذ سنين.. التفت ليقول شيئاً مع ابتسامة مصطنعة، فمضيت عنه! وفى جلسة المؤتمر.. يبدو أن اثنين ممن يدعيان الكتابة في الشأن الإسلامي، ويحسبان أنهما من كبار (المفكرين) الإسلاميين قد تحفزا لإثارة أشياء تافهة ضدي بسبب انحيازهما الفاضح للأستاذ.. ولكنى عرفت كيف أرد الصاع عليهما صاعين، فلاذا بالصمت الرهيب والنظرات الخجلى! وفى حفل عشاء، جلس إلى جانبي زميل جامعي ورئيس تحرير إحدى المجلات المصرية الشهيرة ، ومضينا في حديث طويل، فقال: أبارك خطوتك في نقذ هذا ( )! إنني أتابع بشغف كبير كل ملاحظاتك ضد هذيانه! قلت: ولكن وجدتُ من يعترض سواء من الإخوة المصريين أو العرب، قال: ثق أن هؤلاء من المصفقين له لأسباب سياسية، وهم لا يؤمنون بالديمقراطية أبدا. قلت: ولكنهم يتشدقون بها وبالتقدمية والطليعية منذ بداياتهم؟ قال: يا عمّي أكل العيش أهم من الديمقراطية! أيه ديمقراطية يؤمن بها هؤلاء؟! امض إلى حيث تريد.. فمن حقك تماماً أن تجادل وتنقد وتحاور.. وعلى الآخر قبول الرأي الآخر..أو محاججة صاحبه .
المناسبة الثالثة
في مناسبة عربية أخرى.. كان أحدهم فظا في أسلوبه وهو يزبد ويتوعد.. قلت له: اهجع قليلاً.. أخشى عليك من نوبة قلبية، فتذهب ضحية بلا سبب، أو أن تقضى حياتك الباقية في مستشفى للمجاذيب.. ومضيت، قام أحدهم وأنا لا أعرفه أبداً، ليرد عليه بنفس أسلوبه ويسكته قائلاً: إنني لا أدافع عن الأستاذ الجميل بقدر ما أدافع عن أخلاقيات فكرية وسياسية أضعناها منذ سنين خلت عندما تقبلنا الأكاذيب والشعارات والمهاترات والسباب والشتائم.. وتركنا فرص الحوار والمجادلة وتبادل الرأي!
وأخيراً أقول:
إن المسألة لا يمكن أن تأخذ هكذا أبعادا غير مناسبة في الدفاع عن شخص يصيب ويخطئ.. وإن الإنسان مهما بلغ من العمر أو التجربة أو الخبرة أو القراءات.. فهو بحاجة إلى أن يتعلم من الآخرين، وأن يصحح أخطاءه، ويقيم اعوجاجه.. ويعترف بالرأي الآخر. إن الفكر بشكل عام لا زعامات له، ولا قداسات فيه. والأستذة لا نجدها إلا في الجامعات! إن القيم الحضارية لا تبيح لنا سلوكا مثل هذا السلوك في التصفيق، واستغلاله سياسياً.. وأن القيم العلمية لا تجيز لنا التكتم على الأخطاء وتمريرها ضمن مانشيتات زعامة فكرية موهومة.. فالفكر لا زعيم له.. أما الأستذة.. فهي تنحصر بالعلماء الأكاديميين وحدهم.. أننى لا أريد مجاملات خبيثة، ولكنني أطمع بحيادية مطلقة، وسأبقى أنشر ما أؤمن به من دون أي خطوط يفرضها هذا أو حدود يرسمها ذاك! وليعلموا أن من آداب المجادلة أن يحاجج الرأي بالرأي والمعلومة بالأخرى.. وأن من أصول النقد الأدبي عند العرب القدماء أن تكون المنازلة النقدية بين الطرفين محاججة منطقية أو أدبية أو لغوية أو فقهية أو فلسفية.. من دون أن يتخذ كل طرف عصابة له أو مليشيا للدفاع عنه!
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، العدد 4259 السبت الموافق - 23 يناير 2010
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com