مملكة الحق
إحتفلت الصحافة المغربية والعربية الأسبوع الماضي بإعلان مدرب كرة القدم الفرنسي الأصل فيليب تروسييه إشهار إسلامه. ما من شك في أن للمدرب الذي يقيم بالمغرب منذ نحو عشر سنوات حقه الكامل في اختيار ديانته في إطار حرية العقيدة التي يكفلها العالم المتحضرمن خلال مواثيق حقوق الإنسان الدولية، ذلك الحق الذي يتحول إلى اتهام قد يستوجب الإعدام في بعض المجتمعات إذا ما كان التحول عن الإسلام. القضية هنا ليست في إعلان تروسييه إسلامه، فالعقيدة تبقى في مخيلتي مسألة شخصية تتطلب حواراً منع النفس، وليست مسألة عامة للنقاش عبر وسائل الإعلام. ما كنت سأتناول القضية لو لم أكن قد قرأت ردود أفعال وسائل الإعلام المغربية والعربية على الحدث، ولو لم أكن قد إطلعت على تصريحات فيليب تروسييه الذي سأشير إليه فيما بعد بإسمه الجديد بعد الإسلام (عمر) إحتراماً له ولقراره الشخصي بتغيير إسمه. القضية هنا هي الكيفية التي تعاطت بها الصحافة المغربية على وجه التحديد مع القضية حين تم تصوير مسألة إعتناق عمر تروسييه الإسلام على أنها قضية جماعية لا قضية فردية ، وعلى أنها مسألة وطنية لا مسألة شخصية، فتحولت العقيدة على أيدي البعض من علاقة بين الإنسان وربه – كما ينبغي أن يكون الدين - إلى علاقة بين الفرد والمجتمع المحيط به، وعلاقة بين الإنسان والوطن والوطن الذي يعيش فيه.كان من أهم التعليقات الصحفية التي لفتت انتباهي في هذا الصدد ذلك التعليق الصادرعن صحيفة لوبينيون المغربية الذي رحب بالمدرب "في "مملكة القوة، مملكة الحق". لم توضح الصحيفة في تعليقها ماهية "مملكة القوة، مملكة الحق" التي رحبت بإنضمام عمر تروسييه إليها، وإن كانت الإحتمالات تشير إلى أنها لا تخرج عن (1) مملكة الدين الإسلامي. (2) مملكة العالم الإسلامي. (3) مملكة المغرب التي يعيش بها تروسييه. من الممكن أن تكون الصحيفة قد قصدت أياً من هذه الخيارات، وإن كنت أعتقد أن المقصود كان ثلاثتها كلها وجميعها. "مملكة الحق" قصد بها الإعراب عن الفخر بدين الحق (الإسلام) حيث من الطبيعي أن يؤمن المسلم بصحة وقوة عقيدته، والإعتزاز بأمة الحق (العالم الإسلامي) حيث عادة ما يشعر المسلم بحنين نحو شقيقه المسلم حتي وإن لم يشاركه الوطن، وأخيرأ شرف الإنتماء لوطن الحق (المغرب).
أتفهم بالطبع فخر المسلمين بعقيدتهم. فالفخر بالعقيدة لا يقتصر على المسلمين فقط، ولكنه ينسحب على كل مؤمن بعقيدة سواء كانت دينية أو فلسفية أو سياسية أو إقتصادية وغيرها، وإن كان الإيمان بصحة العقيدة الدينية يختلف في جوهره عن الإيمان بصحة العقائد الأخرى، حيث أن الإيمان بالأديان يرتبط بالإيمان بالحق المطلق، بمعنى أن العقيدة الدينية هنا لها التفوق على كافة العقائد النوعية الأخرى. كما أتفهم الروابط الدينية والوطنية التي تحكم علاقة الفرد في مجتمعاتنا ببني دينه ووطنه. لكن ربط الدين (الحق المطلق) بالمجتمع يبقى محور الخلاف هنا، إذ ان ربط الإثنين يصبغ المجتمع بالمطلق، ويجعل منه سلطة لا مجال للخروج عنها أو مخالفتها، ويجعل من الأقليات الدينية جماعات منبوذة وخارجة عن الحق.
ترتبط عملية التحول من وإلى الإسلام في البلدان الإسلامية بتقاليد إجتماعية قبلية وتعاليم دينية جعلت من التحول إلى الإسلام عملاً مقبولاً بل ومرغوباً، بينما جعلت من التحول عن الإسلام عملاً مرفوضاً وبغيضاً، إذ مازلت العقلية الشرقية تتعامل مع حرية العقيدة على أنها خيارات جماعية وليست فردية، لعل ذلك يعود إلى الحياة القبلية والنمط الإجتماعي المحافظ اللذين تتسم بهما مجتمعاتنا، حيث يلعب الدين والترابط الإجتماعي دورين أساسيين متشابكين في شئون الحياة اليومية للفرد والجماعة، وحيث يبقى الدين عنصر الفصل بين الخير والشر، الحسن والطالح. ومازال العالم الإسلامي يتعامل مع حرية العقيدة بمنطق العصبية القبلية، فالترحيب بالمنتقل إلى الإسلام لا يكون فقط لقبوله "دين الحق"، وإنما أيضاً لانضمامه إلى "مجموعة الحق". الأمر يختلف كلياً في حالة "دين الحق"عنه في حالة "مجموعة الحق"، إذ أن نسبة الحق في الحالة الأولى تعود إلى الإسلام، بينما تعود في الثانية إلى المجموعة. من هذا المنطلق تصطدم حرية الفرد في اختيار عقيدته في المجتمعات العربية والإسلامية بعدة عوائق من أهمها أولاً: العقيدة الجماعية للمجموعة التي قد تكون الأسرة، العائلة، القبيلة، أو المجتمع، حيث يرتبط الفرد بعلاقات وثيقة بالمجموعة ويصبح الخروج عن الإجماع العقيدي والسلوكي عملاً مرفوضاً. ثانياً: الرغبة الجماعية في تحقيق الإنسجام والتفاهم بين أفراد المجموعة عبر توحيد المعايير والإنتماءات والعقائد. ثالثاً: الرغبة في تحقيق الزيادة العددية لأعضاء المجموعة بما يضمن لها تفوقاً على نظيراتها في المحيطات المحلية أو الإقليمية أو الدولية.
من هذا المنظور يمكننا فهم الإهتمام الإعلامي المكثف بنشر أنباء وإحصاءات عن المتحولين إلى الإسلام في المجتمعات ثنائية أو متعددة العقيدة، إذ أنه يأتي على أنه تأكيد على وحدة وقوة جماعة المسلمين، ومن ناحية اخرى يمكننا فهم الحزن والنقمة التي ترافق عمليات الإرتداد عن الإسلام. لقد جرى العرف على أن يكون التركيز الإعلامي على المشاهير وأصحاب الجماهيرية العريضة لبيان مدى نفوذ وجاذبية الجماعة، وعلى الجانب الأخر جرى التقليد على تجاهل المرتدين أو التخلص منهم تجنباً لظهور الجماعة بمظهر المنقسم الضعيف. إذا ما عدنا إلى عمر تروسييه فإننا سنجد أن تهليل وسائل الإعلام المغربية والعربية بنبأ إعتناقه الإسلام وترحيبها به عضواً جديداً في العائلة الإسلامية جاء على أنه انتصار للدين والأمة والجماعة الوطنية، أي للإسلام وللعالم الإسلامي والمغاربة. لقد جاءت تصريحات عمر تروسييه ذاته لموقع "Afrik" على شبكة الإنترنت في هذا السياق لتؤكد هذا المعنى، حيث أكد على أن اعتناقه الدين الإسلامي هو وزوجته نابع من "عقيدته وحبه واحترامه للمغرب"، الذي عاش فيه لمدة تزيد عن العشر سنوات، موضحاً أن الدين الإسلامي "يتلاءم مع عقيدتي وبلدي المضيف المغرب الذي أحبه ويحبني".
لقد أصبح الربط بين الدين والمجتمع من الأمور الشائعة في العالم الإسلامي، فأصبح إطلاق لقب "الإسلامية" على المجتمعات محبباً إلى قلوب المسلمين ليس فقط لتحديد هوية المجتمع، ولكن لصبغه بالحق المطلق. يقودنا هذا إلى الحديث عن المجتمع الديني الذي أصبح مطلباً ملحاً للجماعات المتطرفة على تنوعها واختلافها، ومنها جماعة الإخوان المسلمين التي ترفع شعارات من قبيل "الإسلام هو الحل" و" دستورنا الله غايتنا، الرسول زعيمنا، القرآن دستورنا، الجهاد سبيلنا، الموت فى سبيل الله أسمى أمانينا". تبرز خطورة الربط بين الدين والمجتمع في أن ربط المطلق بالمجتمع يجعل من المجتمع المتدين ذاته مطلقاً. في المقابل يصبح من يرفض المجتمع الديني خارجاً عن المطلق، ويصبح من لا ينتمي إلى دين الجماعة ومن لا تشمله "مملكة الحق" منتمياً بالتبعية إلى مملكة الباطل. لعل القانون الذي أقره مجلس الأمة الجزائري الشهر الماضي والذي ينص على انزال عقوبات بالسجن والغرامة لكل من يحاول دعوة مسلم الى اعتناق دين آخر يأتي في هذا إطار ممارسة "مملكة الحق" لسيادتها في الجزائر.
المثير في الأمر أن القانون الجزائري الذي نص على حظر ممارسة أية ديانة ما عدا الاسلام خارج المباني المخصصة لها، وضرورة حصول أتباع الديانت الأخرى على تراخيص مسبقة لدور عباداتهم جاء متناقضا مع روح الدستور الجزائري الذي تنص المادة 32 منه على أن "الحريات الأساسية وحقوق الإنسان والمواطن مضمونة. وتكون تراثا مشتركا بين جميع الجزائريين والجزائريات، واجبهم أن ينقلوه من جيل إلى جيل كي يحافظوا على سلامته، وعدم انتهاك حرمته"، وتنص المادة 36 منه على أن "لا مساس بحرمة حرية المعتقد، وحرمة حرية الرأي"، وتنص المادة 41 منه على أن "حريات التعبير، وإنشاء الجمعيات، والاجتماع، مضمونة للمواطن" وتنص المادة 63 منه على أن "يمارس كل واحد جميع حرياته، في إطار احترام الحقوق المعترف بها للغير في الدستور". ولكن يبدو أن فاعلية كل هذه المواد تلاشت أمام نفوذ وقوة "مملكة الحق" التي تجد لها أساساً في المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن "الإسلام دين الدولة".
من الواضح والجلي أن الحريات التي ينص عليها الدستور الجزائري تعني وتخص حريات الأغلبية المسلمة في إطار حكم وسيادة "مملكة الحق"، وإلا فبماذا نفسر القانون الجديد الذي يكاد يحظر الديانات الأخر من الوجود في الشارع الجزائري. لا يجب فهم تناولنا هنا لحرية العقيدة بالجزائر على أنه تحزب أو دفاع عن الأقلية المسيحية أو الجماعات التبشيرية، فتلك نظرة قاصرة غير سليمة، وإنما تناولنا هو دفاع عن الحرية المجردة التي لا تتجزأ ولا تنفصل ولا تنقسم. لقد جاء التهليل لإعلان عمر تروسييه إسلامه وإقرار القانون الجزائري الذي وضع قيوداً شديدة على حرية العقيدة بالجزائر ليثبتا أن العالمين العربي والإسلامي لا يكيلان بمعيار واحد في قضايا حرية العقيدة. ففي الوقت الذي تكاد تختنق فيه حرية العقيدة في "مملكة الحق" بسبب القيود القانونية والإجتماعية، تنظم الإحتفالات بمن يقبل الإسلام ديناً. المجتمع لا يكون "مملكة حق" طالما عرف الظلم والتفرقة والقمع، فـ "مملكة الحق" تتطلب عدلاً ومساواةً وحريةً. فلتكن مجتمعاتنا مدنية علمانية تتوارى فيها الأديان في القلوب فتنيرها والعقول فتحررها...