منطقة تاريخية للمسيحيين أم تأريخ المسيحيين في المنطقة؟
لقد كثر الحديث في الآونة الاخيرة عن قضية الحكم الذاتي في "المناطق التاريخية للمسيحيين" (ارجو الاطلاع على المقالات، وهي كثر، المنشورة على مواقع مثل: عنكاوا كوم، نركال كيت، عشتار) التي ينادي بها سياسيي شعبنا "الكلداني، الآشوري، السرياني" واحزابه، ونُشرت العديد من المقالات التي تطالب بـ "حكم ذاتي" على المناطق والقرى المسيحية، المحصورة في منطقة جغرافية محددة، المسماة "بسهل نينوى". بالتأكيد، يستمد مثل هكذا طلب شرعيته ومنطقيته من الظروف السياسية الراهنة التي مرّ بها بلدنا بالعموم وشعبنا المسيحي بالخصوص. ولقد لاحظت ان الكثير من المقالات التي نُشرت تؤكد على ضرورة انشاء مثل هذه المنطقة ليس فقط لمجرد حماية المسيحيين وتوفير أمنهم، بل يذهب البعض الى تبرير ذلك على أساس ضمان مشاركة سياسية في ادارة البلد ومؤسساته. ولا أريد هنا الدخول في معنى المشاركة السياسية وطبيعتها في المجتمعات الديمقراطية التي بالتاكيد لها خصائص وطرق مختلفة وتختلف تمام الاختلاف عن ما ينادي به هؤلاء في مقالاتهم وخطاباتهم. لكني أريد من خلال كلمتي هذه أن أقف على عبارة "مناطق تاريخية للمسحيين" وتحليل مدى تأثيرها على طبيعة الحياة المسيحية ورسالتنا في هذا البلد الجريح والمتألم بسبب الانقسامات والتشرذمات والعنف والقتل...1. ان تعبير "مناطق تاريخية للمسيحيين" يفتقد الى الكثير من الصحة والدقة العلمية ويدخلنا في وهم كبير بخصوص طبيعة وجودنا المسيحي!؟ فباعتقادي، ليس هناك مناطق تاريخية للمسيحيين (بالمعنى الذي يقصده البعض!) اي المعنى الذي يقول بوجود مناطق ينحصر وجود سكانها على المسيحيين فقط . من الصحيح القول بوجد قرى مسيحية وأقضية مطبوعة بطابع مسيحي، بحكم تواجد مسيحي أكبر، الا انه لا يوجد "منطقة" مسيحية صرفة. تاريخ بلاد ما بين النهرين شاهد كبير على ما تمتعت به هذه البلاد من تنوع ثقافي وشعوبي (من كلمة شعوب) وصورة حيّة على تداخل معقد وتركيبة تعايشية فريدة تمتد الى اكثر من ستة الآف سنة. في الحقيقة، المناطق التي يقول السياسيون القوميون (المسيحيون) بانها مناطق مسيحية بحتة، كانت منذ القديم تحوي اقوام وشعوب (سومرية، اكدية، اشورية، كلدانية، بابلين، عربية وفارسية...الخ) وديانات مختلفة (وثنية، زرادشتية، يزيدية، يهودية، مسيحية ومسلمة) جاءت على مرّ التاريخ وسكنت وهاجرت من منطقة الى أخرى بسبب ظروف طارئة عديدة.
ليس صحيحاً أذن الكلام عن تاريخ مناطق مسيحية! اعتقد ان من الأصح ان نتلكم عن تاريخ المسيحيين في المنطقة وعن تاريخ وجود مسيحي في العراق. فالمسيحيون متواجدون في كافة انحاء البلاد: من جنوب العراق (بلاد ما بين النهرين) الى شماله ومن الفرات الى اقصى الشرق (الصين). كنيستنا المشرقية، التي كانت تتواجد على مساحة جغرافية تقدر باكثر من 8000 الآف ميل، ادركت في الماضي، ونتمنى ان تدرك اليوم، بانها مدعوة لكي تشع وتعيش حضور المسيح في كل مكان ومع كل انسان. اعتقد بان مثل هذه الطروحات المطبوعة بطابع "سياسي – مصلحي" تريد تحجيم وجودَنا وأقصار دورَنا الثقافي والحضاري وتحويله من حضور عام وضروري لكل مناطق العراق الى حضور قومي وجغرافي. فالمسيحي موجود في كلّ المناطق كما قلت وفي كلّ العراق من جنوبه الى شماله ومنذ مئات السنين، وما المناطق والقرى المسيحية إلا جزء بسيط من تأريخ قديم وعريق وأصيل أكبر وأوسع يشمل العراق والشرق باكمله. ولا أقول هذا لمسحنة العراق (اي جعله مسيحيا)، فالعراق لم يكن ولا في أي وقت من الاوقات مسيحياً بصورة مطلقة، بل هو ومنذ الآف السنين موطن لكل العراقيين بمختلف أقوامهم وأديانهم على مرّ التاريخ، شهد حضورا مسيحياً مزدهرا في اوقات عدة ولكنه لم يكن مسيحيا بصورة مطلقة وشاملة ولم تكن هناك مناطق مسيحية صرفة. هناك حضور مسيحي في قلب كل منطقة وفي كل العراق. فمن الخطأ الكلام عن مناطق مسيحية، ومن الافضل الكلام عن الحضور المسيحي في العراق والشرق. واريد ان اقول بان على المسيحي واجب روحي ورسالة انسانية في اي ارض ومكان وجد فيه، ومثل هذه التعابير والشعارات والمشاريع السياسية في وقتنا هذا تؤثر على واقعنا الديني وحقيقتنا التاريخية المهمة التي لطالما ميزت وجودنا في هذه البلد. فلا يمكن ان نتنصل او نتخلى عن رسالتنا وتاريخنا في العراق ونحصر أنفسنا في مناطق محددة، ومع الزمن ستصبح معزولة ومغلقة على ذاتها.
أظن أنه لخطأ كبير وجسيم ذاك الذي سنقع فيه عندما نترك الواقع السياسي المرير والموسوم بالانقسام والطائفية والعنف السياسي يُحدد ويَرسم تاريخنا ومستقبلنا في هذه البلاد. فأنا شخصياً، أفضّل ان اكون أنا هو من يُحدد الواقع السياسي على أن أترك نفسي ضحية وسجين لمشروع سياسي أياً كان خيره وحلوله الحالية المؤقتة.
2. اعتقد ان الوقت قد حان لكي نفصل في خطاباتنا ومقالاتنا بين الدين والقومية. استعمل كلمة دين لانها الكلمة الاكثر مستخدمة لوصف الشعور والتنظيم الديني، مع اني افضل كلمة "ايمان". الدين ليس القومية، ولا يمكن ان يكون قومياً. وديانتنا المسيحية (ايماننا المسيحي) لا يمكن ان تكون ديانة قومية. كنيستنا ليست قومية ولا يمكن ان نقولبها على حدود قومياتنا الكلدانية – الاشورية – السريانية - العربية. لقد استطاعت كنيستنا على مرّ تاريخها ان تحتضن الكلداني، الاشوري، السرياني، (الارامي)، العربي، الفارسي، الافغاني، المغولي، الهندي والصيني (منهم مَنْ تقلّد مناصب كنسية مختلفة مثل منصب (بطريرك مغولي أو أسقف صيني) وغيرها من المناصب الادراية والروحية العالية). انها كنيسة جامعة (كاثوليكية) ليس فقط بعقيدتها، بل وبتنوعها الثقافي والحضاري وانفتاحها على كل أمة وشعب ولسان.
للأسف، يريد البعض اليوم تحويل كنيستنا في العراق الى كنائس قومية: كلدانية، اشورية أو سريانية أو عربية، وهذا ما لا يتماشى مع مضمون الايمان وجوهره. الكنيسة الكلدانية ليست كنيسة القومية الكلدانية. انها كنيسة الكلداني والاشوري والعربي والفارسي والكردي ولا يجوز، باي حال من الاحوال، ان تكون مسرحا للدفاع عن قومية معينة. اصبحت كنائسنا كلدانية كاثوليكية، أشورية (نسطورية)، سريانية (ارثذوكسية) لانها أختلفت عقائديا وليس لانها كنائس قومية كلدانية أو أشورية أو سريانية أو عربية كما يدعي البعض! الكنيسة هي في المسيح، مع المسيح وللمسيح وحده.
أختم واقول أن من الضروري اليوم العمل على خلق خطاب سياسي قومي (كلداني - أشوري - سرياني) موحّد وفصله عن الخطاب المسيحي الروحي. وان تعمل الكنيسة في بلدنا على خلق خطاب لاهوتي مشرقي أصيل يتسم بالشمولية والاصالة والتجدد والانفتاح على الانسان والعالم ككلّ.
الايمان بالله والمسيح هو فعل وجودي وقدرة روحية قائمة على أساس الانفتاح على الآخر المختلف تماما وتتجه نحو تغير وجودنا البشري المتمركز على فكرة الـ "أنا" و "الفردية" لتوسعه وتمتد به نحو التعايش والتضامن والاخوّة والسلام مع كل انسان. القومية بمفهوما الانتمائي الأثني تعمل كقوة غالقة فتحددني ببني جنسي ولوني ولغتي. الايمان هو فعل يدفعني الى الدخول في علاقة محبة لا تنتهي مع من هو مختلف عني تماما، غيرمتساو معي، ليس شبيها بي، خاطىء تجاهي، بل وحتى عدو لي (متى5/ 43-45). القومية بفعلها الانتمائي العرقي اواللغوي تغلقني على من هو من بني جنسي ولغتي ومتساو ومتشابه معي.
المسيحي مدعو الى الايمان
الأب
سعد سيروب حنا
saadsirop@hotmail.com