مواقف محبطة واخرى تؤكد الحق في الاصلاح
يتنازع الحركة الاحتجاجية في العراق اليوم، والمشاركة في نشاطاتها، لا سيما الاعتصام المزمع تنفيذه يوم غد الجمعة 25 شباط، مواقف تروّج للاحباط، مقابل اتجاه نهوض جماهيري يرفع مطالب مشروعة، ويستند الى الحقوق والحريات المكفولة دستوريا.الموقف الأول يشيع المخاوف من استعدادات أزلام النظام السابق لاستغلال الاعتصام في الترويج لقيم التعسف والاستبداد، وكأن ذاكرة العراقيين مثقوبة بلا تركة من حقبة الدكتاتورية، التي طبعت حياة العراقيين بالوان الحرب والجوع والحصار والمقابر الجماعية والسجون وتغييب المناضلين وتصفيتهم. لكن الخطورة تكمن في ترك الساحة لعبث أيتام النظام المقبور، غير المعنيين بقيم الحرية والكرامة والديمقراطية. وينسى عرابو هذا الرأي ان شعبنا، شأن بقية الشعوب الحية، حين ينهض اليوم بكل قواه للتمتع بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والخدمات، فهو انما يتطلع الى الامام نحو مستقبل أفضل.
اما اصحاب الموقف الثاني فيرون أن الشعب في العراق مسلح، والاوضاع فيه ليست مثلما في تونس ومصر، وهذا – حسب رأيهم - يشكل خطرا على سلامة الاحتجاجات وسلامة المواطنين. وهم يحذرون من خطر الولوج في هذا النشاط الجماهيري، لما له من أبعاد لا يمكن التنبؤ بنتائجها !
من المؤكد ان هذا الرأي، رغم مشروعية المخاوف التي ينطلق منها، لا ينظر بموضوعية الى سير الحركة الاحتجاجية، وهي تخط تجربتها الخاصة والفريدة بعيدا عن الاستنساخ. فالحركة الاجتماعية في صراعها لا يمكن استنساخها، وهي لا تتشابه في المطلق، ويرتكب كل من يحاول استنساخها خطأ جسيما. لكن هذا لا يعني في المقابل عدم وجود قضايا مشتركة، سواء في طبيعة الحركة ام أساليبها ام الأدوات التي تعمل على ديمومتها، سيما ونحن نعيش عصر تكنولوجيا الاتصالات.
من جهة أخرى يمكن تلمس ان اغلب الاحتجاجات انطلقت سلمية، مع استثناءات معروفة. لكن الاستثناء استثناء وليس قاعدة. ثم ان المواطنين لم يكونوا المبادرين الى استخدام السلاح، انما كان ذلك واحدا من خيارات بعض الحمايات الأمنية. ومع ذلك يتوجب توخي الحذر ازاء استخدام العنف والتجاوز على الأموال والممتلكات العامة والخاصة.
الموقف الاخر يذهب ايضا الى ان الحكومة هنا منتخبة، والمواطن يتحمل مسؤولية انتخابها ومنحها الثقة، وعليه بالتالي ان يتحمل تبعات اختياره، الذي يمكن له ان يغيره حينما يحين موعد الانتخابات القادمة!
المنطق هنا غريب حقا. فهو يحصر دور المواطن وخوضه الشأن العام في مشاركته بالانتخابات وحسب، دون ان ينتبه الى ان هذا الدور ينبغي ان يكون اكبر بكثير، خاصة بالنظر الى ضعف الحكومة وسكوتها ازاء حجم الفساد الكبير، وعدم اقدامها على اتخاذ اجراءات مقنعة وناجعة، دفاعا عن الاموال العامة الهائلة التي ينهبها الفاسدون باشكال شتى، بينها ابرام العقود الوهمية في ميادين الاعمار والبناء والخدمات. وبينها تقاسم الصفقات وترتيب المقاولات، والتهام لقمة خبز الفقراء، والتجاوز على ما تبقى من مفردات البطاقة التموينة. فضلا عن الامتيازات الكبيرة التي يتمتع بها المتنفذون. الامر الذي ولـّد فجوة اقتصادية -اجتماعية كبيرة بين اقلية غنية نهمة لا تشبع من السحت الحرام، واكثرية تعيش الفاقة والعوز والبؤس. لذلك فقد الجائعون والباحثون عن فرصة عمل شريفة صبرهم، ولم تعد تنفع معهم الوعود بتحسن الاوضاع! وصار التشكيك بصدقية الحكومة هو السائد، وقد عزز ذلك عدم اقدام الحكومة لغاية اليوم على أتخاذ اجراء يطمئن الناس. فيما المحاصصة يعاد انتاجها، وصراع المتنفذين يتركز على السلطة والامتيازات والنفوذ.
وكل ذلك يعطي المواطنين الحق في الاحتجاج والتظاهر والاعتصام تعبيرا عن الرأي، وكما ضمن لهم ذلك الدستور.
نعم، ليس من المسؤولية الاخلاقية في شيء ان يترك المواطنون يواجهون أوجاعهم، عقابا لهم على اختياراتهم ( غير الصحيحة ) حين انتخبوا قوائم لم تبرر الثقة.