Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

نظرية الفراغ الأمريكية في القيادة والزعامة الزائفة

ليس هناك ما يمكن إضافته عن السياسة الأمريكية في العراق بعد الدراسة الرائعة والوافية التي ظهرت في إيلاف على خمس حلقات بقلم الكاتب المبدع الصديق حسين كركوش وكانت دراسة تحليلية مليئة بالمعلومات ومتخمة بالتساؤلات التي ألمت بالموضوع من كافة جوانبه. ولم يبق أمامنا سوى أن نحاول استكمال أطروحة الأستاذ حسين كركوش ولكن في إطار أوسع يتجاوز الوضع العراقي دون أن يهمله ويتوغل في تجليات الزعامة الأمريكية في منطقة " الشرق الأوسط" والبحث في خصوصية تلك الزعامة التي فرضت نفسها بنفسها وما ينطوي على نظرية الفراغ في القيادة التي لوحت بها دوائر التحليل الاستراتيجي العالمية .
إذا كانت أمريكا قد أخفقت في العراق ومازالت تواجه تحديات تمس هيبتها ومصداقيتها، فإن ذلك لا ينطوي على نتائج إيجابية فقط. فالصفعة التي وجهها الناخب الأمريكي لإدارة بوش الجمهورية ترتب عليها نتائج سلبية أيضاً تمثل بخلق انطباع عن عجز القوى العظمى على فرض النظام والقانون في العالم وفي البؤر الساخنة، وكشف عن ضعف السلطة التنفيذية الأمريكية التي أعلنت نفسها بصفتها " شرطي العالم". فالأخطاء الفادحة والإخفاقات المتراكمة والمتتالية التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في حملتها ضد الإرهاب الدولي قادت إلى زعزعة الأمن العالمي ونشوء خلل في منظومة النظام العالمي بما فيها هرمية القيادة العالمية.وقد انعكس ذلك بلا ريب على منطقة الشرق الأوسط والتي تقف على حافة بركان منذ عقود طويلة، وهذا الأمر بات ملموساً ومثيراً للقلق بسبب البؤر المشتعلة أو القابلة للاشتعال في كل لحظة، والتي لم تعد تهاب الشرطي الدولي أو تخاف من أحد وبالتالي ليس هناك من يردعها بسبب فشل القوة الأعظم في لعب دور الحكم والوسيط النزيه غير المتحيز في هذه المنطقة المتفجرة.فالأمم المتحدة أصبحت مشلولة منذ الحرب على العراق سنة 2003 ، مع عودة الصين وروسيا كقوى تحاول استعادة مكانتها الدولية ومجدها السابق وتأثيرها الضائع على مجريات الأمور في العالم، بسبب الفيتو ـ حق النقض ـ الأمريكي الظالم الذي يثير الاستفزاز ويؤجج مشاعر الحقد والكراهية لكل ما هو أمريكي ، والذي تشهره الولايات المتحدة باستمرار وبانتظام حماية لإسرائيل ومنع إدانتها دولياً بفعل اعتداءاتها المتكررة على جيرانها وعلى الشعب الفلسطيني في حين تفتقد أوروبا للإمكانات السياسية أو العسكرية حتى لو كانت ما تزال تحلم بلعب دور جوهري في حل الأزمة الإيرانية ـ الأمريكية ـ الإسرائيلية المتعلقة بالملف النووي الإيراني. إن هذا الغياب المبكر للزعامة الدولية ، على الأقل حتى نهاية فترة ولاية جورج بوش الثانية للعامين القادمين قد خلق فراغاً سياسياً في القيادة العالمية يثر الرعب . فالولايات المتحدة الأمريكية مرغمة اليوم على تركيز جل جهودها على الملف العراقي للخروج منه بأقل الخسائر الممكنة والمحافظة على ماء الوجه دون هزيمة نكراء ، ويترتب على ذلك إهمالها أو تغاضيها عن باقي الملفات المحرقة كتدهور الأوضاع في فلسطين المحتلة وتوتر الوضع السياسي اللبناني مما ينبئ عن مؤشرات خطيرة في المستقبل المنظور حيث قد تدفع المواجهات الكلامية الحالية إلى مواجهات مسلحة بين الفعاليات السياسية اللبنانية ، الموالية والمعادية لسوريا وإيران، أي احتمال نشوب حرب أهلية جديدة تحرق بنارها جميع مكونات المنظومة الإقليمية الشرق أوسطية ، وتأزيم التشنجات الناجمة عن تطورات الملف النووي الإيراني بسرعة مذهلة مما سيطرح تحديات إستراتيجية كبرى على أمريكا ودول العالم الغربي ودول الخليج وغيرها. هذا إلى جانب عجز الولايات المتحدة عن إيجاد حل ناجع " للورطة العراقية" حيث بدت القضية العراقية وكأنها تفلت من بين يدي الأمريكيين أكثر فأكثر ويوماً بعد يوم منذرة بوقوع كارثة مدوية سوف تحرق برذاذها هي الأخرى كل دول الجوار وما يتعداها .
بعد أن كانت دمشق وطهران في مرمى الإصابة الأمريكية، ومهددتان بالعزلة وخطر التعرض لضربات عسكرية عقابية إستباقية وعقوبات اقتصادية ومقاطعة وضغوط دولية ، تحولتا اليوم إلى محاورين أساسيين بشأن ملفات عاجلة تخص العراق وإيران وفلسطين ولبنان ، وهذا هو الثمن الذي يتعين على الإدارة الأمريكية أن تدفعه بعد هزيمتها النكراء في الانتخابات التشريعية وخسارتها للأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ في الكونغرس الأمريكي. تترجم ذلك بتنازل إدارة بوش وتراجعها عن تعنتها وغطرستها وموافقتها ـ بل يمكن القول تلهفها ـ للتحاور مع نظامي الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بعد أن كانت قد أدرجتهما على لائحة محور الشر. هذا هو ظاهر سياسة " تغيير المسار والوجهة " بدلا من سياسة " الحفاظ على التوجه والمنهج" في محاول للخروج من الفخ العراقي ولكن المستور في الخفاء قد يكون أكثر خطراً وأن ما يراه المراقبون والمتتبعون ليس سوى مجرد خدعة تكتيكية وتسويق إعلامي في سياق خطة الإعلام المضاد أو الإعلام المضلل من أجل كسب الوقت والتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق وإجراء التعديلات اللازمة في اللعبة العسكرية والإستراتيجية والسياسية القادمة .
مهما يكن من أمر، يمكن تشخيص مفارقة في السياسة الأمريكية. فمن جهة تلتقي الإدارة الأمريكية بمجموعة الدراسة حول العراق التي كلفت بصياغة مقترحات عملية بغية إجراء تغيرات في الإستراتيجية الأمريكية في العراق، والتي تنص إحدى فقرات مذكرتها التقويمية على " ضرورة فتح نقاشات جديدة وجادة مع إيران وسورية والاعتراف بدورهما في حل الأزمة العراقية " ومن جهة أخرى ، إعلان صريح ورسمي بعدم تغيير النهج والسياسة المتبعة في العراق كإستراتيجية أمريكية ثابتة حتى تحقيق الهدف المنشود وهو الانتصار على الإرهاب وتطبيق الديمقراطية في العراق. وقد صدر هذا التصريح الأمريكي بمناسبة زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت لواشنطن حيث استبعد الرئيس جورج بوش أية إمكانية لمثل هذه النقاشات المفترضة مع هذه " الدول المارقة" . في نفس الوقت يقوم بوش بتكليف توني بلير بلعب دور المستطلع أو المستشعر عن بعد لحساب حليفه الأمريكي مما حدا بالزعيم البريطاني إلى التشديد على ضرورة إتباع :" إستراتيجية عامة وشاملة وموحدة تجمع كل الأطراف المعنية من أجل التوصل إلى حلول ناجعة وشاملة لجميع الملفات المتشابكة في المنطقة ويمكن لدمشق المشاركة في وضع الحلول والمقترحات ـ بعد أن وجهت إليها اتهامات في السابق ـ وكذلك يمكن لطهران المشاركة وأن تصبح محاوراً مقبولاً ". وحتى باريس الخصم العتيد لدمشق منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري ، قبلت بالأمر الواقع وأرسلت سفيراً جديداً إلى دمشق الذي التقى نائب رئيس الجمهورية السورية فاروق الشرع كما أرسلت دمشق وزير خارجيتها وليد المعلم إلى بغداد في زيارة لتحسين الأجواء وقلب صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين، بالمقابل تعهدت دمشق بأنها ستتعاون مع النظام العراقي المنتخب لكنها ترغب في تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية من العراق ، وفي نفس الوقت أبدت الإدارة الأمريكية تفهمها لقلق دمشق وتعتقد واشنطن بأن بوسعها محاربة الإرهابيين الدوليين بسهولة أكبر لو سحبت دمشق وطهران يديهما عنهم وأوقفتا دعمهما لهم . وكان مسؤول عراقي طلب عدم ذكر اسمه كان مرافقاً للرئيس الطلباني في زيارته إلى فرنسا قد صرح من باريس قائلاً :" إن أغلب الانتحاريين الناشطين في العراق يأتون من سوريا ، فأجندة الحكومة السورية مبنية أساس معارضة النظام العراقي طالما ظل هذا الأخير متعاوناً مع قوات الاحتلال . أما نظام طهران فهو يؤيد الحكومة العراقية المنتخبة علناً لكنه يتدخل في الشؤون الداخلية للعراق ليجعل حياة قوات الاحتلال الأمريكية لا تطاق وتواجه صعوبات ومخاطر لا يمكنها السيطرة عليها . نفس الشيء يواجه القوات البريطانية المتواجدة في جنوب العراق والتي باتت تواجه معارضة شيعية متنامية لوجودها في هذا البلد ، في حين أبدت باريس قلقها على جنودها المنخرطين في صفوف قوات الفينول الدولية في لبنان، والحال أن مفتاح أمنهم موجود بيد دمشق وطهران. وتدفع برلين وروما الموجودتين داخل القوات الدولية في لبنان ، باتجاه الحوار مع طهران ودمشق. وهكذا تغيرت المعطيات وانقلبت الموازين عكس ما كانت عليه قبل بضعة أشهر حينما تكهن بعض المراقبين بقرب انهيار النظام السوري واليوم يرون أن الغرب برمته يتقرب من دمشق ويسعى لكسب ودها حتى أن نظام السيد بشار الأسد صار يشعر بأنه قوي في الداخل ولم يعد يعبأ بالمعارضة الداخلية ولا الخارجية وهو يناور لإبعاد شبح المحكمة الدولية التي ينص عليها قرار الأمم المتحدة بشأن لبنان والتي يمكن أن توجه أصابع الاتهام لبعض المسؤولين السوريين الكبار لاسيما بعد انتحار وزير الداخلية السابق غازي كنعان وشقيقه في قضية اغتيال الحريري، وهي تعمل جاهدة اليوم لاستعادة نفوذها المنحسر في لبنان، وعودة تأثيرها في بلد الإرز، وإسقاط الحكومة اللبنانية الحالية المنبثقة عن حركة 14 آذار المعادية لسوريا . وكان الرئيس السوري بشار الأسد قد أشار إلى نية التحدي في خطابه الناري الذي ألقاه بعد فشل العدوان الإسرائيلي على لبنان وانتصار حزب الله في تلك المواجهة غير المتكافئة حيث خرج من المواجهة أكثر قوة وعنفوان إلا أن استقالة وزراء حزب الله ووزراء حركة أمل من الحكومة قد يدفع بالمواجهة بين حزب الله والحكومة إلى الشارع وقد تتحول إلى مجابهة مسلحة بين الجانبية تكون دمشق هي المستفيدة الوحيدة منها .
وهكذا تبدو الأوضاع في الشرق الأوسط مأساوية وسيئة جداً، "وعلى الولايات المتحدة أن تتبنى خطاب تهدئة وليس خطاب تهديد ووعيد ضد الأنظمة القائمة لاسيما حيال دمشق وطهران وحثهما على التعاون مقابل مردودات مغرية اقتصادية وسياسية وأمنية شرط أن تعمل العاصمتان على تحجيم العناصر المتطرفة المتواجدة في أراضيها" كما يقول محلل سياسي فرنسي في المعهد الفرنسي للعلاقات الخارجية .ولكن يبقى الملف الأكثر حساسية وخطورة في السياسة الشرق أوسطية الأمريكية ألا وهو الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي. فمنذ أن عرفت نتائج الانتخابات التشريعية في أمريكا أصبح لزاماً على بوش مراجعته إستراتيجيته في منطقة الشرق الأوسط كلها وفي نفس الوقت وليس فقط ملف العراق وقد شعر الإسرائيليون برياح التغيير القادمة فبادر رئيس الوزراء الإسرائيلي لزيارة واشنطن ولم تكن تلك الزيارة محض مصادفة فقد حرص الإسرائيليون أن يكون زعيمهم هو أول زعيم في المنطقة يزور بوش بعد نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس وقد وجد بوش وضيفه أولمرت نفسيهما في موقف أضعف بكثير مما كانا عليه في لقائهما الأول في شهر أيار الماضي 2006 . من المعروف أن الديمقراطيون ليسوا اقل صداقة وتحيزا لإسرائيل من الجمهوريين . وكان الناطق الرسمي باسم منظمة الأيباك الصهيونية التي تقود اللوبي اليهودي في أمريكا وهو جوش بلوك قد صرح لصحيفة الواشنطن بوست أن الدفاع عن مصالح الدولة العبرية في الكونغرس تعني دفع أبواب مفتوحة بالأصل. ولكن منذ فشل جهود بيل كلينتون سنة 2000 ندد الليبراليون الأمريكيون بتخلي إدارة بوش عن هذا الملف الهام. والحال أن جورج بوش كان أول رئيس أمريكي يصرح علناً بضرورة خلق دولة فلسطينية كهدف منشود في المدى البعيد لكنه أطلق يد آرئيل شارون وخليفته إيهود أولمرت بالتصرف بحرية حيال الملف الفلسطيني وتجميد الدول الأمريكي في اللجنة الدولية الرباعية التي تضم الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة وتأييد سياسة المقاطعة والحصار لحكومة حماس المنتخبة ولو كان الثمن تفجر الأوضاع داخل الأراضي المحتلة. إن فشل النهج الأمريكي في العراق هو الذي حد من المضي قدماً في هذا الخط السياسي الشرق أوسطي المنحاز لإسرائيل . وكلنا يتذكر أن وزير خارجية أمريكا الأسبق جيمس بيكر في عهد جورج بوش الأب بعد حرب الخليج 1991 قد دعا لانعقاد مؤتمر مدريد للسلام بين إسرائيل والعرب ولا يستبعد أن يقوم جيمس بيكر ذاته اليوم بخطوة مشابهة لإيجاد حل شامل للمنطقة من خلال فتح الحوار المباشر مع إيران وسورية بغية تحقيق الاستقرار في العراق ومن ثم استئناف الملف الفلسطيني ـ الإسرائيلي لإعادة ترميم الصورة الأمريكية المتدهورة في نظر الرأي العام العربي والإسلامي لذلك يمكن لبيكر أن يقدم توصيات ومقترحات تخص منطقة الشرق الأوسط كلها كما توقع خبير في مجموعة الدراسة حول العراق التي يرأسها جيمس بيكر.
وكانت جملة بيكر ذات مغزى كبير حين قال :" أعتقد أنه ينبغي علينا أن نتحدث مع أعدائنا أو خصومنا . فلا السوريون ولا الإيرانيون يرغبون في شيوع الفوضى والخراب في العراق " وهذا المنطق الجديد وجد صدى في آذان روبيرت غيتس وزير الدفاع الأمريكي الجديد الذي اختاره بوش خلفاً لرامسفيلد على رأس البنتاغون. فمدير وكالة المخابرات الأمريكية السابق ووزير الدفاع الحالي يعتقد بأن غياب الالتزام الأمريكي بشؤون المنطقة يمس ويضر بالمصالح الأمريكية الحيوية في هذه المنطقة الأساسية للسلام العالمي من هنا يتعين علينا فتح حوار مباشر وصريح وصادق مع طهران ودمشق بشأن كافة المواضيع والملفات وعلى رأسها الملف العراقي الشائك " وهو الكلام الذي ردده ستيف هادلي مستشار الأمن القومي للرئيس جورج بوش. وهذا ما تنظر إليه إسرائيل بعين خائفة ونظرة قلقة وتحاول إقناع البيت الأبيض والكونغرس الجديد بصحة النهج السياسي الحالي واستخدام لغة العصا ولكن بدون الجزرة.

د. جواد بشارة / باريس
Jawad_bashara@yahoo.com
Opinions