نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى / الحلقة 12 /16
أولاً : مهمات حكومة نوري السعيد الجديدةكما أسلفنا سابقاً فإن نوري السعيد كان دوماً رجل المهمات الصعبة بالنسبة البريطانيين، الذين كانوا يوعزون للوصي [ عبد الإله ] أن يكلفه بتشكيل الوزارة كلما دعت الحاجة لتنفيذ مهمات خطيرة، فقد تم على عهده إبرام معاهدة 1930 الجائرة، وقام بالدور المعروف في مقتل الملك غازي، وتولي عبد الإله وصاية العرش، وولاية العهد، وقام بمهمة الانتقام من المشاركين والمؤيدين لانقلاب بكر صدقي، وعمل نفس الشيء مع رجالات حركة رشيد عالي الكيلاني ورفاقه العقداء الأربعة -قادة الجيش ـ الذين نفذ فيهم حكم الإعدام، وأعلن الحرب على ألمانيا وإيطاليا أبان الحرب العالمية الثانية، وشن الحرب الشعواء على الشيوعية، ونفذ حكم الإعدام بقادة الحزب الشيوعي، وانتقم من كل من كان له دور في وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948.
وها قد استجدت مهام جديدة يتطلب القيام بها وجود حكومة قوية قادرة على تحدي إرادة الشعب، وتفرض ما تكلفها به السفارة البريطانية، فكان والحالة هذه لا بد من تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة من جديد تأخذ على عاتقها تنفيذ المهام التالية وهي:
1 ـ ربط العراق بالأحلاف والمخططات الإمبريالية
2 ـ مفاوضات النفط مع الشركات البريطانية والأمريكية.
3 ـ الاستمرار في حملة مكافحة الشيوعية والحركة الوطنية.
4 ـ التصدي للحركة الكردية .
وهكذا تم تكليف السعيد بتأليف الوزارة في 15 أيلول 1950، وتم تشكيل الوزارة على الوجه التالي : (1)
1 ـ نوري السعيد ـ رئيساً للوزراء ووزيراً للداخلية.
2 ـ شاكر الوادي ـ وزيراً للدفاع ووكيلاً للخارجية.
3 ـ ماجد مصطفى ـ وزيراً للشؤون الاجتماعية.
4 ـ حسن سامي التاتار ـ وزيراً للعدلية.
5 ـ خليل كنه ـ وزيراُ للمعارف.
6 ـ ضياء جعفر ـ وزيراً للاقتصاد.
7 ـ عبد الوهاب مرجان ـ وزيراً للمواصلات والأشغال، ووكيلاً للمالية.
كان مجيء نوري السعيد إلى الحكم من جديد نذيراً باشتداد الصراع بين الشعب وقواه السياسية الوطنية من جهة ونوري السعيد ورهطه، ومن ورائه الإمبريالية من جهة أخرى.
ولقد بدأ الصراع أول الأمر داخل مجلس النواب عندما قدم 28 نائباً من نواب المعارضة مشروع قانون لتعديل قانون الانتخاب، يقضي بجعله على درجة واحدة بدلاً من درجتين، لكي يمنع السلطة من التدخل في الانتخابات عن طريق التأثير على المنتخبين الثانويين، سواء كان ذلك عن طريق شراء ضمائرهم، أو ترهيبهم، لكن المجلس الذي يضم أكثرية سعيدية رفض مشروع القانون بأغلبية 52 صوتاً ضد 32، وغياب 56 نائباً عن حضور الجلسة، وبذلك افشل مشروع القانون.
ثانياً: نوري السعيد يسعى لربط العراق بالأحلاف الغربية:
منذُ نهاية الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء على دول المحور، وبروز الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة كقوتين عظميين، وكل قوة تحمل أيديولوجيا مناقضة للقوة الأخرى،عاد الصراع بينهما، الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي من جهة، والدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة من جهة أخرى، وأخذ الصراع يتصاعد يوماً بعد يوم بين المعسكرين، وكل معسكر يسعى إلى ضم دول أخرى إلى صفوفه، وكان الصراع حول منطقة الشرق الأوسط يتسم بجانب كبير جداً من الأهمية نظراً لكونه اكبر مستودع للنفط في العالم.
وعلى ذلك فقد سعت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى ربط الدول العربية بمخططاتها للوقوف بوجه الاتحاد السوفيتي تحت شعار[الدفاع عن الشرق الأوسط].
لقد رأت العديد من الدول العربية أن من الخطأ الجسيم ربط مصير بلدانهم بهذه المخططات، ولاسيما بعد الذي حل بفلسطين على أيدي أولئك الإمبرياليين، فليس للعرب والحالة هذه مصلحة في ارتباطات كهذه، وأن من الأصلح لبلدانهم الحياد بين المعسكرين، وتجنب شرور الحرب الباردة بين المعسكرين، والأعباء التي تفرضها الأحلاف العسكرية على العراق.
لكن نوري السعيد كان في وادٍ آخر، وادي الإمبريالية، حيث سعى بكل جهوده لربط العراق بالأحلاف الغربية، مما أثار حفيظة الوطنيين العراقيين الداعين إلى الحياد بين المعسكرين، حيث أصدروا بياناً إلى الشعب نددوا فيه بالمخططات التي يسعى إليها نوري السعيد، ومخاطرها على مصير البلاد، وطالب البيان الشعب العراقي برص الصفوف، والعمل الجدي الحازم لمنع زج البلاد في الحرب الباردة بين المعسكرين وتعريض أمن البلاد والشعب لمخاطر جسيمة.
وقد وقع البيان الشخصيات السياسية التالية:
1ـ كامل الجاد رجي 2 ـ صادق البصام
3 ـ مزاحم الباجه جي 4 ـ طه الهاشمي
5ـ حسين جميل 6 ـ محمد حديد
7 ـ حسين فوزي 8 ـ عبد الرزاق الظاهر
9 ـ حسن عبد الرحمن 10 ـ عبد الهادي الظاهر
11 ـ جعفر حمندي 12 ـ عارف قفطان
13ـ صالح شكارة 14 ـ جميل صادق
15 ـ جعفر البدر 16 ـ برهان الدين باش أعيان
17 ـ قاسم حسن 18 ـ رجب علي الصفار
19 ـ عبد الرزاق الحمود 20 ـ محمود الدرة
21 ـ نائل سمحيري 22ـ عبد الرحمن الجليلي.
23 ـ عبد الجبار الجومرد
أحدث هذا البيان دوياً هائلاً في صفوف أبناء الشعب، فانهالت البرقيات لتأييد الموقعين على البيان، وقامت حملة واسعة في الصحف ضد توجهات نوري السعيد، مستنكرة ربط البلاد بالمخططات الإمبريالية، وداعية إلى الحياد بين المعسكرين.
وانتقل الصراع إلى داخل البرلمان، حيث ندد العديد من النواب بهذه التوجهات، وطالبوا بإبعاد البلاد عن آتون الحرب الباردة بين المعسكرين وبالنظر لتصاعد حملة الاحتجاجات هذه اضطر نوري السعيد إلى إصدار بيان أنكر فيه نيته ربط العراق بالأحلاف الغربية. (2)
لكن الشخصيات السياسية التي وقعت على البيان، والتي ضمت أحزاباً وطنية عدة لم تتراجع عن مواقفها، بل صعدت من جهودها، بالاتفاق فيما بينها على تأليف [الجبهة الشعبية المتحدة]، وقدمت طلباً رسميا إلى وزارة الداخلية لإجازتها في 14 نيسان 1951.
و قد اعترضت وزارة الداخلية على تأسيس الجبهة في 19 نيسان، مدعية أن الجبهة تتألف من عدة أحزاب سياسية، وهيئات وأفراد، وأن ذلك مخالف للمادة الثالثة من قانون الجمعيات. لكن المؤسسين اعترضوا على قرار وزير الداخلية لدى مجلس الوزراء الذي أحال بدوره الاعتراض إلى وزارة العدل.
غير أن وزارة العدل أيدت قرار وزير الداخلية، وطالبت بإلغاء الفقرة الواردة في طلب التأسيس، والمتضمنة عبارة [ من أحزاب وهيئات وأفراد] وتم إجراء الطلب في 16 نيسان 1951، بعد أن انسحب الحزب الوطني الديمقراطي من الهيئة المؤسسة للجبهة، على أن يوحد الطرفان جهودهما المشتركة من أجل تحقيق مطامح الشعب العراقي في الحرية والاستقلال والعيش الكريم، بعيداً عن الهيمنة الإمبريالية ومخططاتها العدوانية. وقد صدر بيان مشترك بين الطرفين يؤكد تعاونهما ونضالهما المشترك ضد كافة محاولات الإمبريالية الهادفة إلى ربط العراق بمشروع ما سمي [ الدفاع عن الشرق الأوسط ] أو غيره من الأحلاف العدوانية، وحذر البيان الحكومة من مغبة السير وراء تلك المخططات المعادية لمصالح الشعب والوطن، وما يمكن أن تؤدي إليه تلك السياسة من مخاطر جسيمة.
كما طالب البيان أن لا يصبح العراق قاعدة عسكرية لتهديد الآخرين، وإبعاد البلاد عن التكتلات الدولية التي تؤدي إلى إقحامها في حرب لا مصلحة لها فيها، وطالب البيان بصيانة الحريات الدستورية للشعب، وتعديل قانون الانتخابات، وجعله على درجة واحدة [انتخاب مباشر] لمنع أي تزوير أو تأثير على الناخبين الثانويين، وعلى نتائج الانتخابات. وطالب أيضاً بإجراء تحقيق في حوادث التعذيب، ومعاقبة المسؤولين عنها، وإغلاق المعتقلات السياسية، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وحل مشاكل الشعب المعيشية، وتوفير الغذاء والكساء بأسعار معقولة، ومحاربة الاحتكار. (3)
وقد وقع على البيان عن الحزب الوطني الديمقراطي الأستاذ كامل الجادرجي، وعن الجبهة الشعبية السيد طه الهاشمي.
ثالثاً:السعيد يفاوض شركات النفط البريطانية والأمريكية
تأميم الدكتور مصدق للنفط الإيراني وتأثيره على العراق :
خاضت القوى السياسية الوطنية في إيران الانتخابات النيابية تحت ظل الجبهة الوطنية التي شكلتها تلك القوى بقيادة الوطني البارز الدكتور [محمد مصدق ] وتمكنت من تحقيق الفوز في تلك الانتخابات عام 1951، وأصبح الدكتور مصدق رئيساً للوزارة الإيرانية.
وضعت حكومة مصدق نصب أعينها معالجة الغبن الذي أصاب إيران من قبل شركات النفط التي يمتلكها الكارتيل العالمي، وسعت بكل جهدها رفع هذا الغبن.
لكن الشركات أصّرت على عدم تلبية المطالب الإيرانية، مما دفع بحكومة الجبهة الوطنية إلى إصدار تشريع بتأميم النفط الإيراني في 20 آذار 1951.
أحدثت خطوة الحكومة الإيرانية دوياً هائلاً أقضّ مضاجع الإمبرياليين، وبدأت أبواق دعاياتهم، ووسائل إعلامهم ترعد وتزبد، وتتوعد بالحكومة الإيرانية، وسارعت بريطانيا إلى إنزال قواتها العسكرية قرب [عبدان] بحجة حماية أرواح الفنيين والمهندسين البريطانيين العاملين في شركات النفط، والبالغ عددهم 3000 فرد.
لكن قرار تأميم النفط الإيراني قوبل في العراق بموجة عارمة من الفرح والتأييد لدى مختلف فئات الشعب، وظهرت الدعوات التي تنادي باقتفاء أثر الحكومة الإيرانية، وتأميم النفط العراقي، في الصحف الحزبية والوطنية المستقلة، والمجالس العامة، وفي البرلمان.
فقد تقدم عشرون نائبا في البرلمان بلائحة قانون لتأميم النفط العراقي في 25 آذار 1951، ونشرت الصحف نص الطلب في 27 آذار. (4)
كما تقدم محامو البصرة بمذكرة للحكومة بطلب تأميم النفط العراقي، وانهالت برقيات التأييد من كل جانب لهذا الطلب. حاولت الحكومة جاهدة تأخير تحديد موعد مناقشة الطلب في البرلمان بذرائع مختلفة حتى انتهت مدة دورته في 31 أيار، ولم تعين الحكومة موعداً لمناقشة اللائحة المقترحة، وطواها النسيان فيما بعد، بعد أن حذرت الحكومة البريطانية حكومة نوري السعيد من مغبة فسح المجال للمعارضة في البرلمان لطرح هذا الموضوع بالنظر لما يشكله من خطورة على مصالحها النفطية في العراق. ( 5)
في الوقت الذي كانت حملة المطالبة بتأميم النفط في أوج عنفوانها على الصعيد الشعبي، والمعارضة البرلمانية، كانت حكومة نوري السعيد تجري مفاوضات مع شركات النفط لإتمام المباحثات التي بدأتها معها الوزارة السويدية الثالثة، وشكل نوري السعيد وفداً لإكمال المباحثات مؤلفاً من نائب رئيس الوزراء [توفيق السويدي]، ووزير المالية [عبد الوهاب مرجان] ووزير الاقتصاد [عبد المجيد محمود].
وفي الوقت نفسه نشرت الصحف العراقية الصادرة في نيسان 1951 نص برقية التهديد الصادرة من لندن من مغبة أية محاولة من جانب البرلمان العراقي لتشريع قانون بتأميم النفط العراقي، وجاء في البرقية ما يأتي :
{ يعتقد المراقبون السياسيون أن المسؤولين هنا يدرسون فكرة اتخاذ إجراء بريطاني ـ أمريكي مشترك لوقف مطالب التأميم الجديدة في الشرق الأوسط ، وإن بريطانيا والولايات المتحدة قد اتفقتا على توجيه إنذار رسمي للحكومة العراقية تحذرها فيه من مغبة اتخاذ أية خطوة لتأميم النفط في العراق من قبل البرلمان العراقي }. (6)
وفي المقابل أعلنت شركات النفط عن قبولها مبدأ مناصفة الأرباح مع العراق ولو اسمياً، ووقع نوري السعيد اتفاقاً مع الشركات يقضي ببيع [مصفى الوند] في خانقين للحكومة،على أن تستمر شركة نفط خانقين البريطانية بأعمال التوزيع بالنيابة عن الحكومة حتى عام 1961.
كما جرى الاتفاق على إنشاء [مصفى الدورة] ببغداد،على أن تناط إدارة توزيع الإنتاج بشركات النفط حتى عام 1961، لكن شركات النفط غير مسؤولة عن تجهيز النفط الخام.
كما جرى الاتفاق على أن تنتج شركة النفط العراقية مالا يقل عن 22 مليون طن من النفط كحد أدنى، وتنتج شركة نفط البصرة 8 ملايين طن سنوياً.
وتعهدت شركات النفط بأن لا يقل دخل العراق عن 20 مليون دينار خلال سنتي 1953 و 1954، و25 مليون دينار عام 1955 والسنوات التي تليها، ولاشك أن هذه الموارد تبقى ضئيلة جداً بالنسبة لما تحققه الشركات من أرباح خيالية. (7)
وفي جلسة مجلس النواب السابعة بتاريخ 9 شباط 1952 تقدم نوري السعيد للمجلس بالاتفاقية التي وقعها مع شركات النفط، طالباً التصويت عليها بصورة مستعجلة وتصديقها، ولما كان لنوري السعيد الأغلبية في المجلس فقد جرت مناقشتها بصورة سريعة، وتم التصديق عليها في 14 شباط 1952 على الرغم من احتجاجات نواب المعارضة الذين قدموا استقالاتهم من المجلس في 27 شباط .
كما اصدر الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الجبهة الشعبية، بياناً مشتركاً يندد بالاتفاقية الجديدة التي أبقت على سيطرة شركات النفط على موارد البلاد ونهبها، وفضح البيان مبدأ مناصفة الأرباح، واصفاً إياه بأنه لا يعدُ أن يكون للتغطية، وهو بعيد كل البعد عن الحقيقية، وأكد البيان أن هذه الاتفاقية بدلاً من أن تزيل الغبن فقد زادته أكثر فأكثر، فقد حددت الاتفاقية أسعار النفط الذي تأخذ الحكومة العراقية حصتها على أساسه، أدنى من السعر العالمي، مما الحق بالخزينة خسائر فادحة، هذا بالإضافة إلى استلام العراق لحصته بالإسترليني، مما حرم العراق من الحصول على العملات النادرة الأخرى، وكان الإسترليني معرضاً باستمرار إلى الهبوط.
ففي 17 أيلول 1949 خفضت الحكومة البريطانية قيمة الجنيه الإسترليني من أربعة دولارات للجنيه الواحد إلى دولارين وثمانون سنتاً، وتبعاً لذلك هبطت قيمة الدينار العراقي بنفس المعدل، مما أوقع البلاد في اخطر أزمة نقدية واقتصادية، واضطرت حكومة نوري السعيد إلى إعلان حالة التقشف القاسية، لتدارك العجز الهائل في الميزانية. (8)
وقد دعا البيان إلى استلام حصة العراق المقررة 50% عيناً، أي [ نفط خام ] ليتصرف بها كما يشاء كإجراء حالي إلى أن يتم حل المشكلات مع الشركات جذريا ًبتأميم النفط الذي غدا مطلب الأمة. (9)
وقع البيان كل من السيد كامل الجادرجي، والسيد طه الهاشمي .
أما حزب صالح جبر فقد رفض مشاركة نوري السعيد بتحمل وزر هذه الاتفاقية الجائرة بحق العراق وثروته الوطنية، فأعلن نوابه في البرلمان انسحابهم من الجلسة، لكن المعتقد أن صالح جبر لم يكن جاداً في معارضته للاتفاقية، وإنما أراد أن يبيّض صورته السوداء أمام الشعب وهو لو كان جاداً في مواقفه لبقي النواب المنسحبون من الجلسة وصوتوا ضد الاتفاقية مع نواب المعارضة، فقد سهل انسحابهم من الجلسة على نوري السعيد تمرير الاتفاقية بصورة مستعجلة.
أدى تصديق الاتفاقية إلى الإضراب العام في البلاد تلبية لدعوة الأحزاب الثلاثة المعارضة، في 19 شباط 1952، من الساعة السادسة صباحاً وحتى الساعة الثانية عشرة ظهراً، احتجاجاً على توقيع الاتفاقية، وقد شمل الإضراب كافة قطاعات الشعب، فيما راحت الحكومة تهدد أبناء الشعب عبر بيانها الصادر يوم 18 شباط بإنزال اشد العقوبات بحق كل من يحاول التصدي للحكومة. (10)
ومع ذلك فقد قامت المظاهرات الشعبية، وجرى صدام عنيف مع قوات الشرطة التي تصدت للمتظاهرين، مما تسبب في وقوع العديد من الجرحى، وقامت السلطات باعتقال أعداد أخرى من المواطنين بينهم العديد من طلاب المدارس والكليات، وكتحدي للشعب، أمرت حكومة نوري السعيد بصرف مكافئة نقدية لأفراد الشرطة وضباطها الذين تصدوا للمظاهرات وأصيبوا فيها، وكان نصيب ضابط الشرطة 20 ديناراً والمفوض 10 دنانير والشرطي 5 دنانير.
رابعاً:السعيد يواصل حملة مكافحة الشيوعية والحركة الوطنية
تفننت حكومة نوري السعيد في إيجاد كل الوسائل والسبل لمكافحة الشيوعية في العراق، فأصدرت المراسيم الجائرة، وعدلت قانون العقوبات البغدادي لكي تستطيع اعتقال وسجن كل من يُشك في صلاته بأي نشاط شيوعي، وهكذا ملأ نوري السعيد السجون بخيرة الأساتذة والمفكرين، والمثقفين، وطلاب الكليات.
لكن تلك الإجراءات لم تكن كافية لنوري السعيد الذي وجد أن السجون قد تحولت إلى مدارس تثقيفية للسجناء العاديين لإصلاحهم، ووجد لدى السجناء السياسيين الإصرار على مواصلة النضال من أجل قضية الشعب والوطن، فتفتق ذهن السعيد عن إبعاد السجناء الشيوعيين إلى السجن الصحراوي النائي في [ نقرة السلمان ] الذي يبعد عن[ السماوة] 150 كم في قلب الصحراء، بعيدين عن أهلهم وذويهم وشعبهم، وحيث تستطيع الأجهزة القمعية للسلطة ممارسة كل أنواع التعذيب النفسي والجسدي ضدهم دون رقيب، ونتيجة لسوء أوضاع المسجونين الذين ضمهم سجن نقرة السلمان، والبالغ عددهم 162 سجيناً تقدم هؤلاء بمطالب للحكومة تضمنت ما يأتي: (11)
1ـ نقلهم إلى سجون قريبة من ذويهم .
2 ـ منحهم الحقوق المقررة للسجناء السياسيين .
3 ـ توفير المعالجة الطبية لهم .
4 ـ الكف عن توجيه الإهانات لهم، وإعادة النظر في الأحكام الصادرة بحقهم من قبل المجالس العرفية العسكرية.
لكن حكومة نوري السعيد رفضت تلك المطالب، مما دفعهم إلى إعلان الإضراب عن الطعام حتى تلبى مطالبهم، وتمكنوا من إيصال قرارهم بالإضراب إلى أهلهم وذويهم الذين قاموا بدورهم بالاتصال بالأحزاب السياسية والصحف لشرح مطالبهم، ومطالبة السلطة بتنفيذها.
وعلى الأثر شنت الصحف الوطنية حملة شعواء على الحكومة متهمة إياها بانتهاك حقوق الإنسان، وانتهاك الدستور الذي كفل حرية الرأي والعقيدة.
وقامت الأحزاب الوطنية بحملة واسعة للضغط على الحكومة، أصدرت البيانات المنددة بإجراءاتها المنافية للدستور، وحقوق الإنسان. (12)
كم قامت عائلات السجناء من النساء والأطفال بمظاهرة في بغداد يومي 25 و28 تموز مطالبين بإطلاق سراح أبنائهم، وإلغاء سجن نقرة السلمان.
لكن قوات الحكومة القمعية جابهتهم بعنف، وفرقت مظاهرتهم، مما دفع الصحف الوطنية إلى مهاجمة الحكومة والمطالبة برحيلها، واضطر نوري السعيد إلى إصدار بيان يحاول فيه تبرير نقل السجناء إلى سجن نقرة السلمان، ويعد بإعادة كل من يحترم قوانين السجون !!، وقام فيما بعد بنقل عدد من السجناء لامتصاص غضب الجماهير الشعبية. (13)
خامساً: نوري السعيد ولقضية الكردية:
بدأت المسألة الكردية تفرض نفسها عندما اندحرت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، واحتلت بريطانيا العراق، حيث حاولت تركيا أن تستميل الشيخ[محمود الحفيد] الذي كان يتمتع بسلطة دينية، ونفوذ كبير لدى غالبية الشعب الكردي، إلى جانبها، رغبة منها في إلحاق ولاية الموصل [والتي تشمل محافظات الموصل وأربيل وكركوك والسليمانية] بها .
إلا أن الشيخ الحفيد اتصل بالإنكليز بصورة سرية، وتعهد لهم بالسيطرة على الحامية التركية التي كانت ما تزال باقية في السليمانية، لقاء منحه امتيازات في إدارة الشؤون الكردية، وتشكيل حكومة كردية برئاسته، على أن تكون تحت ظل الانتداب البريطاني.
رحبت السلطات البريطانية بعرض الشيخ الحفيد، نظراً لما يتمتع به من مركز مرموق في صفوف الأكراد، وقامت بإرسال مندوبين عنها من كبار الضباط لإجراء مفاوضات معه في 6 تشرين الثاني 1918، لتسهيل دخول القوات البريطانية إلى السليمانية، وقد استقبلهم الشيخ محمود الحفيد بحفاوة، وسلمهم الحامية التركية، التي سيطرت عليها قواته، وسارعت السلطات البريطانية إلى تعيينه حاكماً على لواء السليمانية، ومنحته راتباً شهرياً قدره [ 15ألف روبية ]،كما عينت الميجر [نوئيل] مستشاراً له، وشكلت نواتاً لحكومة كردية في منطقة كردستان العراق، والتي أشارت إليها [معاهدة سيفر] في موادها الثانية والستين والثالثة والستين والرابعة والستين. (14)
لكن علاقة الشيخ الحفيد بالبريطانيين أصابها بعض الفتور عندما حاول المحتلون البريطانيون تقليص نفوذه وإضعافه، مما دفع الشيخ الحفيد في نهاية الأمر إلى إعلان الثورة على الحكم البريطاني، وقام باحتلال السليمانية في 21 أيار 1919 بعد أن دحر القوات البريطانية، وقوات الليفي التي شكلها البريطانيون للحفاظ على مصالحهم في المنطقة، وتمكن من أسر عدد كبير منهم، ومن الضباط الإنكليز، وأعلن تشكيل دولة كردية، وأعلن نفسه ملكا عليها، واتخذ له علماً خاصاً بدولته.
أخذ الشيخ محمود الحفيد يوسع مناطق نفوذه في كردستان، بعد أن استطاع دفع القوات البريطانية نحو[ مضيق طاسلوجة] و[مضيق دربن] واستطاع الاستيلاء على كميات كبيرة من الأسلحة من القوات البريطانية وقوات الليفي الآشورية التابعة لهم.
واستمر الشيخ الحفيد يوسع مملكته وضم إليها مناطق[رانية] و[ حلبجة] و [كويسنجق] متحدياً السلطات البريطانية. لكن البريطانيون جهزوا له قوة عسكرية كبيرة، ضمت الفرقة الثامنة عشر بقيادة الجنرال[فريز] لقمع حركته، واستطاعت هذه القوات بما تملكه من أسلحة وطائرات حربية أن تدحر قوات الشيخ محمود وتعتقله، بعد أن أصابته بجروح في المعارك التي دارت بين الطرفين، وأرسلته مخفوراً إلى بغداد، حيث أحيل للمحاكمة، وحكم عليه بالإعدام .
غير أن السلطات البريطانية أبدلت الحكم إلى السجن المؤبد، ثم قرت نفيه إلى الهند خوفاً من وقوع تطورات خطيرة في كردستان، حيث يتمتع بمكانة كبيرة في صفوف الأكراد، وبقي الشيخ محمود منفياً حتى عام 1922،عندما أعاده البريطانيون إلى السليمانية، وسلموه زمام الأمور فيها من جديد.
لكنه ما لبث أن ثار على الإنكليز مرة أخرى، مما دفع الإنكليز، والحكومة العراقية إلى تجريد حملة جديدة ضده، حيث استطاعت احتلال السليمانية من جديد.
لكن الشيخ محمود لم يستكن للأمر، وأخذ يستجمع قواه وينظمها، واستطاع مهاجمة الجيش المتواجد في مدينة السليمانية وطرده منها في 11 تموز 1923، وبقي الشيخ محمود يحكم السليمانية مدة تزيد على العام . (15)
ولما تولى[ ياسين الهاشمي] رئاسة الوزارة العراقية كان في مقدمة مهام وزارته إعادة السليمانية للسلطة العراقية، فجهز حملة عسكرية بدعم من البريطانيين، وبشكل خاص قواتهم الجوية التي هاجمت قوات الشيخ الحفيد واستطاعت دحرها، وإيقاع خسائر جسيمة في صفوفها، وتم إعادة لواء السليمانية إلى سيطرة الحكومة العراقية، وهرب الشيخ محمود الحفيد إلى خارج العراق، وقامت الحكومة بتعيين متصرف[محافظ] للسليمانية من الأكراد. رأت بريطانيا أن إقامة دولة كردية في كردستان قد يسبب لها مشاكل خطيرة، وبما أنها قد ضمنت مصالحها في العراق بموجب معاهدة عام 1920العراقية البريطانية، فقد قررت صرف النظر نهائياً عن إقامة دولة كردية، وضم كردستان للمملكة العراقية نهائيا.
أما الحكومة العراقية فقد أعلنت من جانبها بأنها سوف لا تعيين موظفاً عربياً في منطقة كردستان، ما عدا الفنيين، وأن السكان الأكراد لهم الحق بالتكلم بلغتهم الخاصة، وأن الحكومة سوف تحافظ على حقوق السكان الدينية والمدنية، كما جرى انتخاب خمسة أعضاء من الأكراد، وضمتهم إلى المجلس التأسيسي.
وفي شباط 1925،عندما جاءت اللجنة المكلفة من عصبة الأمم لبحث قضية ولاية الموصل وأجرت دراستها للأوضاع في الولاية، وقدمت تقريرها إلى عصبة الأمم، تبنت اللجنة وجهة النظر البريطانية القاضية بضم ولاية الموصل إلى المملكة العراقية، مع مراعاة حقوق الأكراد فيما يخص اللغة الكردية، وتعين الموظفين الإداريين الأكراد.
وفي تشرين الأول 1926 أجتمع مستشار وزارة الداخلية بالشيخ محمود الحفيد وتباحث معه في الأمور التي تخص كردستان، وجرى الاتفاق على شروط الصلح مع الحكومة، حيث وقع الشيخ الحفيد اتفاقاً مع الحكومة العراقية في حزيران 1927، تعهد بموجبه أن يعيش هو وأفراد عائلته خارج العراق، مع إعادة كافة أملاكه له، وتعين وكيل من قبله لإدارة شؤون أملاكه.
وهكذا استمرت الأوضاع هادئة في كردستان حتى عام 1930، حينما وقّعت حكومة نوري السعيد معاهدة 30 حزيران 1930، فقد شعر الشيخ الحفيد أن بريطانيا قد تنكرت لحقوق الشعب الكردي، واستغل الشيخ الحفيد قيام الأكراد في السليمانية بحركة احتجاجات واسعة، ومظاهرات ضد المعاهدة، وضد حكومة نوري السعيد، ليجمع المسلحين من أتباعه داخل العراق، ويحتل منطقة [ شهر بازار ]، ثم بعث بمذكرة إلى المندوب السامي البريطاني يطالبه بإنشاء دولة كردية في منطقة كردستان تمتد من زاخو وحتى خانقين.
أنذرت الحكومة العراقية الشيخ الحفيد بوجوب مغادرة العراق، وسحب عناصره المسلحة، لكن الشيخ الحفيد تجاهل الإنذار، ومضى في توسيع منطقة سيطرته، مما دفع الحكومة إلى تجريد حملة عسكرية كبيرة ضمت رتلين عسكريين، توجه الرتل الأول نحو[جوارته] فيما توجه الرتل الثاني نحو[بنجوين]، كما شاركت الطائرات البريطانية في التصدي لحركة الشيخ الحفيد حيث دارت بين الطرفين معارك دامية استمرت زهاء ستة أشهر تكبد خلالها الطرفان خسائر كبيرة، لكن قوات الحكومة استطاعت في النهاية فرض سيطرتها على مناطق كردستان، وهرب الشيخ محمود الحفيد لفترة من الزمن، ثم اضطر في نهاية الأمر إلى تسليم نفسه للجيش في 13 أيار 1931، وتم نقله إلى مدينة السماوة ثم نقل إلى مدينة الناصرية، وأخيراً تم نقله إلى قصبة عانه، ثم سمحت له الحكومة بالإقامة في بغداد، وقررت مصادرة كافة أملاكه في السليمانية.
سادساً:الثورة البارزانية بقيادة الشيخ أحمد:
حاولت الحكومة تثبيت نفوذها في منطقة كردستان لمنع أية محاولة من جانب بعض الزعماء الأكراد للتمرد على سلطة الحكومة، وكان من جملة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة قرارها بإقامة مخافر في منطقة [بازيان ] المحصورة بين [الزيبار] و[عقرة] و[الزاب الأعلى] التي تتوسطها قرية [بارزان ] حيث مقر سكن الشيخ احمد البارزاني،عميد الأسرة البارزانية المعروفة، والذي يتمتع بمركز ديني ودنيوي كبير في صفوف الأكراد .
رفض الشيخ احمد إقامة تلك المخافر، واعتبرت الحكومة أن موقفه هذا يشكل تحدياً لسلطتها، واتخذت قراراً بإقامة المخافر بالقوة، حيث أرسلت قوات عسكرية إلى المنطقة لفرض إقامتها بالقوة، مما تسبب في وقوع مصادمات عنيفة بين أتباع الشيخ احمد وقوات الحكومة في 9 كانون الأول 1930، وقد قتل ما يزيد على 50 فرداً من قوات الحكومة، وأصيب الكثير منهم بجراح، واستطاع أتباع البارزاني طرد بقية القوات التي أرسلتها الحكومة إلى المنطقة، وأخذ البارزاني يوسع نفوذه في المنطقة.
وإزاء ذلك الوضع قررت الحكومة تجريد حملة عسكرية كبيرة لإخضاع الشيخ احمد البارزاني، في شهر نيسان 1932، مستعينة بالقوة الجوية البريطانية التي شرعت طائراتها بقصف المنطقة، ومطاردة البارزانيين في 25 أيار 1931. كان القصف الجوي من الشدة بحيث دفع المقاتلين البارزانيين إلى الالتجاء إلى الجبال حيث المخابئ الآمنة، وبدأت قوات الحكومة حملتها ضدهم في 22 حزيران 1931، مما اجبر الشيخ أحمد بعد أن تشتت قواته على الفرار إلى تركيا، حيث سلم نفسه للسلطات التركية التي نقلته إلى منطقة [ أدرنة ] على الحدود البلغارية، لكنها ما لبثت أن إعادته إلى منطقة الحدود العراقية.
ولما بلغ الخبر إلى الحكومة العراقية تقدمت بطلب إلى الحكومة التركية لتسليمه، إلا أن الحكومة التركية رفضت الطلب مشترطة إصدار عفو عام عنه، وعن أتباعه، واضطرت الحكومة العراقية إلى إصدار العفو عنهم، وعليه فقد عاد الشيخ احمد وأتباعه إلى العراق، حيث أسكنتهم الحكومة في الموصل، ثم جرى نقلهم بعد ذلك إلى الناصرية فالحلة، فالديوانية، ثم استقر بهم المطاف في مدينة السليمانية.
سابعا:الثورة الكردية بزعامة السيد مصطفى البارزاني:
على الرغم من أن الحكومة كانت قد قضت على حركة الشيخ أحمد البارزاني إلا أن هجمات الجماعات الكردية المسلحة استمرت دون انقطاع، حيث كانت تغير على المنطقة بين الحين والأخر. حاولت الحكومة إنشاء مخفر للشرطة في قرية [بله] مقر البارزانيين، لكن مصطفى البارزاني رفض ذلك، وهدد بقتل كل من يحاول القيام بذلك.
وبالفعل جرى قتل القائمقام والمهندس اللذين حاولا البدء بإنشاء المخفر، وعلى الفور أقدمت الحكومة على إعلان الأحكام العرفية في المنطقة التي شملت نواحي [ ميزوري بالا] و[بازيان] و[ ميركه سور] و[كاني رش] وسيرت قوة عسكرية ضد البارزانيين، وتعاونت الحكومة التركية مع الحكومة العراقية، حيث قامت بإغلاق حدودها أمام البارزانيين وحشدت قواتها على الحدود، واستطاعت قوات الحكومة القضاء على ثورة البارزاني في 30 تشرين الأول 1935. (16)
لم تهدأ الحركة الكردية رغم ما أصابها على يد الجيش العراقي، وازداد إصرار أبناء الشعب الكردي على نيل حقوقهم القومية، ومطالبتهم بتخصيص نسبة عادلة من موارد الدولة لتنمية المنطقة الكردية، والنهوض بها من حالة التخلف، والعمل على حل المشاكل المعيشية التي يعانون منها، فتقدم مصطفى البارزاني بمطالب تضمنت ما يلي:
1 ـ تعيين موظفين إداريين أكراد في منطقة كردستان.
2 ـ تعين مساعد كردي لكل وزارة.
3 ـ اعتبار اللغة الكردية اللغة الرسمية في المنطقة الكردية.
4 ـ إطلاق سراح المعتقلين والمسجونين الأكراد الذين تم اعتقالهم بسبب القضية الكردية. (17)
لكن الحكومة تجاهلت تلك المطالب ولجأت على الضد من ذلك إلى تصعيد مواقفها تجاه الحركة الكردية وقيادتها، وطالبت بتسليم كافة الأسلحة التي بحوزتها، وتسليم عدد من المطلوبين الأكراد.
كان مجلس الوزراء قد قرر في 25 كانون الثاني 1944 إبعاد مصطفى البارزاني من منطقة بارزان، وأجبرته على الإقامة في بيران.
فلما وجد أن الحكومة لا تنوي الاستجابة للمطالب التي بعث بها إليها ترك منطقة إقامته المحددة تلك، وبدأ يجري اتصالاته مع العديد من رؤساء العشائر الكردية، وحثهم على التعاون والتآزر، للوقوف بوجه الحكومة ومشاريعها الهادفة إلى إخضاع الشعب الكردي.
فقد زار البارزاني منطقة [ براد وست] و[ بالك] و[ به دنان]، وتنقل في[العمادية] و[عقرة] و[الشيخان] حاثاً الشعب الكردي على الوقوف صفاً واحداً للضغط على الحكومة من اجل تنفيذ مطالبهم القومية المشروعة. (18)
كما نشطت المنظمات السياسية الكردية، وعلى رأسها منظمة[هيوا ]،أي الأمل،التي بادرت بالاتصال بعدد من الضباط الأكراد العاملين في الجيش والمتقاعدين داعية إياهم إلى الانضمام إلى الحركة الكردية، وقد لبى نداءهم كل من الضباط [عزيز عبد الشمزيني ]،والرئيس[ مير حاج أحمد] والمقدم[أمين الراوندوزي] والرئيس [مصطفى خوشناو] والملازم الأول [خير الله عبد الكريم] والملازم [ محمد القدسي ].
وهكذا توسعت الحركة الكردية لتشمل جانبا كبيراً من العسكريين الأكراد، ولما وجد السفير البريطاني أن الأمور قد تطورت إلى درجة خطيرة، أرسل معاونه لمقابلة البارزاني محذراً إياه من الإقدام على أي تحرك ضد الحكومة وأبلغه أن القوات العراقية والبريطانية سوف تجريان مناورات عسكرية في كردستان، محذراً إياه من التصدي لهذه القوات، ونصحه بوجوب إطاعة الحكومة، وتنفيذ أوامرها، وطالبه بعودة الضباط الذين التحقوا بالحركة إلى وحداتهم العسكرية.
وقد رد البارزاني بأنه لن يبدأ بإطلاق النار على قوات الحكومة إذا فعلت الشيء نفسه، أما مسألة عودة الضباط فتتطلب اتخاذ إجراءات من قبل وزارة الدفاع لضمان سلامتهم.
وفي الفترة ما بين 5 ـ 14 آذار بدأ الفوج الرابع من الجيش العراقي بمهمة استطلاعية مما أثار الشكوك لدى القيادة الكردية، وجاء مقتل أحد أخوال البارزاني [أولوبيك ]على أيدي قوات الشرطة التي حاولت نزع السلاح من مرافقيه فكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث اندفع البارزانيون نحو مخفر الشرطة واستولوا عليه، وقتل مأمور المخفر، وقد ترك البارزاني مقر سكنه عائداً إلى بارزان، معقله الحصين، وعمل على تعبئة قواته استعداداً لملاقاة الجيش العراقي الذي كان قد تم تحشيده ما بين قضاء [ عقرة ] جنوباً و[بافستيان ] شرقاً، فيما تجمعت الشرطة في منطقة [ ريكان ]، وقامت الطائرات البريطانية بقصف القرى والقصبات الكردية بوابل من قنابلها. (19)
وفي الوقت نفسه توجه البارزاني إلى عقرة مستحثاً العشائر الكردية على الانضمام للحركة الكردية، واستطاع استمالة عدد كبير منها، وبدأ الطرفان يستعدان ليوم النزال ، فقد اتخذ مجلس الوزراء في 8 آب 1945 قراراً باحتلال المنطقة الكردية عسكرياً، وخول وزير الدفاع اتخاذ كل ما يلزم لتنفيذ هذه المهمة.
بدأت القوات العراقية بالتعاون مع القوات البريطانية بالزحف على معاقل الحركة الكردية، حيث احتلت منطقة [ نهلة ] بين جبل عقرة وجبل بيرس بعد معارك عنيفة مع القوات الكردية التي كان البارزاني يقودها بنفسه، ووقعت إصابات كبيرة في صفوف الطرفين. ثم تقدمت قوات الحكومة نحو منطقة شرق العمادية، وواصلت تقدمها نحو منطقة [نيروه ريكان] ثم استطاعت فيما بعد من دخول منطقة [بارزان ] معقل البارزاني، واستطاعت تلك القوات السيطرة على منطقة [سيدكان] و [براد وست] كما تقدمت قوات أخرى على محور [بافستيان] واستطاعت أن تطوق قوات البارزاني وتحتل جبل[ بيرس ].
وفي 3 تشرين الأول 1945 عبرت القوات العراقية نهر الزاب،واحتلت مركز قضاء الزيبار[ بله]، وانسحبت القوات الكردية إلى جبل[ شيرين].
كما تقدمت قوة عسكرية أخرى في منطقة[ ديزي ] واحتلت قرية [أركوش ]، وواصلت تقدمها على طريق [خليفان ـ ريزان ] واحتلت جسر [ خلان] وقرية [جعفريان ] .
وفي 6 تشرين الأول 1945 احتلت قوات الحكومة كامل منطقة بارزان ثم واصلت تقدمها نحو [ميركه سور] واحتلتها، كما استولت على [كلي بالندا] واستمرت قوات الحكومة في تقدمها فاستولت على [ شروان مازن ] و [جامة] و[كاني وطن] واضطرت القوات الكردية إلى التراجع نحو الحدود الإيرانية، حيث لم يكن هناك تكافؤ بين الطرفين من حيث التسليح والطائرات، والدعم البريطاني المكشوف، واضطر مصطفى البارزاني وشقيقه الشيخ احمد البارزاني للهرب إلى إيران، وبذلك انهارت الحركة الكردية، وتمكن الجيش من السيطرة على كامل منطقة كردستان. (20)
وبدأت الحكومة بإحالة المشاركين في الحركة إلى المحاكم العرفية العسكرية، حيث حُكم على مصطفى البارزاني وشقيقه الشيخ أحمد مع 35 فردا ً آخرين من بينهم 7 ضباط، بالإعدام، وحُكم على 70 آخرين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وقد تم القبض على الضباط [مصطفى خوشناو] و[عزت عزيز] و[خير الله عبد الكريم] و[محمد القدسي] ، وتم تنفيذ حكم الإعدام بهم . (21)
وقد اعتبرتهم قيادة ثورة الرابع عشر من تموز 1958 شهداء الوطن وتقرر منح عوائلهم تعويضاً ورواتب تقاعدية.
وهكذا انتهت الثورة الكردية، وتمكن مصطفى البارزاني وجماعته من الوصول إلى الاتحاد السوفيتي بصعوبة بالغة، وبقي هناك حتى قيام ثورة الرابع عشر من تموز، حيث سمح الزعيم عبد الكريم قاسم بعودتهم، وجرى لهم استقبالاً حافلاً رسمياً وشعبياً، وتم إسكان السيد البارزاني في قصر غريمه نوري السعيد، وتم منحه راتب وزير، كما تم منح رفاقه رواتب شهرية ، وتم إسكانهم على نفقة الدولة.
حامد الحمداني
10 / 9 /2008