نوري السعيد رجل المهمات البريطانية الكبرى/ الحلقة السادسة
أولاً: انقلاب بكر صدقي والأحداث التي رافقته:نبذة عن حياة بكر صدقي:
ولد بكر صدقي عام 1866، ودرس في الأستانة في المدرسة الحربية وتخرج منها ضابطا في الجيش العثماني، انضم إلى الجيش العراقي الذي أسسه المحتلون في 6 كانون الثاني 1921 برتبة ملازم أول.
رغم كون بكر صدقي من أبوين كرديين فقد كانت له ميول قومية عربية، ولذلك فقد تلقفه أنصار القومية العربية من الطبقة العراقية الحاكمة، وتدرج في رتبته العسكرية حتى وصل إلى رتبة فريق ركن في عهد الملك غازي، واشتهر بالقسوة والعنف عندما قاد الجيش العراقي ضد ثورة الآشوريين عام 1933،على عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني، ثم ضد الحركة البار زانية، وضد ثورة العشائر في منطقة الفرات الأوسط عام 1935، وتوطدت العلاقة بينه وبين وزير الداخلية آنذاك السيد حكمت سليمان الذي أحبه كثيراً.
اشتد الصراع بين وزارة [يسين الهاشمي] الثانية والمعارضة التي عملت جاهدة لإسقاط الوزارة التي سعت للتمسك بالحكم بكل الوسائل والسبل، وفي تلك الأيام كان بكر صدقي الذي شغل منصب قائد الفرقة العسكرية الثانية يتردد باستمرار على دار قطب المعارضة المعروف [حكمت سليمان ]، وكان الحديث يدور حول استئثار وزارة الهاشمي بالحكم رغم افتقادها للتأييد الشعبي، واختمرت لدى بكر صدقي فكرة إسقاط وزارة الهاشمي بالقوة عن طريق القيام بانقلاب عسكري بالتعاون مع الفريق [عبد اللطيف نوري ] قائد الفرقة الأولى الذي كانت تربطه معه علاقات وثيقة. (1)
واستطاع الاثنان أن يضما إلى صفهما قائد القوة الجوية العقيد [محمد على جواد]، وسارت الأمور بتكتم شديد، مما تعذر على الاستخبارات العسكرية كشف الحركة قبل وقوعها، وعندما جاء موعد مناورات الخريف للجيش عام 1936 وجد بكر صدقي ضالته المنشودة بهذه الفرصة، فقد كانت خطة المناورات تقتضي إجراءها فوق [جبال حمرين]، في المنطقة الواقعة بين خانقين وبغداد، وكان المفروض أن تكون الفرقة الأولى بقيادة الفريق عبد اللطيف نوري في موضع الدفاع عن بغداد، فيما تكون الفرقة الثانية بقيادة بكر صدقي في موقع الهجوم .
وفي 29 تموز 1936 سافر رئيس أركان الجيش الفريق [يسين الهاشمي] شقيق رئيس الوزراء، في مهمة إلى خارج العراق، وأناب عنه الفريق عبد اللطيف نوري، مما سهل على الانقلابيين الأمر كثيراً.
كان موعد المناورات قد حُدد يوم 3 تشرين الأول 1936 ولغاية 10 منه، ولذلك فقد قرر بكر صدقي تنفيذ الانقلاب خلال هذه المناورات.
وفي يوم الثلاثاء المصادف 27 تشرين الأول جرى لقاء قبل التحرك بين بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، واتفقا على موعد تنفيذ الانقلاب وتفاصيل الخطة، وجرى الاتفاق على تسمية حركتهم [ القوة الوطنية الإصلاحية]،وطلبا من السيد [كامل الجادرجي ] إعداد مذكرة إلى الملك غازي يطلبان فيها إقالة حكومة [يسين الهاشمي] وتكليف السيد [حكمت سليمان] بتأليف الوزارة. كما تم إعداد بيان الانقلاب، وجرى إعداد عدد من الطائرات بقيادة العقيد [ محمد علي جواد ]، وبذلك أصبح كل شيء جاهزاً لتنفيذ الانقلاب. (2)
ففي ليلة الخميس المصادف 27 تشرين الأول 1936 زحفت قوات الجيش إلى بعقوبة، حيث وصلتها صباح اليوم التالي ، وقامت بقطع خطوط الاتصال ببغداد، واستولت على دوائر البريد والتلفون، وعدد من المواقع الإستراتيجية في المدينة، ثم واصلت القوات زحفها نحو بغداد في الساعة السابعة والنصف صباحاً بقيادة بكر صدقي.
وفي الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، ظهرت في سماء بغداد 3 طائرات حربية، وكان يقودها العقيد محمد علي جواد واثنين من رفاقه الضباط، وألقت ألوف المنشورات التي احتوت على البيان الأول للانقلاب، والذي دعا الملك غازي إلى إقالة حكومة [ يسين الهاشمي] وتكليف السيد [حكمت سليمان] بتشكيل وزارة جديدة.
وفي الوقت الذي كانت الطائرات تلقي بيان الانقلاب، استقل السيد حكمت سليمان سيارته إلى قصر الزهور حاملاً إلى الملك غازي المذكرة التي وقعها الفريقان بكر صدقي وعبد اللطيف نوري، والتي حددا فيها مهلة أمدها 3 ساعات للملك لإقالة وزارة ياسين الهاشمي حيث سلمها إلى رئيس الديوان الملكي السيد[ رستم حيدر]. (4)
وما أن بلغ نبأ الانقلاب[ يسين الهاشمي] حتى بادر إلى الاتصال ببكر صدقي الذي أبلغه خلال محادثته بالتلفون أن الملك غازي على علم بالانقلاب، ولم يكد يسين الهاشمي ينهي المكالمة التلفونية مع بكر صدقي حتى سارع للتوجه إلى قصر الزهور لمقابلة الملك، وتدارس الأمر معه.
سلم [ رستم حيدر] المذكرة إلى الملك غازي، وكان يبدو على وجهه الذهول والاضطراب، وعلى الفور طلب الملك استدعاء كل من [يسين الهاشمي] و[جعفر العسكري] وزير الدفاع، و[نوري السعيد] وزير الخارجية، والسفير البريطاني لتدارس الوضع.
وتحدث السفير البريطاني مخاطباً الملك غازي، وسأله إن كان على علم مسبق بالانقلاب، لكن الملك نفى ذلك.
وتحدث يسين الهاشمي موجهاً سؤاله للملك فيما إذا كان لا يزال يثق بالوزارة، فأن الوزارة مستعدة لمجابهة الانقلابيين، وإلا فأنه سيقدم استقالة حكومته. (5)
أما نوري السعيد فقد دعا السفير البريطاني إلى التدخل العاجل لقمع الانقلاب، لكن السفير البريطاني أبلغه أن بريطانيا لا تود التدخل في الأمور الداخلية، وفي حقيقة الأمر أن بريطانيا كانت تريد التخلص من وزارة الهاشمي من جهة، وخوفها من حدوث مالا يحمد عقباه إذا ما حدث التدخل وفشل في قمع الانقلاب.(6)
مضت الساعات الثلاث التي حددها الانقلابيون مهلة لاستقالة الوزارة وتشكيل وزارة جديدة برئاسة حكمت سليمان، ولما لم يتم ذلك بادرت الطائرات في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح ذلك اليوم بإلقاء القنابل على مقر مجلس الوزراء، ووزارة الداخلية، ودائرة البريد القريبة من مسكن يسين الهاشمي، ودار البرلمان واضطرت الحكومة إلى تقديم استقالتها للملك في 29 تشرين الأول 1936،وتم قبول الاستقالة، وسارع الملك غازي إلى الطلب من السيد حكمت سليمان بتأليف الوزارة الجديدة بناء على طلب الانقلابيين، لكن حكمت سليمان طلب من الملك أن يوجه إليه تكليفاً خطياً لكي يشكل الوزارة. (7)
وفي الوقت الذي قدمت الحكومة استقالتها إلى الملك فأنها عملت على إفشال الانقلاب. فقد بعث [جعفر العسكري] إلى عدد من قادة الجيش داعياً إياهم للتحرك لحماية بغداد إلا أن تلك الرسائل لم تستطيع أن تفعل شيئا.
ثانيا: مقتل جعفر العسكري، وهروب نوري السعيد:
حاول جعفر العسكري وقف زحف قوات الانقلابيين نحو بغداد، فاتصل ببكر صدقي، وأبلغه أنه آتٍ لمقابلته، وأنه يحمل رسالة من الملك. كانت فرصة بكر صدقي قد حلت للتخلص من جعفر العسكري، صهر نوري السعيد، والرجل القوي في الوزارة، فرتب الأمر مع عدد من ضباطه لقتله. ولما وصل خبر مقتله إلى نوري السعيد سارع إلى اللجوء للسفارةالبريطانية التي استطاعت تهريبه إلى خارج العراق. (7)
استمرت قوات الانقلابيين بالزحف نحو بغداد، حيث وصلت أبوابها في الساعة الرابعة بعد الظهر فلم يجد الملك بُداً من توجيه خطاب التكليف إلى السيد[ حكمت سليمان ] في 29 تشرين الأول. وعند الساعة الخامسة والنصف كانت القوات قد دخلت شوارع بغداد، دون أن تلقى أي مقاومة، وكان [حكمت سليمان] قد عقد قبل يومين اجتماعا في دار السيد[ كامل الجادرجي ] ضم السادة [جعفر أبو التمن] و[ محمد حديد ] لوضع قائمة بأسماء أعضاء الوزارة في حالة نجاح الانقلاب، وقد طرح في الاجتماع اقتراح حول اختيار [نوري السعيد ] في منصب وزاري لتطمين الإنكليز، لكن الاقتراح لم يلقَ القبول، فقد عارضه السيدان جعفر أبو التمن، وكامل الجادرجي، واقترح بدلا منه السيد [صالح جبر] .
أتم الانقلابيون تشكيل وزارتهم، وصدرت الإرادة الملكية بتشكيلها في الساعة السادسة مساءا،ً وجاءت على الوجه التالي :
1 ـ حكمت سليمان ـ رئيساً للوزراء، ووزيراً للداخلية.
2 ـ جعفر أبو التمن ـ وزيراً للمالية .
3 ـ صالح جبر ـ وزيراً للعدلية .
4 ـ ناجي الأصيل ـ وزيراً للخارجية .
5 ـ كامل الجادرجي ـ وزيراً للاقتصاد والمواصلات .
7 ـ يوسف إبراهيم ـ وزيراً للمعارف .
أما بكر صدقي فقد تولى منصب رئيس أركان الجيش بدلاً من طه الهاشمي الذي أحيل على التقاعد.
أما يسين الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني، ونوري السعيد فقد غادروا العراق على الفور، وبمساعدة السفارة البريطانية، خوفاً من بطش بكر صدقي.
أسرع السفير البريطاني إلى لقاء[ الملك غازي] و[حكمت سليمان] ليقف على ما تنوي الوزارة عمله، وقد طمأنه حكمت سليمان بأن الوزارة تحترم تعهدات العراق، وتسعى للنهوض بالبلاد، في كافة المجالات، كما لقي السفير من الملك كل ما يطمئن الحكومة البريطانية.
أراد بكر صدقي أن يرسل من يقوم بتصفية[ يسين الهاشمي] و[نوري السعيد] و[رشيد عالي الكيلاني]،إلا أن حكمت سليمان رفض الفكرة.
كان من أولى المهام بالنسبة للوزارة الجديدة تثبيت سلطتها، حيث لجأت إلى إجراء تغيرات واسعة في أجهزة السلطة الإدارية، والدبلوماسية، وإبعاد كافة العناصر المؤيدة للوزارة السابقة.
وفي الوقت نفسه نظمت العناصر الوطنية المظاهرات المؤيدة للحكومة، وتقدمت المظاهرات بمطالب للحكومة تدعو فيها إلى إصدار العفو العام عن المسجونين السياسيين، وإطلاق حرية الصحافة، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وإزالة آثار الماضي، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب، وضمان حقوقه وحرياته، وتقوية الجيش ليكون حارساً أميناً لاستقلال البلاد. ولم تقتصر المظاهرات على بغداد فقط بل امتدت إلى سائر المدن العراقية.
و بعد أن ثبتت الحكومة أقدامها، وبسطت سلطتها على كافة أنحاء البلاد أقدمت على حل المجلس النيابي الذي جرى انتخابه على عهد الحكومة السابقة، واستصدرت الإرادة الملكية بحله في 31 تشرين الأول 1936 تمهيداً لإجراء انتخابات جديدة.
وفي الوقت نفسه تقدمت الحكومة بمنهاجها الوزاري الذي أكد على تعزيز العلاقات بين العراق وجيرانه، ومع بريطانيا، لما فيه مصلحة الأطراف جميعاً، وتطهير جهاز الدولة من العناصر الفاسدة والمرتشية، وتحسين أدائه، والعمل على رفع مستوى معيشة الشعب، وتحسين أحواله الصحية والثقافية، وتوسيع الخدمات العامة، وتنظيم السجون، وجعلها أداة إصلاح للمسجونين، والعمل على تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية، وتلافي العجز في الميزانية، وتطوير الزراعة والصناعة في البلاد، وإصلاح الجهاز القضائي، وإعادة النظر في القوانين والمراسيم التي أصدرتها الوزارات السابقة.
كما أكد المنهاج على تقوية الجيش، وتدريبه وتسليحه، ليكون سياجاً حقيقياً للوطن، وإصلاح جهاز التعليم، وتوسيع معاهد المعلمين، وفتح المزيد من المدارس، وإلغاء أجور الدراسة المتوسطة والثانوية وجعلها مجانية، وبناء المزيد من المدارس.
وفي واقع الأمر كان لدى الوزارة الجديدة خططاً طموحة لتغير وجه العراق، فقد أطلقت سراح المسجونين الذين أدانتهم المجالس العرفية، وأعادت كافة الأموال المصادرة منهم، كما أعادت كافة الصحف التي أغلقتها الوزارات السابقة، وسمحت بدخول الكثير من الكتب التقدمية التي كانت ممنوعة في العهود السابقة، وإعادة الموظفين المفصولين لأسباب سياسية إلى وظائفهم، وأصدرت الحكومة قانون العفو العام .
لكن بكر صدقي بعد أن أحكم سيطرته على مقدرات البلاد استهوته شهوة الحكم، وأراد أن يحكم من وراء الستار، متجاوزاً حلفائه الإصلاحيين [حزب الإصلاح الشعبي ] الذين يمثلون الأغلبية في الوزارة، وكان باكورة خطواته الطريقة التي جرى فيها انتخاب مجلس النواب.
فقد عقد بكر صدقي مع فريقاً من ضباطه، وعدد من القوميين اجتماعاً في داره لوضع الترتيبات للانتخابات، وإعداد قوائم المرشحين، مستبعداً رفاقه الإصلاحيين، وجاءت قوائم المرشحين في معظمها من المؤيدين لبكر صدقي شخصياً، فيما كانت حصة الإصلاحيين أقل بكثير، وقد جرت الانتخابات في 20 شباط 1937، وجاءت النتيجة كما خطط لها بكر صدقي سلفاً.
كان منهاج حزب الإصلاح الشعبي يرمي إلى إجراء تغيرات شاملة في حياة الشعب العراقي مستهدفاً إجراء إصلاح حقيقي سياسي واجتماعي، واقتصادي شامل في البلاد، وإعادة توزيع الثروة بصورة عادلة.
وتفتيت الملكيات الزراعية الكبيرة، وتوزيع الأراضي على الفلاحين المعدمين، التقليل من الفروق الطبقية بين أبناء الشعب، وإطلاق كافة الحريات الديمقراطية، كحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة وضمان حقوق الشعب، وحرياته العامة.
وقد لقي منهاج الحزب هذا دعما كبيراً من الحزب الشيوعي، ومن عدد كبير من صغار الضباط، ولعب الحزب الشيوعي دوراً بارزاً في تحريك الجماهير للمطالبة بحقوقهم وحرياتهم العامة.
لكن بكر صدقي أراد أن يجعل من نفسه [ أتاتورك العراق ]، ويحكم البلاد على هواه، وقد ظهر فيما بعد أن تقرب بكر صدقي من الإصلاحيين وضمهم إلى الوزارة كان يهدف من ورائه استخدامهم وسيلة للوثوب إلى السلطة المطلقة، فلما أدرك الاصلاحيون أن الحكومة لا تحكم، وأن الحاكم الحقيقي هو بكر صدقي، فلم يكن أمامهم سوى تقديم استقالتهم من الوزارة، وخصوصاً بعد أن أقدم بكر صدقي على استخدام القوة العسكرية ضد انتفاضة العشائر في السماوة في 13 حزيران 1937، ووقوع عدد كبير من القتلى والجرحى، حيث قضت تلك الأحداث على آخر أمل للإصلاحيين من البقاء في الحكم، فأقدم السادة [جعفر أبو التمن] و[كامل الجادرجي] و[يوسف عز الدين] على الاستقالة من الحكومة، وقد تضامن معهم [صالح جبر] وقدم استقالته من الحكومة أيضاً، فلم يبقَ في الوزارة سوى وزيرين فقط هما [عبد اللطيف نوري ] و[ ناجي الأصيل ]. (8)
وفي الوقت الذي استقال الاصلاحيون من الوزارة، أخذ الاستقلاليون [القوميون] يتصلون ببكر صدقي، ويحرضونه على العناصر الماركسية واليسارية التي أخذت شوكتها تشتد، أعربوا له عن استعدادهم الكامل لدعمه إذا ما وقف ضد هذا التيار الجديد، والعمل على حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وإبعاد تلك العناصر من البرلمان الجديد.
وقد وعدهم بكر صدقي بتحقيق ذلك، وتم ترقيع الوزارة بتاريخ 24 حزيران 1937، حيث دخل الوزارة كل من محمد علي محمود، وعباس مهدي، وعلي محمود الشيخ علي، وجعفر حمندي ومصطفى العمري.
ثالثاً: مقتل بكر صدقي وإسقاط حكومة حكمت سليمان
أصيب الشعب العراقي بخيبة أمل كبيرة، بعد أن تبين له أن كل ما يهم بكر صدقي هو السلطة، متناسياً ما وعد به الشعب. وجاءت استقالة الوزراء الإصلاحيين من الوزارة لتزيد من انعزال حكومة بكر صدقي عن الشعب، وسحب الثقة بها، وبذلك فقد بكر صدقي وحكومته أهم عامل دعم وإسناد وهو الشعب.
كان الإنكليز ورجالاتهم من الساسة العراقيين يراقبون الأمور عن كثب ويتحينون الفرصة للانقضاض على الانقلابيين، فقد كان قلق الإنكليز يزداد يوماً بعد يوم ،من توجهات بكر صدقي، وجاء زواج بكر صدقي من إحدى الغانيات الألمانيات ليزيد من قلق الإنكليز، خوفاً من تقربه من ألمانيا، وأخيراً أخذت الأخبار تتوارد إلى السفارة البريطانية عن عزم بكر صدقي احتلال الكويت، مما زاد في قلق الحكومة البريطانية، ودفعها إلى التعجيل في تحركها للخلاص منه بأسرع وقت ممكن.
وجاءت الفرصة المناسبة عند ما قرر بكر صدقي السفر إلى تركيا لحضور المناورات العسكرية التركية المقرر القيام بها في 18 آب 1937، واتخذ الإنكليز قرارهم بتصفيته، وهو في طريقه إلى تركيا.
غادر بكر صدقي بغداد في 9 آب بالطائرة إلى الموصل، وكان برفقته العقيد [محمد علي جواد] قائد القوة الجوية، وكان من المقرر أن يغادر بالقطار، لكنه أحس بوجود مؤامرة ضده وقرر السفر بالطائرة.
وصل بكر صدقي إلى الموصل، ونزل في دار الضيافة، وبصحبته محمد علي جواد، وقد وجد المتآمرون فرصتهم في الإجهاز عليه في الموصل، حينما انتقل بكر صدقي إلى حديقة مطعم المطار البعيد والمنعزل، وبينما كان بكر صدقي جالساً في الحديقة مع قائد القوة الجوية محمد علي جواد، والمقدم الطيار[ موسى علي ] آمر القاعدة الجوية بالموصل يتجاذبون أطراف الحديث، تقدم نائب العريف [ عبد الله التلعفري ] نحوهم، ليقدم لهم المرطبات، وكان يخبئ مسدساً تحت ملابسه، ولما وصل قرب بكر صدقي، اخرج مسدسه وصوبه نحو جمجمته، وأطلق النار عليه فقتل في الحال، ثم أقدم العريف على إطلاق النار على العقيد محمد علي جواد وقتله أيضاً.
وتم إلقاء القبض على القاتل، وأوسع ضرباً، وقد أعترف بأن الذي جاء به لينفذ الجريمة هو الضابط [ محمود هندي ] الذي اختفى بعد مقتل بكر صدقي، ورفيقه محمد علي جواد، وتبين فيما بعد أن المتآمرين قد هيئوا عدة مجموعات لقتل بكر صدقي، ووزعوها على[كركوك] و[التون كوبري] و [أربيل ] و[الموصل ]، على احتمال أن بكر صدقي سوف يمر من إحدى هذه الطرق في طريقه إلى تركيا، وقيل أن العقيد [ فهمي سعيد] كان لولب الحركة، وأن الضابط [محمود خورشيد] هو الدماغ المفكر لعملية تنفيذ الاغتيال، وسرت شائعة تقول أن ضابط الاستخبارات البريطاني في الموصل، هو الذي دبر عملية الاغتيال، وكان المقدم الطيار[ موسى علي] آمر القاعدة الجوية بالموصل قد تحدث إلى السيد عبد الرزاق الحسني بأن المقدم محمد علي جواد قائد القوة الجوية والساعد الأيمن لصدقي كان قد أبلغه بأن الإنكليز يرمون قتل بكر صدقي.(9)
حاولت الحكومة إجراء تحقيق واسع لمعرفة الذين كانوا وراء عملية الاغتيال، وقد أرسلت لجنة تحقيقية إلى الموصل برئاسة نائب المدعي العام [ أنطوان لوقا ] حيث باشر في إجراء التحقيقات التي أخذت تتوسع شيئاً فشيئاً، مما أثار خوف وقلق الضباط المشاركين في المؤامرة من أن تصل التحقيقات إليهم، فأعلن أمر حامية الموصل اللواء [أمين العمري] العصيان على بغداد، واعتقال نائب المدعي العام، وجرى تمزيق أوراق التحقيق.
كما جرى تسريح كافة الضباط الموالين لبكر صدقي وللحكومة في بغداد، وأصدر بياناً يعلن فيه انفصاله عن حكومة بغداد. (10)
ورغم اتصال الملك غازي بأمين العمري، ودعوته له لإطاعة أوامر القيادة العسكرية، إلا أن الانقلابيين أصروا على موقفهم، وطالبوا الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتشكيل وزارة جديدة برئاسة[ جميل المدفعي ] ، كما رفضوا تسليم الضباط المتهمين بمؤامرة اغتيال بكر صدقي ورفيقه محمد علي جواد.
حاولت الحكومة بدفع من الضباط الموالين لبكر صدقي الزحف بالفرقة الثانية في كركوك إلى الموصل لإخضاع المتمردين على الحكومة، لكنها لم تستطع ذلك. ومن جهة أخرى حاول اللواء أمين العمري استمالة عدد من الوحدات العسكرية الأخرى إلى جانبه، واستطاع الحصول على دعم آمر معسكر الوشاش في بغداد [سعيد التكريتي ] وساعده الأيمن المقدم [صلاح الدين الصباغ ]، كما انضم إليهم آمر حامية الديوانية .
وهكذا بدا أن الجيش قد انقسم على نفسه، وأن الأمور قد باتت خطيرة جداً تنذر بوقوع حرب أهلية يكون عمادها الجيش، ولذلك اضطرت الوزارة إلى تقديم استقالتها للملك غازي في 17 آب 1937، وتم قبول الاستقالة في نفس اليوم.
وسارع الملك غازي إلى تكليف[جميل المدفعي] بتأليف الوزارة الجديدة، وكان واضحا أن التكليف جرى بضغط من السفارة البريطانية، وزمرة أمين العمري التي دبرت مؤامرة اغتيال بكر صدقي، حيث طالب أمين العمري الملك بإقالة وزارة حكمت سليمان، وتكليف المدفعي بتأليف وزارة جديدة، وصدرت الإرادة الملكية بتكليف المدفعي في 19 آب 1937 .
وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أعلن المتمردون في الموصل إنهاء تمردهم، وعادت الأمور إلى مجراها بعد أن تم التخلص من بكر صدقي وحكومته، وهكذا تبين أن مقتل بكر صدقي لم يكن مجرد حادث فردي، وإنما هو انقلاب عسكري جرى تدبيره بتخطيط من الإمبرياليين البريطانيين وأزلامهم العسكريين والسياسيين، وكانت تلوح رائحة الانتقام من كل العناصر التي ساهمت وساندت وأيدت انقلاب بكر صدقي، وكان على رأس أولئك المتعطشين للانتقام نوري السعيد، والذي وصل به الأمر إلى اتهام الملك غازي بالتواطؤ مع بكر صدقي.
رابعاً: نوري السعيد يتآمر لإسقاط حكومة المدفعي:
كان نوري السعيد كما ذكرنا قد هرب حال سماعه بتقدم قوات الانقلابيين نحو بغداد، ومقتل صهره وزير الدفاع [جعفر العسكري]، والتجأ إلى السفارة البريطانية التي قامت بدورها بنقله خفية في سيارة السفارة ممداً في الحوض الخلفي للسيارة وقد غطي بالسجادة لإخفائه عن الأنظار، كما جاء في كتاب [ دي غوري ] ثلاث ملوك في بغداد،الصفحة 157 حيث تم نقله إلى قاعدة الهنيدي [ معسكر الرشيد] حالياً، ومنها تم نقله بطائرة بريطانية إلى القاهرة، حيث مكث فيها فترة من الزمن، ثم انتقل إلى [لندن]، وهناك قام السعيد بنشاطات واسعة واتصالات مع المسؤولين البريطانيين للعمل على التخلص من بكر صدقي وحكومة حكمت سليمان ،وعندما جرى اغتيال بكر صدقي، وتم إسقاط حكومة حكمت سليمان، وجرى تكليف السيد[ جميل المدفعي] بتأليف الوزارة، حاول نوري السعيد العودة إلى بغداد، وفي ذهنه تسلم السلطة، والانتقام من الانقلابيين، والضغط على جميل المدفعي من أجل استقالة حكومته مستعيناً بثلاثة من كبار قادة الجيش، وهم العقيد [صلاح الدين الصباغ ] و[العقيد فهمي سعيد] و[الفريق طه الهاشمي]، وقد رفض الملك غازي والسيد جميل المدفعي عودته، وطلبا من السفارة البريطانية تأخير عودته لفترة من الزمن ريثما تهدأ الأوضاع، ويتم تجاوز أحداث الانقلاب، وقد أجرى السعيد اتصالات مع العقيدين صلاح الدين الصباغ، وفهمي سعيد عن طريق ولده صباح من أجل التوسط لدى المدفعي لتسهيل عودته، وقد تمكن العقداء من إقناع المدفعي شرط أن يمتنع السعيد عن ممارسة أي نشاط ضد الحكومة.
عاد السعيد إلى بغداد في 25 تشرين الأول 1937وهو متعطش للانتقام من قتلة صهره جعفر العسكري، وتشريده وإبعاده عن السلطة. (11)
ولم يمضِ سوى خمسة أيام على عودته حتى باشر في حبك المؤامرات محرضاً العقداء الأربعة قادة الجيش لإزاحة حكومة المدفعي، فما كان من المدفعي إلا أن توجه إلى السفير البريطاني يشكوه من تصرفات نوري السعيد، وطلب منه أبعاده إلى خارج العراق في الوقت الحاضر على الأقل، أو القبول بمنصب وزير العراق المفوض في لندن. وبالفعل أوعز السفير البريطاني للسعيد بمغادرة البلاد، حيث بقي بعيداً عن العراق حتى تشرين الأول 1938.
قامت الوزارة بإحالة عدد كبير من ضباط الجيش المحسوبين على بكر صدقي على التقاعد، وعينت آخرين بدلاً منهم. كما شنت الحكومة في 18 تشرين الثاني حملة شعواء ضد المشتبه بقيامهم بنشاط شيوعي وأحالتهم إلى المحاكم التي أصدرت أحكاما بالسجن ضد معظمهم .
وفي 18 كانون الأول باشرت الحكومة بإجراء الانتخابات البرلمانية بنفس الأسلوب الذي درجت عليه الوزارات السابقة، حيث تقوم الحكومة بترشيح العناصر المؤيدة لها، وتفرضهم على المنتخبين الثانويين فرضاً، وبذلك استطاعت الحكومة إبعاد كل العناصر اليسارية عن المجلس الجديد، كما جرى أبعاد جميع العناصر العسكرية أيضاً.
خامساً:إسقاط حكومة المدفعي بضغط من العسكريين:
منذ أن عاد[ نوري السعيد] و[طه الهاشمي] إلى العراق، بعد أن ثبّت حكومة المدفعي مركزها في الحكم، أخذا يمارسان الضغط على الحكومة لمحاكمة رجالات الانقلاب، والحكم بإعدامهم، لكن حكومة المدفعي لم تكن ترى من مصلحة البلاد اللجوء إلى ذلك، وبالتالي عارضته بشدة. وبسبب هذا الموقف سعى كل من السعيد وطه الهاشمي إلى إسقاط الحكومة بالقوة، مستعينان بما عرف بالعقداء الأربعة، قادة الجيش الذين أخذ دورهم في الحياة السياسية يتنامى في أعقاب الدور الذي لعبوه في إسقاط حكومة حكمت سليمان، وهم كل من [صلاح الدين الصباغ ] و[فهمي سعيد] و[محمود سلمان] و[كامل شبيب] ،وقد انضم إلى جانبهم عدد من الضباط
الناقمين على بكر صدقي.
شعر جميل المدفعي بما يدبره له نوري السعيد، وطه الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني من مكيدة، فسارع إلى نفي الكيلاني إلى [ عانة]،وحاول نفي العقداء الأربعة، ومعهم العقيد [ يوسف العزي] والعقيد [ عزيز ياملكي ] .
لكن نوري السعيد كان أسرع حركة منه، واستطاع أن يرتب الأمر مع العقداء الأربعة للقيام بانقلاب عسكري لإسقاط الحكومة، وحدد له موعداً في 24 كانون الأول 1938، وقام العقداء المذكورون بتهيئة قواتهم للقيام بالحركة، أرسلوا العقيد [عزيز ياملكي] إلى جميل المدفعي يطلبون منه الاستقالة فوراً.
كما أرسلوا الفريق [ حسين فوزي ] رئيس أركان الجيش، وهو من المشاركين في التمرد على الحكومة، إلى الملك غازي ليطلب منه إقالة حكومة المدفعي. (11)
استاء الملك غازي من تصرف الضباط ، ومن وراءهم نوري السعيد وطه الهاشمي، وأراد أن يستخدم القوة لقمع التمرد، لكنه تراجع عن موقفه بعد أن وجد جميل المدفعي ينوي الاستقالة، ليجنب البلاد إراقة الدماء، وربما يحدث ما لا يحمد عقباه فآثر الاستقالة في 24 كانون الأول 1938، واضطر الملك غازي تحت ضغط العسكريين إلى تكليف نوري السعيد بتشكيل الوزارة الجديدة. (12)
سادساً: نوري السعيد يشكل الوزارة وينتقم من الانقلابيين
عاد نوري السعيد ليشكل حكومته الثالثة بضغط مباشر من العسكريين على الملك غازي الذي كانت تتقاذفه أمواج الزمرة السياسية المتعاقبة على سدة الحكم والتي تسير بهدى وتوجيهات السفارة البريطانية، واضطر الملك غازي وهو الذي لا يطيق رؤية نوري السعيد ،إلى دعوته إلى تشكيل الوزارة على مضض، في 25 كانون الأول 1938.
وهكذا قبض الثنائي نوري السعيد ـ طه الهاشمي على أخطر الوزارات الداخلية والخارجية والدفاع إضافة إلى رئاسة الوزارة، ثم عاد نوري السعيد بعد يومين، فعين[ ناجي شوكت] وزيراً للداخلية. (13)
كان أمام الوزارة السعيدية مهمة حل المجلس النيابي وإجراء انتخابات جديدة، حيث أن حكومته لا تتمتع بتأييد أغلبية أعضاء المجلس، وكان في جعبة نوري السعيد الانتقام من خصومه السياسيين، وعلى رأسهم الملك غازي، وحكمت سليمان، والعديد من الضباط الذين آزروا بكر صدقي في انقلابه، وتسببوا في مقتل صهره ،جعفر العسكري، وزير الدفاع في حكومة الهاشمي.
ففي 22 شباط 1939 استحصل نوري السعيد إرادة ملكية بحل المجلس النيابي، لكن الحكومة تلكأت في إجراء الانتخابات بحجة قيام حكمت سليمان بالتعاون مع عدد من الضباط بمؤامرة مزعومة لقتل عبد الإله و50 شخصية سياسية، وضباط كبار في الجيش كانوا مدعوين في قصر الأمير إلى مأدبة عشاء.
وفي حقيقة الأمر، وكما ورد على لسان العديد من الوزراء،وأعضاء المجلس العرفي الذي شكله نوري السعيد لمحاكمة المتهمين بالمؤامرة أن المؤامرة المزعومة كانت من صنع [نوري السعيد] الذي كان يضمر لحكمت سليمان، والضباط [حلمي عبد الكريم ] و[إسماعيل عباوي] و[جواد حسين] ،و[عبد الهادي كامل] و[علي غالب] روح الانتقام، وينتظر الفرصة المناسبة لذلك حيث أحالهم إلى المحاكمة أمام المجلس العرفي العسكري الذي حكم على حكمت سليمان وأربعة من كبار الضباط بالإعدام، وعلى أثنين آخرين بالسجن لمدة 7 سنوات.
لكن نوري السعيد لم يستطع تنفيذ حكم الإعدام بسبب عدم موافقة الملك، وتم استبدال الحكم إلى السجن المؤبد بالنسبة لإسماعيل عباوي، ويونس عباوي، وجواد حسين، فيما خفض الحكم على حكمت سليمان إلى السجن لمدة 5 سنوات، وسيق إلى السجن، وأصيب هناك بمرض صدري وبقي في السجن حتى قيام حركة رشيد عالي الكيلاني،عام 1941، حيث أطلق سراحه من السجن. (14)
التوثيق
(1) مذكرات توفيق السويدي ـ ص 271 .
(2) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الرابع ـ ص 202 .
(3) نفس المصدر ـ ص 209 .
(4) نفس المصدر ـ ص 211 .
(5) نفس المصدر ـ ص 212
(6) مذكرات طه الهاشمي ـ ص 151 .
(7) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الرابع ـ ص 217 ـ الحسني.
(8) صحيفة البلاد ـ العدد 893 ـ في 12 حزيران 1937 .
(9) تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الرابع ـ ص 340 ـ الحسني.
(10)نفس المصدر ـ ص 344 .
(11)فرسان العروبة ـ ص 91 ـ صلاح الدين الصباغ .
(12)الخلاف بين البلاط ونوري السعيد ـ ص 56 خيري العمري
(13)تاريخ الوزارات العراقية ـ الجزء الخامس ـ ص 66 ـ الحسني.
(14)نفس المصدر ـ ص 72 .
حامد الحمداني
2/9/2008