Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

هاييتي ومأساة البحر الكاريبي

عندما وصل كريستوفر كولومبوس سواحل جزر البحر الكاريبي، ظن أنها مليئة بالذهب . وبعد خمسة قرون تضمنها تاريخ سياسي استعماري استبدادي ، واجتماعي تمييزي ، واقتصادي مدقع وصعب جدا .. تحل كارثة زلزال مدّمر بلغت قوته 7.0 في واحدة من تلك الجزر الجميلة ، واسمها هاييتي ، في يوم 12 يناير 2010 بمأساة مدمرة لتزيدها تدميرا . وهاييتي أفقر بلد على امتداد الأميركيتين عموما ، ويعيش سكانها تحت خط الفقر لنقص مواردهم ، واضطراب أمنهم ، وتشّرد أبنائهم ، وعقم سياسة بلادهم .. لقد قتل الزلزال وعصفه الهائل عددا كبيرا لا يحصى من البشر في العاصمة بورت او برنس ، وتتراوح التقديرات حتى الآن حول قرابة ربع مليون إنسان قتيل ، وربما ذهب المزيد من المفقودين تحت الأنقاض ، وهم أكثر بكثير من أولئك الذين يعيشون تحت الأعمدة والصفائح في الأكواخ التي تبدو كأنها موجودة من عصور ما قبل التاريخ ، وقد تحّول المجتمع المجروح إلى فوضى عارمة من الاعتداءات والنهب والانتهاكات في ظل المأساة والجوع والعري وعويل الأطفال التائهين !

ربما كان الحدث المرير مفاجأة للعالم باختفاء قرابة ربع مليون إنسان تحت الأرض فجأة ، ولكن المجتمع الهاييتي يعيش مأساة تاريخية واجتماعية منذ أزمان طويلة ، وربما كانت ظروفه هي الأقسى من بين مجموعة الجزر الكاريبية كلها .. وإذا كان العالم ، قد بدأ الآن يساعد هاييتي ، بعد إن كان قد قطع مساعداته عنها ، كون المساعدة الإنسانية الآن ، هي الخيار الوحيد الذي يمكن تقديمه لشعب منكوب ، فان الناس الذين ينتظرون المال والأدوية والملابس والإسعافات الأولية .. والأطفال الذين ينتظرون من يتبناهم في عموم العالم .. وحتى التعاطف الوجداني إن أتى من مشاهير وفنانين كبار ، لإقامة حفلات من اجل التبرع بأموالها لهاييتي .. ، فان ذلك سوف لن ينقذ الناس إن بقيت حالة البلاد تائهة بين لجج الأمواج ، وغير قادرة على تخّطي مصاعبها وتحدياتها وآلامها .. ولكن يجب أن لا تكون المأساة ذريعة لدفن شعب بكامله ، الأموات منهم والأحياء ..

إن على جمهورية هاييتي أن تنقذ نفسها بنفسها ، لتبدأ حياة جديدة أسوة بغيرها من جزر الكاريبي ، فهي ليست اقل من جمهورية الدومينيكان الملاصقة لها في جزيرة هيسبانيولا الساحرة جمالا وجاذبية والتي تعيش على السياحة الدولية .. كما ان الملايين من الهاييتيين الذين شردهم العصيان المسلح وسوء التدبيرات السياسية منذ عشرين سنة ، نحو الأميركتين الشمالية والجنوبية ، لهم القدرة على إنقاذ وطنهم الأم من المأساة التي تلم به منذ عهد طويل . صحيح إن المنطقة موبوءة بالأنشطة الزلزالية ، ولكن ينبغي تعلّم الدرس من مناطق ودول أخرى في العالم معرضة للزلازل يوميا ، لاحتواء تموجات الأرض .. إن الاستقرار لا يمكنه أن يبدأ ، إن لم يقض على الاضطرابات السياسية التي تعصف بالبلاد .

لقد دفع الشعب الهاييتي أثمانا باهظة على امتداد التاريخ الحديث ، نتيجة معاناته الطويلة مع الاستعمارين الاسباني والفرنسي حتى حصوله على الاستقلال . ويكاد يكون شعب هاييتي هو الوحيد في العالم الجديد ، الذي استطاع أن ينجح بثورته التي أسموها " ثورة العبيد الهاييتيين " ، ولكن الانقسامات الاجتماعية كانت قد رسخّت منذ الماضي ذلك أن 90- 95 % من الهاييتيين هم من أصول افريقية ، وكانوا قد فّروا من سطوة الأوربيين الذين جلبوهم عبيدا إلى العالم الجديد ، ففروا من الاضطهاد ، واستوطنوا هذه الجزر المعزولة ، ولكنهم تحملوا سطوة الاستعمار بشكل لا يصدق ، فكانوا أهل ثورة دائما من اجل الاستقلال أو الحكم الذاتي، وخصوصا بعد أن ضحوا بقرابة مئة ألف ضحية من اجل الحرية ، وبقوا في نضال دائب ضد سلسلة حكومات استبدادية ، جعلت الآلاف المؤلفة منهم تهرب وتتشرد في الأميركيتين ، وخصوصا بعد أن أصبحت تحت حماية الولايات المتحدة الأميركية بين عامي 1905 و1934 .

ان مشكلة هاييتي قد استمرت مع حكم دوفالييه الأب والابن ، والذي استمر لثلاثين سنة في حكم البلاد . انشأ الدكتور فرانسوا دوفالييه الحزب الواحد ، وأعلن نفسه رئيسا مدى الحياة ، حتى العام 1971 ، عندما ورثه ابنه جان كلود بيبي دوك دوفاليه ليحكم مدى الحياة أيضا .. وقد عانت هاييتي من الاستبداد والسرقات ، وحدثت سلسلة انقلابات مع رحيل بيبي دوك وزوجته عام 1986 ، ومجيء طغم عسكرية حتى وصول الأب جان برتران أريستيد الكاهن الكاثوليكي الذي تحول إلى الراديكالية واليسار الثوري .. وكانت لديه خطة ممتازة لاستعادة هاييتي اقتصاديا من خلال المساعدات الخارجية ، معتبرا ذلك منفعة تقدمها حكومات غربية ساذجة ، ولكن قّوضت خطّته بعد سبعة أشهر من انتخابه عام 1991 ، بعد أن أطاح به انقلاب عسكري قاده راؤول سيدراس ! وعلى مدى ثلاث سنوات حاول بيل كلينتون التدخل المباشر في الشأن الهاييتي .. وفي عام 1994 تم غزو هاييتي للقضاء على بلطجة الجنرال سيدراس ، وحدثت فوضى داخلية من دون أية إدارة سمحت لارستيد افالاس بأن يحكم هاييتي ، كي يصل الفساد ذروته ، وبحلول 2001 صوّت الاتحاد الأوربي لحجب المساعدات عن هاييتي . وقد أطيح بحكم سيدراس في انقلاب آخر عام 2004 وتمّ اختطافه من قبل جنود المارينز ، ليكون تلميذه رينيه بريفال رئيسا للجمهورية منذ 14 مايو 2006 حتى اليوم . وكان بريفال قد شغل سابقا منصب الرئاسة خلال الفترة من 1996 إلى 2001. ولكن بلاده كانت ولم تزل تتضور جوعا وانقسامات حتى نكبتها الأخيرة ! فهل ستبدأ هاييتي زمنا جديدا بعد تاريخ حقيقي من المأساة ؟ أم أن هاييتي ستكون لقمة سائغة بفم الحوت الأكبر ، لتلحق بها ما تبقى من جزر البحر الكاريبي ؟



نشرت في البيان الاماراتية ، 27 يناير 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل

www.sayyaraljamil.com
Opinions