هل من ضرورة لاصلاح التعليم العالي في العراق؟
ترتبط فلسفة التعليم العالي في اية دولة متطورة بتطور المجتمع وتقدمه، وذلك لان الجامعات هي المعقل الاساسي والرئيسي لبناء القدرات والمهارات وتطوير وتحسين اداء الافراد في المجتمع. والفرق بين المجتمعات هو فرق الانسان بما يحمله من علم وفكر وثقافة وقدرة على الابداع والانتاج والتطوير.واقع الحال في العراق، والامر بات عاديا في مجتمع غير مستقر، ان ادوار الجامعة قد تقلصت في بناء الانسان فهي تواجه مشكلات كثيرة يعرفها القائمون عليها وتحديات جسام تكبل من دورها وتعيق حركتها، وهي تحديات ترتبط بواقع المجتمع العراقي الذي يحمل اثقالا كبيرة تحول من دخوله الى عالم مجتمع المعرفة وانتاجها وبالتالي تحويلها الى قوة اقتصادية واجتماعية ترقى بالبلاد الى مصاف الدول المتطورة. ولربما اهم هذه التحديات هي تنمية مهارات الانسان وتطوير اداءه وهي من مهمات الجامعات وعلى عاتقها يقع توفير اليات ونظم تستند الى تقنيات المعرفة لتساعد الانسان العراقي دخول مجتمع المعرفة والمشاركة في انتاج المعارف العالمية.
ولكي تتجاوز الجامعات العراقية حالتها الراهنة تحتاج الى خطط واضحة ومنهجية علمية، ووضع ضوابط لتقنين عملية الاخذ بتجارب الجامعات المتطورة لتطوير التعليم العالي العراقي. ومن الملاحظ انه على الرغم من محاولات منح الجامعات استقلالية نسبية، وهي محاولات جدية وتنم عن ارادة متفهمة لضرورة التغيير، نرى ضعف استغلال هذه الاستقلالية لتطوير عملها والتخلص من مشكلاتها التي تمنعها من اداء رسالتها بحيث تساير الجامعات الاخرى لان مثل هذا الهدف لا يتحقق الا بإصلاح القوانين والتشريعات واللوائح المنظمة لشؤون الجامعات وزيادة التمويل المالي بصدرجة كبيرة وضع خطة استراتيجية جديدة وآليات تنفيذ لتطوير الجامعات في العراق بحيث تصبح الجامعات بالإضافة إلى كونها مؤسسات أكاديمية اجهزة تدريب لاشباع مطالب سوق العمل الوطني وانتاج المعارف بمستوى الاسواق العالمية وبتطبيق معايير الجودة والتميز. ويحتاج نظام الاصلاح الى قيادات سياسية وادارية وجامعية تفهم قيمة الاصلاح وضرورته وتدرك الحاجة الى مراجعة النظام الجامعي باهدافه وبرامجه وطرقه من منظور الجودة ومن حيث ملائمته لسوق العمل واحتياجات المجتمع، وبما تتطلبه مهمة الجامعة في التنوير والتثقيف ضد الافكار الظلامية والتعصب والغاء الاخر. كما لابد لهذه القيادات من معالجة مشكلة جمود الهيكل التنظيمي لنظام التعليم العالي. ولعله من المفيد ايضا التأكيد على هدف اساسي في عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا وهو ضرورة التكيف السريع مع التغيرات المعرفية العالمية، وما يستلزمه ذلك من تطوير وتنمية اعضاء هيئات التدريس مهنيا وعلميا وثقافيا، واعتبار البحث العلمي عامل اساسي في انتاج المعرفة ومن خلاله تتفاضل الجامعات وبه يتميز عضو هيئة التدريس.
لماذا الاصلاح؟
الاصلاح عملية ضرورية للتعليم العالي في العراق كما كانت عليه البريسترويكا، اي اعادة البناء بشكل صحيح سليم، بعيدا عن الترميم والترقيع، بناء مبني على اسس علمية كما تبنى عليه الجامعات في الدول المتطورة، بناء على الصراحة والموضوعية، وهو بناء يحتاج الى تفكيك وتهديم بعض اجزاء النظام القديم، فلا اصلاح بدون تهديم، والاصلاح لا يتحقق بدون دفع ثمن سياسي واجتماعي ومالي وقد يكون الثمن باهظا لذلك يتطلب الاصلاح ارادة وقوة وجرأة وبالطبع معلومات كبيرة عن واقع الجامعات العالمية ومعرفة بمتطلبات سوق العمل وبالواقع الاقتصادي والاجتماعي. الاصلاح يوفر لنا مشروعا اكاديميا حديثا للجامعات للاندماج في عالمنا الجديد، عالم التقنيات الحديثة للتعليم والتعلم ولبناء البنية المعلوماتية والمعرفية بحيث يصبح التعليم الجامعي انعاكس لسوق العمل وحاجة المجتمع ولتحويل المجتمع من سوق استهلاكي الى مركز للانتاج والابداع والابتكار وبالتالي الى تجديد دعائم قوتنا وترسيخ امننا الاقتصادي.
ويبدو لنا كخلاصة ان المنظومة الجديدة التي سيؤدي لها اصلاح النظام الجامعي ستعتمد في مفاصلها الرئيسية على:
1. المنافسة بين التدريسين داخل الجامعة وبين الجامعات
2. الإدارة اللامركزية والمرونة التنظيمية والهيكلية بحيث تكون ملائمة لقبول التغيير السريع والمستمر
3. التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة
4. زيادة هائلة في التمويل وإيجاد مصادر اخرى للتمويل
5. تنمية مستوى كفاءات ومؤهلات التدريسين والباحثين
6. تطوير المناهج وطرائق التدريس
7. نظام فاعل لتقيم الجودة وتوفير الحوافز
الدعائم الاساسية للاصلاح
يواجه التعليم العالي في العراق تحديات عظيمة تملي عليه الإقدام على تغييرات جذرية في الانظمة والبرامج الادارية والاكاديمية، وعمليات تجديد حتى تتمكن جامعاتنا التي تجتاز أزمة قوى بشرية ومادية عميقة أن تتجاوز الاعتبارات الاكاديمية والمالية، وتستوعب قدرة على التحفيز وابداع أكثر عمقاً ودون التقليل من اهمية ما تحقق في السنوات السابقة ولا المبالغة بها. ومن هذا يبدو لي انه لابد للجامعة العراقية من تبني وسائل وطرق تسعى لتحقيقها لكي تحقق سمعة محلية وعربية وعالمية للشهادات وسمعة عالمية للبحوث العلمية ، وذلك عن طريق امتلاك بنى تحتية شاملة تتضمن بنايات وقاعات ومختبرات مجهزة تجهيزا عاليا ، وبوجود علماء ومربين في الجامعة متميزين عالميا ، وان تكون بيئة الجامعة بيئة حرة وجوها مفعم بالحرية والتقدير وفيها يحترم الرأي وبدون تدخل او ضغوط خارجية ، ومن الضرورة ان يكون لها إمكانيات مالية ملائمة وقوة أكاديمية مؤهلة تستمر في التعلم مدى الحياة، بالاضافة الى طموح منتسبيها اللامتناهي لتحقيق الجودة الشاملة وتبوأ مستوى عالمي في سلم الجامعات العالمية. واي شئ اقل من تحقيق هذه الاهداف والمؤشرات لن يؤدي الا الى بقاء الجامعة تنتج معدات غير مرغوب بها ولا تستطيع منافسة المنتجات العالمية.
وهناك عدد من المعالم المعيارية التي ارى ضرورة تحقيقها لكي تتطور الجامعة يمكن اجمالها بما يلي: استقلالية الجامعة، اعادة انشاء نظام التعليم الجامعي على اساس المرونة والكفاءة، زيادة واستقرار مصادر التمويل، تأكيد التنافسية بين الجامعات والمؤسسات العلمية وبين العلماء، مرونة الانظمة التربوية والبحثية، منع التدخل السياسي في شؤون الجامعات، تطوير العلاقات مع الجامعات الوطنية والعالمية، التنمية المستمرة لقدرات اعضاء الهيئات التدريسية، ادخال المعلوماتية في كل مفاصل الجامعة، زيادة التفاعل بين التخصصات.
ومواجهة هذه التحديات يتطلب اصلاحا للنظام التعليمي والاكاديمي والمالي بحيث يتضمن:
1- التحول من التعليم الى التعلم والتأكيد على نشاط الطالب وانتاجاته من خلال اعادة انتاج معارف الاخرين وابتكار اخرى جديدة، فضلا عن ضرورة الارتقاء بمستوى اداء التدريسي. وهذا يعني تحويل الطالب من دوره السلبي أي تلقي المعلومات فقط الى دور ايجابي يعتمد بدرجة كبيرة على استنباط المهارات والمعلومات بنفسه وبمشاركة زملائه ، وحيث يتطلب منه (اي الطالب) اتقان جميع ما اكتسبه من مهارات الدروس.
2- احراز الجودة لتصبح الجامعة مؤسسة لتكوين كوادر تلائم عصر اقتصاد المعرفة المدعوم بتكنولوجيا المعلومات. وضمان الجودة او النوعية العالية يحتاج الى ادوات تقييم انتاجية لكي توفر اجابات واضحة لما هي رؤية الجامعة والاهداف التي تسعى لتحقيقها؟ كيف يمكن قياس نجاح الجامعة؟ ما هي انظمة التقييم وقياس النوعية والجودة؟ وما هي المواضيع التي تسعى الجامعة لتحقيق الصدارة والتميز فيها؟ وقياس الجودة لن يضمن احرازها مالم يكون هناك جهاز ملائم لمعالجة المشاكل وجهاز للتطوير يعتمد على اموال كافية وخبرة وتجارب جامعات الدول المتطورة.
3- تحقيق مبدأ استقلالية الجامعة وضمان الحرية الاكاديمية والانفتاح كدعامات اساسية للاصلاح. ان تطبيق مفهوم استقلالية الجامعة يعتبر الضمانة الرئيسية لاداء الاستاذ لمهماته الاكاديمية وكذلك للتخلص من قبضة الثقافة البيروقراطية والقناعات الجاهزة، والاستقلالية تشجع الاختلاف في المناهج الدراسية بين الجامعات المختلفة وبما يتناسب مع قدرات كل جامعة وامكانياتها البشرية وحاجة مجتمعها، وفي هذه الوصفة يكون لقيادات الجامعات حقوق كاملة في ادارة الجامعات وهذا لا يعني فقط رئاسة الجامعة وانما تشمل الاقسام والكليات، وعندئذ يكون حجر الاساس في ادارة الجامعة هو الاستاذ، والمرونة التنظيمية والهيكلية لمختلف مؤسساتها هو جوهر ادارتها، لذلك يتطلب تحقيق الاستقلالية تحول جذري في مفهوم القيادة والادارة والتخطيط والعمل بمستوياته المختلفة. ويمكن عند تحقيق الاستقلالية ان تتحرر من بعض القيود التي تمنعها من دخول السوق الوطني والعالمي في البحث عن افضل الاساتذة واغرائهم وذلك بتقديم عروض تتناسب مع خبرتهم ورواتبهم في الدول المتطورة، وبحيث تتمكن من زيادة راتب الاستاذ الكفؤ والمنتج والتنافس مع الجامعات الاخرى من اجل تطوير كادرها التدريسي.
4- الإنفاق بسخاء على البنية التحتية للجامعات ومؤسسات التعليم الاخرى، وإقامة المشاريع التعليمية. ان اي اصلاح بدون توفير اموال جديدة وكافية لا يمكن ان يحقق الغاية منه. ولعل مقارنة بسيطة بما تصرفه بعض الدول على قطاع التعليم العالي توضح لنا مدى إهمال الدولة العراقية للتعليم الجامعي، وعدم تقديرها لدور الجامعة في التنمية، فالدولة في أحسن الحالات تعتبر الدعم المادي للجامعات وللعلماء والبحث العلمي دعما يسجل في خانة الأموال المفقودة، فكل ما يصرف على الجامعة من غير رواتب الأساتذة (علما أن الرواتب لازالت تشكل أكثر من 80% من ميزانيات الجامعات) هي أموال ضائعة. ومع هذا تبقى مسؤولية الدولة ثابتة ما دامت تدرك كامل الإدراك بان الجامعة لن تتطور إلا بتوفير الأموال اللازمة لكي ترفع من مستوياتها الأكاديمية والتأهيلية والتنافسية والإبداعية، وبأن الجامعات الأهلية لا يمكن لها أن تكون بديلا عن الجامعات الحكومية، ولذلك عليها لزوما ووجوبا التعامل مع التعليم العالي والجامعات بصورة اكثر إيجابية والإسهام في تأهيلها وإغنائها، أما تجاهل ذلك فسيعني مزيدا من التخلف. انه من الطبيعي لكي نضمن نجاح اية عملية اصلاحية للتعليم العالي لابد من توفير المخصصات المالية الكافية للجامعات ومراكز البحث العلمي. اما مراقبة الصرف فيتم من قبل لجان على صعيد الجامعة والكلية والقسم تشرف على ادارة وتنظيم ومراجعة سياسة وتقييم مواضيع الدراسة والبحث والاشراف على عملية صرف الاموال اللازمة ومعالجة ضعف وتخلف المردودية مما يتطلب من كل قسم وضع خطة عمل وبرنامج لدعم الاستاذ في مجال حاجته لمواد التدريس او البحث واعتبار المالية جزء لا ينفصم من مهمات القسم الرئيسة. كما لابد من وضع الية عمل جديدة لتقديم الحوافز الملائمة للاستاذ الجيد بحيث تعتمد على مبادئ التقييم العلمي العالمي. كما يتم دعم التجديد والابداع وتوفير الحوافز لمن يتبنون البحث والتطوير، ومكافأة المبدعين والعلماء وتوفير فرص حقيقية لهم لتحقيق الرفاهية والتميز في المكانة الاجتماعية. ولابد ان يتم تمويل الجامعات وغيرها على اساس المفاضلة من حيث مستوى الجامعة الوطني والعربي والعالمي.
5- اعادة بناء الهكلية الادارية والاكاديمية للجامعة بما يساير التطور العالمي في الادارة الجامعية، وان تحذو حذو الجامعات الامريكية والاوربية في التقدم والرقي، ولابد للهيكلية الادارية ان تعكس وتمثل وتديم رؤى واهداف الجامعة لكي تتمكن قيادات الجامعة من تنفيذ خطة الجامعة في تدريب الكفاءات واجراء البحوث بالمستوى العالمي وتحقيق المهمات الاخرى المرتبطة بكونها مؤسسة اجتماعية وثقافية. كما انه من الضروري ان تعكس هذه التركيبة الارتباط العضوي بين المهات الادارية والاكاديمية في الجامعة، وان تحقق نوعا من الاستقرار التنظيمي وذلك عن طريق اختيار افضل العناصر القيادية في الادارة، وضمان بقاء هذه القيادات لفترة طويلة نسبيا ولا يتم تبديلها الا على اساس قانوني يضمن سلامة العمل الاكاديمي ولا يضر بسمعة الجامعة وبمركزها العلمي. وبالرغم اني لا ارغب هنا من اقتراح نظام اداري واكاديمي معين الا اني ارى في نظام ادارة الجامعات المتضمن لمجلس امناء يتكون من اعضاء متميزين من مجتمع ومحيط الجامعة ومجلس اداري يضم رئيس الجامعة ونوابه ومدراء مجاميع الكليات المتشابه التخصصات كمجموعة الدراسات العلمية ومجموعة الدراسات الانسانية ، هذا بالاضافة الى مجلس اكاديمي يضم عمداء الكليات او رؤساء الاقسام العلمية واساتذة منتخبون.
واخيرا، نحب ان نؤكد بأن الاصلاح الشامل لنظام التعليم العالي والبحث العلمي اصبح ضروريا للولوج في القرن الواحد والعشرين، وان مسألة العلاقة بين التدريب وسوق العمل هي المسألة الأساس في أي مشروع للإصلاح الجامعي واستقلالية الجامعة، بالاضافة الى ان عملية الاصلاح والتطوير وتغيير القوانين غدت حتمية لا مناص منها.
أ. د. محمد الربيعي
جامعة دبلن، ايرلندا
شبكة العلماء العراقيين في الخارج