واقع الديمقراطية في العالم العربي
لم يشهد العالم العربي منذ تحرره من الاستعمار العثماني الذي دام أربعة قرون من العبودية والتخلف في مختلف مجالات الحياة، أي تحول جدي نحو قيام المجتمع الديمقراطي الذي وعد به المستعمرون الجدد البريطانيون والفرنسيون العرب عندما أعلنوا أنهم جاءوا محررين، وتبين بعد ذلك أنهم قد تقاسموا العالم العربي فيما بينهما بموجب معاهدة [ساسكس بيكو] التي فضح بنودها زعيم ثورة أكتوبر الروسية فلاديمير لنين.وهكذا أصيب العالم العربي التواق للتحرر من الهيمنة الأجنبية بخيبة أمل شديدة من المحتلين الجدد الذي تمسكوا باحتلال العالم العربي بقوة الحديد والنار، واستأثروا بثروات البلاد تاركين الشعوب العربية في حالة من البؤس والفقر والجهل والتخلف الشديد.
وعلى الرغم من نهوض حركات التحرر في معظم البلدان العربية، والنضال من أجل طرد المستعمرين الجدد، وتحقيق السيادة والاستقلال لأوطانهم، إلا أن تلك الحركات لم تتخذ طابعاً ديمقراطياً، بل اتخذت طابعاً قوميا صرفا، مستفزة الشعور القومي الطاغي لشعوبهم التواقة للتحرر من الاستعمار.
وهكذا نشأت في البلدان العربية التي استطاعت التحرر من ربقة الاستعمار أنظمة قومية سرعان ما تجاهلت طموحات شعوبهم في التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والنهوض بالبلاد من حالة التخلف ومعالجة البطالة والأمية والفقر والأمراض التي تفتك بالمواطنين وبوجه خاص بالأطفال بسبب فقدان الخدمات الصحية والتعليمية.
لقد تربع على قمة السلطة في الوطن العربي طبقة سياسية حاكمة منها أقامت النظام الملكي ومنها الجمهوري، وبدأت تفكر في الوسائل التي تحمي حكمها واستمرار دوامه، وهكذا تحول الصراع من صراع مع المستعمرين إلى صراع مع السلطات الوطنية الحاكمة التي تخلت عن تحقيق الطموحات الشعبية، فكانت الصراعات بين المحكومين والحاكمين تخبو تارة لتندلع تارة أخرى متخذة من العنف وسيلة لتحقيق آمالها وأحلامها في العيش الكريم، وفي ظلال الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وما زالت الشعوب العربية حتى يومنا هذا تكافح من أجل تحقيق أحلامها بعالم عربي ديمقراطي لا مكان فيه للعوز والجوع والفقر والبطالة، واحترام حقوق الإنسان، وتحرر المرأة التي وقع عليها الظلم الأكبر بسبب سيادة المجتمع الذكوري، و النظرة المتخلفة للمرأة، وامتهان حقوقها وحريتها، وعدم مساواتها بالرجل.
إذا في واقع الأمر اليوم ليس هناك ديمقراطية بالمعنى الحقيقي في العالم العربي، بل فيها أنظمة ديكتاتورية منها السافرة ومنها المقنعة ببرقع الديمقراطية كي تظهر أمام شعوبها بمظهر الديمقراطية!
إن ابسط مستلزمات الديمقراطية يتطلب تأمين الحريات الديمقراطية، كحرية التنظيم الحزبي والنقابي، وحرية الصحافة، والالتزام بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصاً وروحا، وسيادة القانون ، والمساواة بين الرجل والمرأة من جهة، وبين سائر مكونات المجتمع بصرف النظر عن القومية والدين والطائفة، وإجراء الانتخابات بمواعيدها المقررة بالدستور، وبصورة شفافة خالية من أي تزوير، والتداول السلمي للسلطة.
إن ما يؤسف له أن كل هذه المستلزمات غير متوفرة في العالم العربي، فهناك استئثار حقيقي بالسلطة، وانتهاكات لحقوق الإنسان، وقمع للصحافة والأحزاب، فهناك من استأثر بالسلطة من الحكام العرب لسنوات طويلة جاوزت لدى البعض منهم 40 عاماً، وبطبيعة الحال لا يمكن أن تستمر مثل هذه الأنظمة في الحكم دون قمع الحريات، ومصادرة حقوق الشعب.
إن مستقبل الديمقراطية في العالم العربي منوط بنضال الشعوب العربية، لكن هذا النضال يتوقف على درجة نضوج المجتمعات العربية، فالمجتمع العربي بشكل عام يعاني من تخلف شديد، ومن أمية واسعة النطاق، ومن فقر مدقع وبطالة مستشرية، وأمراض فتاكة.
إن عملية بناء مجتمع ديمقراطي لا يمكن أن تتم بين ليلة وضحاها ، فهي ليست رداء نلبسه لنصبح ديمقراطيين، أنها تربية تبدأ من الطفولة في ظل نظام تربوي قائم على احترام أطفالنا والامتناع عن ممارسة القمع ضدهم سواء في البيت أو المدرسة، وإفساح المجال أمامهم لبناء شخصيتهم، والتعبير عما يجول في عقولهم دون خوف من عقاب، وعدم توجيه الإهانات أو الصفات غير اللائقة التي تحط من نفسيتهم فتخلق منهم أجيالا تتسم بالخوف والجبن والاستكانة.
كما يتطلب إعادة النظر في كافة المناهج التربوية بصورة جذرية ووضع مناهج ديمقراطية جديدة بعيدة عن تدخلات رجال الدين وتأثيراتهم، تحترم الأطفال، وتلبي حاجاتهم التربوية، وتعمل بشكل جدي على بناء شخصياتهم، فهم اليوم أطفالنا الصغار، وغداً رجال المستقبل، فإذا نشأوا في ظروف ديمقراطية فسيكونوا بكل تأكيد هم من يحمل مشعل الحرية والديمقراطية في العالم العربي.
إن العراق يمر اليوم في فترة مخاض عسير، وأن مسألة بناء مجتمع ديمقراطي في البلاد يلاقي مصاعب جمة، منها فيما يتعلق بسلوك النظام الدكتاتوري الفاشي الذي دام زهاء الأربعة عقود من القمع والاستهانة بحقوق الإنسان، وقمع الحقوق الديمقراطية للشعب، بالإضافة إلى الحروب الكارثية التي خاضها النظام، والحصار الأمريكي الظالم الذي دام 13 عاما، والذي أفقر الشعب، وحطم بنيته الاجتماعية ومحى تلك العادات والقيم والسلوكيات الرائعة لتحل مكانها قيم وسلوكيات وعادات هي النقيض منها، وانهارت البنية الاقتصادية وهبطت العملة العراقية إلى الحضيض، وتضاءلت القدرة الشرائية للمواطنين، وانتشر الفقر والجوع والإمراض، وانتشار الأمية والجهل والخرافات.
وجاء الاحتلال الأمريكي ليكمل ما فعله نظام صدام بالمجتمع العراقي، بل نقله إلى وضع أسوأ بكثير، حيث أقام نظاماً قائماً على أساس المحاصة الطائفية، وسلم الحكم للأحزاب الدينية الطائفية التي أوصلته إلى الحرب الأهلية، وزادت المجتمع العراقي تخلفاً وتقهقرا.
إن الأحزاب الدينية لا يمكن أن تبني نظاماً ديمقراطية لأنها بالأساس لا تؤمن بالديمقراطية إلا فقط لغرض الوصول إلى السلطة. وسيمضي وقت طويل، وسيخوض الشعب العراقي نضالا متواصلا، ويقدم التضحيات الجسام لكي يخرج من المحنة التي يعيش في ظلها اليوم، وينطلق في رحاب الديمقراطية.
حامد الحمداني
16/11/2008