وحدة قوى اليسار والعلمانية والليبرالية خطوة متأخرة في أول الطريق
منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وقوى اليسار والتقدم، بما فيها القوى العلمانية والليبرالية كانت هدفاً لكل الأنظمة الرجعية والقومية المتعصبة التي تعاقبت على الحكم في العراق، وبلغت ذروتها خلال الحقبة التي حكم فيها حزب البعث البلاد حتى سقوطه على يد الجيوش الأمريكية والبريطانية عام 2003، حيث كانت تتعرض باستمرار لحملات تلك الأنظمة، سواء كان ذلك عن طريق العنف الذي مارسته الدولة، أو من خلال القوانين والمراسيم التي تصدرها لتصفية الحقوق الديمقراطية والحريات العامة التي نص عليها الدستور، بغية كبح جماحها، ومحاولة إضعاف تأثيرها على مجريات الأحداث في الساحة العراقية، وتقرير مصائر الشعب والوطن.ومع شدة شراسة تلك الأنظمة في حربها ضد قوى اليسار والديمقراطية إلا أن هذه القوى استطاعت أن تتحدى السلطة الحاكمة في العهد الملكي، وإن تقود نضال الشعب من أجل حقوقه الديمقراطية، واستطاعت أن تهيمن على العمل السياسي في الشارع العراقي، ولاسيما عندما استطاعت هذه القوى تحقيق التعاون فيما بينها من خلال الجبهة الوطنية عام 1954 لخوض الانتخابات النيابية، وجبهة الاتحاد الوطني عام 1957، والتي استطاعت أن تحقق إنجازات كبرى في مجال التحرر والديمقراطية، وبلغت قمة تلك الإنجازات في ثورة الرابع عشر من تموز1958، حيث تمتع الشعب العراقي لأول مرة بالحرية والديمقراطية.
لكن ذلك التحول لم يدم طويلاً ، فقد انفرط عقد جبهة الاتحاد الوطني بين الأحزاب الوطنية ، وأخذت القوى القومية تتنصل من التزاماتها، وتتآمر على ثورة 14 تموز في محاولة للسطو على السلطة والاستئثار بها .
وزاد في الطين بله الانشقاق الذي حصل لقوى اليسار والديمقراطية والعلمانية بسبب تلك الأخطاء التي ارتكبتها سائر تلك القوى في تعاملها مع بعضها البعض من جهة، وأسلوب تعاملها مع قيادة الزعيم عبد الكريم قاسم من جهة أخرى، وكانت الطامة الكبرى في حمل القيادة الكردية آنذاك السلاح ضد السلطة، وتعاونها مع انقلابيي 8 شباط لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم، فكانت النتيجة تلك الكارثة التي حلت بالعراقيين جميعاً عرباً وأكراداً وسائر القوميات الأخرى.
ولاشك في أن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها الزعيم عبد الكريم قاسم نفسه، وتحوله نحو الحكم الفردي، ومحاولة استئثاره بالسلطة، وإطالة أمد فترة الانتقال، وإجراء انتخابات برلمانية، وتشريع دستور للبلاد، وزاد في الطين بله محاولته خلق التوازن بين القوى التي تآمرت على الثورة وعلى حياته ، وبين القوى التي دافعت عن الثورة، وحمت كيان الجمهورية وقيادتها، فكانت تلك الأخطاء وتلك السياسة هي التي مهدت السبيل لوقوع انقلاب 8 شباط الفاشي بقيادة القوى البعثية والقومية، والتي صفت كل مظاهر الحرية والديمقراطية في البلاد، وقمعت بكل وسائل العنف والوحشية قوى اليسار والديمقراطية، ثم التفتت نحو الحركة الكردية حيث خاضت معها تلك الحرب الشرسة ونكلت بالشعب الكردي أبشع تنكيل.
ولم يدم حكم البعث وشركائه القوميين سوى 9 اشهر حيث انتهت بانقلاب عسكري قاده عبد السلام عارف، لكن الحملة على القوى اليسارية والديمقراطية والعلمانية استمرت في عهده على الرغم من كون حدتها قد خفت نوعاً ما، واستمر الحال بعد مقتله في حادثة طائرة، حيث تولى السلطة من بعده شقيقه عبد الرحمن عارف، وتميزت فترة حكمه بالضعف.
وفي المقابل شهد الحزب الشيوعي نشاطاً واسعاً جداً، واستعاد دوره الكبير في الساحة السياسية رغم منع نشاطه الرسمي، لكن المؤسف أن يقع الانشقاق الذي قادة عزيز الحاج في صفوف الحزب، في 17 أيلول 1967 ، والذي استطاع سحب جانب كبير من رفاق وكوادر الحزب إلى جانبه، قد اضعف الحزب إلى حد كبير، وظل يعاني من نتائجه طويلاً على الرغم من اعتقال البعثيين لعزيز الحاج ومعظم قادة الحزب ـ القيادة المركزية ـ بعد عودتم إلى الحكم بانقلاب عسكري في 17 تموز 1968، حيث استشهد العديد من رفاق وكوادر الحزب، وترك العمل الحزبي أعداد كبيرة منهم بعد اليأس الذي أصابهم جراء اعترافات عزيز الحاج وبيتر يوسف.
واستطاع البعثيون جر الحزب الشيوعي ـ اللجنة المركزيةـ للتعاون، وصولاً إلى ما سمي بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية، والتي انتهت بكارثة أخرى حلت بالحزب على يد البعثيين بعد كارثة انقلاب 8 شباط الفاشي، واستمرت الحرب البعثية ضد الشيوعيين ، ومن ثم امتدت نحو كافة القوى الديمقراطية حتى وصلت حلفائهم القوميين.
واستمرت حالة التراجع والانكماش والضعف في صفوف القوى اليسارية والديمقراطية والعلمانية حتى وصلت إلى حافة التلاشي على عهد الجلاد صدام حسين الذي لم يبق أي اثر للنشاط الديمقراطي في العراق.
وجاءت حرب الخليج الثالثة التي قادتها الولايات المتحدة، والتي أسقطت نظام صدام وحزبه الفاشي عن السلطة، وعينت بريمر حاكما على العراق، وبدأت القوى السياسية في المهجر بالعودة إلى العراق لملئ الفراغ الحادث في السلطة، وكان للشيوعيين في أوائل أيام سقوط النظام دور فاعل ونشط إلى حد كبير، وكان من المؤمل أن يزداد ويتوسع ذلك النشاط، والعمل الجاد على لم سائر أجنحة القوى اليسارية والعلمانية والليبرالية في جبهة موحدة في محاولة لوقف المد الرجعي الذي قادته أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني، من أجل قيام نظام حكم ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان، ويعيد بناء العراق من جديد بعد الخراب الذي اصابه جراء حروب صدام العبثية، وجراء الحرب الاقتصادية التي شنتها الولايات المتحدة على شعب العراق باسم الحصار على نظام صدام، مما تسبب في انهيار البنية الاجتماعية العراقية بالإضافة إلى انهيار البنية الاقتصادية، والخدمات العامة الضرورية من ماء وكهرباء وصرف صحي ورعاية صحية وتعليمية.
لكن الولايات المتحدة لم يكُ في مشروعها إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي في العراق ، ولذلك نجدها قد احتضنت قوى الإسلام السياسي الشيعي والسني ، بالإضافة إلى الأحزاب القومية الكردية التي دخلت معها في تحالف متخلية عن حلفائها الحقيقيين لسنوات طويلة، وكان خلالها يعول الشيوعيون على هذين الحزبين الكرديين كركنٍ أساسي في الحركة الديمقراطية، لكنهما آثرا التحالف مع قوى الإسلام السياسي بعد أن وجدا أن تحقيق مصالحهما فيما دعي بالعراق الفيدرالي تتفق مع توجهات المجلس الأعلى بزعامة عبد العزيز الحكيم الهادفة لتمزيق العراق ، وتخلت عما كانت تدعيه من توجه ديمقراطي علماني.
وهكذا جاءت الدعوة الأخيرة من قبل الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي والعربي الاشتراكي، والعديد من الشخصيات الوطنية اليسارية والديمقراطية والعلمانية لإقامة جبهة وطنية جديدة بعد هذه المدة الطويلة التي مرت على سقوط نظام صدام ، وما حل بالشعب العراقي على أيدي هذه الأحزاب وميليشياتها المسلحة من حرب طائفية وخراب ودمار، وما حل بالمجتمع العراقي من قتل وعداء وكراهية وانتقام، ومن هجرة وتهجير جماعي طال الملايين من ابناء الشعب العراقي، مما لا يمكن تجاوز آثاره لأمد طويل.
إذا لقد جاءت الدعوة هذه متأخرة جداً، لكنها على أي حال خطوة أولى في الاتجاه الصحيح تتطلب جهداً كبيراً وعزماً أكيداً على مواصلة النضال من أجل قيام جبهة وطنية واسعة تضم كل القوى والعناصر المؤمنة بالديمقراطية والعلمانية والليبرالية.
ولا شك إن في مقدمة المهام الملقاة على عاتق الشيوعيين بشتى فصائلهم هو أن يجدوا سبيلاً لوحدتهم، فمن المحزن أن نجد على الساحة السياسية أكثر من عشرة أحزاب شيوعية، وعلى اقل تقدير فإن قيام نوع من التعاون والتنسيق كخطوة أولى نحو بناء حزب يضم الجميع.
كما أن من المحزن أن تتخلى الأحزاب القومية الكردية عن ديمقراطيتها وتتحالف مع أحزاب الإسلام السياسي، هذا التحالف الذي بدأ اليوم يشهد تفككه نتيجة العديد من الخلافات التي أخذت تظهر على السطح، فقد كان معروفاً سلفاً أن هذا الحلف مع قوى الإسلام السياسي هو موقف مصلحي لا علاقة له بالمصلحة الوطنية للعراق وشعبه، وليكن معلوماً أن العراق وطناً وشعباً هو الحاضنة التي يستظل بظلالها الشعب الكردي الشقيق تحت راية العراق الديمقراطي المتحرر، وأن قيام الجبهة الوطنية الديمقراطية الواسعة هي السبيل الأمثل لتحقيق أماني الشعب العراقي بكل قومياته وأديانه وطوائفه .