Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

وسائل الإعلام بين التنوير والتشويش

لطيف القصاب/
لم يعد سائغا في عالم اليوم طرح موضوع المفاضلة بين الاعلام الاحادي والمتعدد على طاولة النقاش، فقد انتهى الامر منذ امد بعيد الى تقرير حقيقة ان تعددية الاعلام هي الافضل لرقي الشعوب والمجتمعات الانسانية، وذلك على خلفية الخدمات الجليلة التي تقدمها التعددية الاعلامية للرأي العام بالمقارنة مع الاعلام الاحادي الذي يحاول قسر الجماهير عادة على النظر الى القضايا والاحداث عبر زاوية نظر منتقاة سياسيا.

ولكن هل ان مسالة تعدد وسائل الاعلام حققت مستويات وعي (سياسي) متقدمة بالنسبة للبلدان التي اعتمدت هذا الاسلوب ام ان ارتفاع الوعي السياسي ليس مرهونا بتحقيق شرط وجود بيئة تمنح المتلقي اكثر من زاوية نظر واحدة؟

للجواب على هذا التساؤل لابد من دراسة نموذج حي لبلد استبدل احادية الاعلام الصارمة باخرى متعددة، وقياس معدل الارتفاع او الانخفاض في مستوى الوعي السياسي العام، ولن يكون نموذجا اكثر يسرا من الحالة العراقية يمكن الاستفادة منها في هذا الصدد. فقد عاش العراقيون طيلة عقود كاملة تحت نير حكم مستبد، وكان من جملة ما اعتمده هذا النظام في السيطرة على حركة المجتمع هي وسائل الاعلام الرسمية التي مثلت بمجموعها ذراعا قويا استفاد منه النظام في تخدير الشعب وتنويمه تارة وتعبئته وتثويره تارة اخرى.

غير ان ذلك لم يكن ليعني ان الغالبية العظمى من العراقيين كانوا من البلاهة بحيث تنطلي عليهم حيل والاعيب النظام السابق، ولم يعدم جل العراقيين الوصول الى وسائل اعلام محظورة تعينهم على المقارنة العقلية بين الحقائق والاوهام، والتفلت من اسر الصندوق الذي كان يحاول الاطباق على عقولهم بشكل متواصل.

صحيح ان الحياة السياسية العلنية المعارضة للسلطات الحاكمة انذاك لم يكن مقدرا لها ان تصمد امام اجهزة القمع ولا حتى دقيقة واحدة، بيد ان الوعي السياسي الشعبي لم يكن في وقت من الاوقات وعيا معلبا جاهزا بدليل ان الغالبية العظمى من الشعب العراقي كشفت ظهر النظام عاريا امام القوات الامريكية في فترة سقوطه المهين يحدوها الى ذلك الصنيع مقاربة منطقية تفيد بانه لا يمكن ان يتعرض الشعب العراقي الى ما هو اسوأ مما كان عليه بالفعل، وذهبت ادراج الرياح كل جهود اجهزة الاعلام التي كانت تحاول مستميتة استدرار عطف الجماهير وحشد قواها خلف (قيادتها الحكيمة).

ومنذ ذلك التاريخ عاش العراقيون حقبة مختلفة كان طابعها الرئيسي الانفتاح الواسع لفضاءات الاعلام المكتوب والمسموع والمرئي على الفرد العراقي، فقد اصبح ديدن كل حزب او تجمع سياسي ان يوجد له مكانا في عالم الاعلام الرحب هذا.

غير ان اللافت للامر ان التعددية الاعلامية لم توسع افاق الوعي السياسي مثلما كان المرجو منها بل تحولت كثير من اجهزة الاعلام الوليدة الى مؤسسات تستهدف التشهير بالحقيقة لا الاشهار بها والى مقاه للثرثرة وبث المغالطات اكثر منها وسائل للإعلام ترمي الى نقل الوقائع مثلما هي على ارض الواقع، وبالتالي فان هذه الوسائل الإعلامية متباينة الاهواء والرؤى لم تسهم الا في التشويش على الوعي العام ما عدا اقل القليل منها.

قد يكون من المعقول تصور ان الهدف الذي تنشد تحقيقه بعض الأجهزة الإعلامية المرتبطة بالنظام السابق يكمن في هذا التشويش المتعمد نفسه من اجل حمل قطاعات من الجماهير على التفكير بفرضية ان الوضع الحالي هو اسوأ مما كانوا عليه في عهد النظام السابق وانه ليس بالامكان افضل مما كان وبالتالي ليس بالامكان الا العودة الى ما كان..، ولكن هل يصح تعميم هذا الهدف البائس على جميع أجهزة الإعلام؟.

من المفروض ان يكون عدد غير قليل من المؤسسات الصحفية المتواجدة حاليا في المشهد الإعلامي الراهن مالكة لطريقة تفكير مغايرة لسائر أجهزة الإعلام العراقية المحلية والخارجية المتعاطفة مع النظام الشمولي السابق، وبالتالي فان عليها تقع مسؤولية التنوير في مقابل التشويش لا الانجراف في موجة التشويش المغرضة.

ان الاختلاف على المناصب السياسية بين القوى السياسية في الفترة الحالية على سبيل المثال لايمكن ان يكون مسوغا مقبولا يبرر ما تقوم بفعله بعض اجهزة الاعلام المرتبطة باحزاب سياسية معروفة من محاولات اقناع للعراقيين بجدوى تدويل قضاياهم المحلية او تصوير بعض سكان البلاد على انهم ليسوا من اهلها.

اذا لم يكن من المناسب او الواقعي مطالبة المؤسسات الاعلامية العراقية بتوخي مبدأ الحياد الكامل في تغطياتها للاخبار والاحداث لكونها تستند الى مرجعيات فكرية مختلفة، فانه لا اقل من مطالبتها بانتهاج المهنية الاعلامية التي تحرم جعل الخبر الواحد اخبارا متعددة المعاني والدلالات، وان تقر بحقيقة الاختلاف السياسي بين العراقيين وان تحترم هذا الاختلاف وتسعى لبقائه في حدود التعايش السلمي بدلا من محاولات إلغائه الفاشلة.

واذا لم يكن بد من بيان الاختلاف سياسيا كان او اجتماعيا او نحو ذلك فليكن هذا البيان بشكل متحضر ينأى بالرسالة الإعلامية وحاملها من مغبة الوقوع فريسة لسوء التفكير والتعبير وبالتالي انعكاس هذا الامر على نسبة كبيرة من المتلقين ترديا في مستويات الإدراك والسلوك.

* مركز المستقبل للدراسات والبحوث

http://mcsr.net


Opinions