Skip to main content
أحياء في بغداد... ما زالت أسماء النساء تشيّد البنايات Facebook Twitter YouTube Telegram

أحياء في بغداد... ما زالت أسماء النساء تشيّد البنايات

المصدر: العربي الجديد

زيد سالم

يمثّل كثير من المباني والمناطق السكنية التجارية في بغداد، الإرث الثقافي والعمراني للعاصمة العراقية. وتصمد هذه الأحياء أمام تحديات البناء غير النظامي، الذي يصفه البغداديون بأنه فوضوي ويتسبب بتشويه صورة المدينة، بجمالها وأصالة الفنون المنثورة على عماراتها وشوارعها، ومثل هذه العمارات هي ما تحمل أسماء لنساء عراقيات أسهمن في إثراء المجتمع البغدادي، مثل سارة خاتون، وراغبة خاتون، وزمرد خاتون، وليلى خاتون.
والخاتون، هو لقب يطلق على السيدة التي تنتمي إلى نخبة المجتمع، أي إنها السيدة المهمة والمهذبة. الكلمة أصلها تركي، وانتشرت في عدد من الشعوب الإسلامية، وفي مقدمتها العربية والفارسية والأوردية، وكانت تطلق على زوجة الخليفة أو السلطان وأمه، وباقي الأميرات، وكذلك على زوجات الوزراء. لكنها حين انتشرت في العراق، أخذت معاني أوسع من ذلك، حتى باتت تطلق على زوجات الباشوات والأعيان ووجهاء المدن، إذ ظهرت في بغداد أعقاب العهد العباسي، على إثر احتكاك العرب بالأتراك، ومن تسمى بهذا الاسم زبيدة خاتون زوجة الخليفة هارون الرشيد وخاتون بنت بهاء الدين.
ولا تزال هذه الأسماء شاخصة في أهم العمارات المنتشرة في العاصمة، وتحديداً في أحياء الأعظمية والكرادة وكرادة مريم والمنصور والبتاوين والشورجة. وبرغم التغيير العمراني المستمر منذ سنوات بفعل التجار، ودخول أسماء غير تاريخية على العمران الجديد والمجمعات السكنية، التي ليس لها أي امتداد تاريخي، ومحاولات تغيير الأسماء القديمة، إلا أن أهالي بغداد يرفضون اعتماد أي أسماء غير تاريخية تمحي أصول المدينة العصرية، التي لا تزال عالقة في أذهانهم، حتى مع التراجع الكبير في مستوى الخدمات وهجرة كثير من أهلها الأصليين، وما تعانيه من مشاكل، مثل الزحامات الخانقة واستيلاء الأحزاب على شوارع وبنايات وانتشار مقار الفصائل المسلحة.
تحظى هذه البنايات بشهرة واسعة، حتى أن أهالي بغداد يعتمدون عليها كنقاط دالة، إذ لا يتم اعتماد أسماء الشوارع على الأغلب، بل يتم اعتماد أسماء العمارات، ما يعني أنها صارت جزءاً من ثقافة البغداديين. لكن قد تكون الأشهر هي عمارة ليلى خاتون في حي الكرادة، بجانب الرصافة في العاصمة العراقية.

أهالي بغداد يعتمدون على هذه البنايات كنقاط دالة

ليلى خاتون (1886 ـ 1967)، هي امرأة عراقية ذات نفوذ كبير، كانت تاجرة ولديها أملاك في معظم مناطق العراق، لكن سكنها وتجارتها كانت في ابغداد، ويُشار إلى أنها كانت تمتلك كثيرا من بساتين الكرادة والجادرية ومقترباتها، وصولاً إلى منطقة جسر ديالى التابعة لحي الزعفرانية. وبقية الخواتين في بغداد، لا يختلفن عن ليلى خاتون من ناحية النفوذ والأهمية في المجتمع البغدادي الذي كان يقدر وجود المرأة على جميع الأصعدة، ومنها التجارة والسياسة والفنون.
ويقول مازن عبد الله، وهو صاحب مقهى في حي الكرادة، إن "بغداد لا تزال تحافظ على أسماء الشخصيات البارزة فيها، سواءٌ من الرجال أو النساء، وتخليداً لهذه الشخصيات يتم إطلاقها على عمارة أو بناية أو شارع، ومن المعروف أن بغداد هي أكثر المدن العراقية التي تحمل هذه العناوين"، مشيراً بحديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن "ساحات وشوارع أيضاً حملت عناوين مثل محمد مهدي الجواهري ومعروف الرصافي والمتنبي وغيره".
وأضاف عبد الله (43 عاماً)، أن "مصطلح خاتون كان يستخدم في بغداد، وهو دارج لحد الآن مع قلة استخدامه، ويشير إلى النساء المهمات في المجتمع، ويدل على احترام البغداديين والعراقيين عامة للمرأة، ويعطونها مكانة مهمة، حتى أن إحدى البنايات السكنية في حي الكرادة تحمل اسم الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، رغم أن الشاعرة ليست من بغداد، لكنها حاضرة في ثقافة العراقيين ووجدانهم"، معتبراً أن "هذه الأسماء تحولت من أسماء عادية لبنايات إلى نقاط دالة على الطرق والمناطق والأحياء".

وتستذكر أم أحمد (59 عاما)، من حي الجادرية المطل على شاطئ دجلة، أن "هذه العمارات مرتبطة باسمها خواتين مهمة، كان لهن دور في البناء والتجارة والفنون في بغداد، بالتالي ليس من المعقول أن تمضي هذه الشخصيات من دون تخليد"، مشيرة في حديثٍها لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "عقب عام 2003 جرت محاولات لتغيير أسماء بعض البنايات، وبالفعل تم تغييرها، لكن أهالي بغداد لم يغيروها، فقط بقيت العمارات التي تحمل أسماء الخواتين على حالها، على ألسن الناس، وهذا يدل على أن تغيير أسماء الأشياء على الورق لا يعني تغييرها في الواقع".

أسماء البيانات والشوارع والأحياء تتبدل هي الأخرى، لكن التبديل لا يكون إلا على الورق

وأكملت أم أحمد أن "هؤلاء الخواتين، كما تروي الأمهات والجدات، كن مثار إعجاب لكل النساء، وكن من أهم نساء العراق، وتأثر بهن كثير من الشابات في الفترات الماضية"، موضحة أن "الوضع العام ونظرة المجتمع تجاه المرأة كانت متفتحة، على عكس الوضع الحالي، إذ تعاني المرأة من اضطهاد وتحجيم لأدوارها في الحياة العامة والعملية".
بدورها، لفتت الباحثة في شؤون التراث العراقي، ليلى السلامي، إلى أن "العراق يعد في طليعة الدول باختيار أسماء الشخصيات المحلية من النساء، لمحاولة إبرازها إلى الخارج أو التعريف بها وتخليدها، وهذا واضح بشكلٍ كبير في بغداد، وحتى محافظات مدنية أخرى، مثل نينوى وكركوك وبابل وغيرها"، مؤكدة لـ"العربي الجديد"، أنه من "الواضح أن أسماء الشخصيات من الرجال أكثر من النساء، لكن خواتين بغداد الراحلات لا تزال أسماؤهن رائدة في بغداد، ومتداولة، وما يثير الإعجاب أن الذاكرة العراقية ترفض أن تمحي هذه الأسماء، وليس فقط العراقيات، بل هناك بنايات في المناطق العريقة ببغداد، مثل الكفاح والشورجة، كعمارة لاميتا، التي يختلف الباحثون في هويتها، لكن المتفق عليه أنها ليست عراقية، بالتالي فإن ضيوف العراق كان يبدو لهم حضور في ذاكرة العراقيين".
وقد يكون العراق كغيره من الدول التي تتبدل فيها الحكومات بطرق غير سلمية، فإن أسماء البيانات والشوارع والأحياء تتبدل هي الأخرى، لكن التبديل لا يكون إلا على الورق، أما على مستوى التداول فإن الأحياء تبقى على حالها، لا  سيما بعد 1958، وما تلاها من تغييرات سياسية فرضت رأيها على مجمل الحياة بما فيها تغيير أسماء الشوارع والمناطق وحتى المدن.

Opinions