أشرطة تمجد الأحزمة الناسفة وسط العاصمة الأردنية ... انتعاش «اسواق الجهاديين» في عمان يوقظ هواجس الحكومة والقلق من تيارات التطرف
15/02/2006الحياة
في اسواق وسط عمان، وعلى وقع تزاحم الأقدام، تختلط أصوات المطربين الشباب، كنانسي عجرم وأليسا، مع قرع الطبول والمؤثرات الصوتية التي تصدر اصوات رصاص وانفجارات وأغانٍ تمجد المقاومة العراقية والفلسطينية.
على إيقاعات متضاربة، تعلو أصوات أغان تمجد «عقال صدّام حسين»، وأناشيد دينية تتغنّى بالجهاد، كما تنتشر أقراص مدمجة لخطباء، بعضها يدعو الى القتال، وبعضها الآخر ذو مضامين تكفيرية وكل هذه التسجيلات تعرض وسط كمية من السلع المتفاوتة الأغراض.
بسطات تعج بالكتب والمنشورات، وسلع أخرى من فئة «الممنوعات المرغوب بها»، تباع من تحت الطاولة، مثل كتاب «الفقه التكفيري» للداعية الأردني الفلسطيني الشيخ عبدالله عزام الذي جذب مئات الشباب العرب الى أفغانستان، لنصرة المجاهدين في بدايات الثمانينات من القرن الماضي ضد الاحتلال السوفياتي، قبل أن يقتل هناك في عملية تفجير استهدفت سيارته عام 1989.
في زاوية اخرى أشرطة وأفلام وكتب تحاكي غرائز اخرى، بعيداً من الرقابة أيضاً. لهذه البضاعة زبائنها يقول احد الباعة ويضيف ان هناك ايضاً زبائن لكتب ماغي فرح وكارمن.
ثمة أشرطة مصورة محظورة أمنيا تباع بدينار، الحصول عليها يجب ان يتم بحذر وبشكل شبه سري، وهي تظهر مشاهد دموية لعمليات ضد إسرائيل، تبنتها حركتا «حماس» و «الجهاد الإسلامي». مشاهد أخرى تصور عمليات مقاومة عراقية، كقطع رؤوس رهائن أجانب، ومعركة مدينة الفلوجة عام 2004، في قلب ما يعرف ب»مثلث المقاومة السنية» غرب بغداد.
الفيلم وسيلة دعائية لاستنهاض روح المقاومة يقول احد الباعة، وهو عبارة عن»إعادة منتجة ودبلجة» مشاهد تلفزيونية، تظهر وكأن الفيلم هو تصوير حي لوقائع المعركة... قافلة أميركية رصدتها أعين المقاومين العراقييين في طريقها إلى الفلوجة، فنصبوا كميناً لها وحاصروها في احد الشوارع الضيقة، ثم خاضوا مواجهات، استخدمت فيها مختلف الأسلحة، حتى قتل كامل أفراد القافلة.
على «بسطة» مجاورة تتناثر أشرطة صورت فيها جلسات محاكمة الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، التي بدأت قبل أكثر من سبعة اشهر، منسوخة من الفضائيات العربية.
لهذا المشهد وظيفة في إعادة انتاج التطرف بحسب ما يرى مثقفون أردنيون، ورجال سياسة مستقلون، وبعض المسؤولين ويعتبرون أن المعركة المقبلة ضد الفكر التكفيري، يجب أن تبدأ من «البؤرة»، من وسط البلد، حيث عوالم الكتب والأقراص المدمجة لم تتعرف بعد الى قوانين المطبوعات والنشر، ولم تصلها أنباء الملكية الفكرية، ولم تسمع بالإستراتيجية الشاملة لمحاربة الغلو والتطرف والتكفير، التي أطلقتها الدولة رسمياً بعد تفجيرات فنادق عمان الانتحارية يوم 9/11/2005.
ولعل أكثر ما يؤرق السلطات الأردنية تلك الجوانب التي تدخل في تكوين الثقافة الشعبية الدينية، من خلال «الكتب المطبوعة والمسموعة» التي تغزو السوق، بطرق شرعية، أو مهربة وتروج للفكر التكفيري، والتشدد والانغلاق.
وبحسب مسؤولين اردنيين، فإن أي تعامل مع هذا الملف الشائك يجب ألاّ يعمق الانطباع بأن الأردن يخوض معركة أميركا ضد الإرهاب. وعلى السلطات الأردنية أن تميز في سياق تعاملها مع هذا الملف بين تيار الإسلام المعتدل بقيادة حركة الإخوان المسلمين الواسعة النفوذ، وبين التكفيريين، وان تحمي حرية الرأي والمعتقدات الدينية التي كفلها الدستور، من دون أن يعني ذلك تشجيع ثقافة التحريض والتشدد السياسي والديني في بلد مسلم كان قدم نفسه لسنوات على أنه بلد الانفتاح والتعددية والاعتدال في العالم العربي، وأبرم اتفاق سلام مع إسرائيل، ويعتبر من أهم حلفاء أميركا في المنطقة.
تفجيرات فنادق عمان غير المسبوقة عزّزت مخاوف رسمية من الخلط الواضح بين مفهوم المقاومة المشروعة ضد الاحتلال، والعمليات الإرهابية. مجموعة القيم تتشكل بفعل الصراع العربي - الإسرائيلي واحتلال أميركا للعراق، محفزة بأجواء الإحباط، والفقر والبطالة، والفساد، وضعف الحريات.
استطلاعات الرأي العام في الأردن بعد تفجيرات الفنادق اشارت الى تراجع حاد في شعبية أبو مصعب الزرقاوي وتنظيم «القاعدة» الأم برئاسة أسامة بن لادن، لكن المخاوف لم تتراجع.
يمكن تلمس مشروعية هذه الاستنتاجات في اسواق الجهاديين في عمان التي لم تكسد سلعها تجاوباً مع ارقام استطلاعات الرأي. فعلى أحد هذه البسطات بجانب المسجد الحسيني العريق، عرضت مئات الكتب، غالبيتها حمل عناوين مثل «نهاية العالم»، و «اشراطة الساعة الكبرى والصغرى» و «عقوبة تارك الصلاة في الدين، جاحداً أو من المتكاسلين»، و «عذاب القبور»، و «الطريق إلى الجنة».
ويتلقف تلك الكتب، عدد كبير من الشباب ذوو الثقافة المحدودة من دون ان تتاح بدائل لكتاب مستنيرين. فالصرامة المعرفية «الفقهية» التي يتحدث بها مؤلفو بعض هذه النوعية من الكتب قادرة على خطف عقول القراء متوسطي الحال والمعرفة، فيختلط في وعيهم ما كان مختلطاً وملتبساً من قبل، بحسب عريب الرنتاوي وهو يساري وكاتب زاوية يومية جريء في صحيفة الدستور اليومية.
يعرض محل صغير عند زاوية في شارع متفرع من وسط عمان عشرات العناوين الغنائية لمنشدين عرب. يقول البائع الشاب أحمد، أن الجهات الرسمية منعت المحل قبل أكثر من سنة من بيع أشرطة فيديو أو أقراص مدمجة وحصرت البيع بالأشرطة السمعية. وهكذا توقف المحل عن عرض أشرطة فيها لقطات «عنف حول الانتفاضة في فلسطين، المقاومة، وصور الخراب والدمار، والحقوق الضائعة التي يريدون استرجاعها». وكثيراً ما يتعرض دكان أحمد الصغير إلى «كبسات»، وتفتح الأدراج، بحثاً عن الممنوعات. وعلى رغم ذلك، فإن المبيعات اليومية تصل إلى أكثر من 200 دينار (280 دولاراً)، وهو رقم جيد جداً مقارنة بالكساد في السوق.
ويقول أحمد ان «توجه الزبائن وغالبيتهم من الشباب والفتيات، يتمحور حول» الإسلاميات... الأناشيد الجهادية» لا سيما أن دكانه تخصص في تلك المبيعات، منذ أن «اهتدى صاحب المحل قبل أربع سنوات وتخلص من كل الأشرطة الموسيقية «الهشك بشك» التي كان يبيعها». ومن فئة الأغاني الوطنية الأكثر بيعاً في دكانه هذه الأيام «سي دي» اسمه «مهد الأجداد»، للشابة الفلسطينية ميس شلش، والمقيمة في الأردن. تغني ميس لفلسطين، وللموت في سبيل البلاد، وللمسجون. أما حقوق الطبع والتوزيع فمحفوظة لدى «تسجيلات عجاج للشريط الإسلامي».
على بسطة مجاورة، ومن خلال مكبر صوت قديم، تعالى صوت فريق الوعد للفن الفلسطيني، والبوم «أطياف الاستشهاد»، تمجد أناشيده الاستشهاديين في فلسطين، وتتغزل بالحزام الناري، وتدين الظلم المنتشر في كل مكان، وتشدد على تلبية نداء الجهاد، لنجدة القدس الشريف.
أما عشرات المكتبات الصغيرة، فتوفر عناوين أكثر تنوعاً وغناء معرفياً مما توفره البسطات، وتطال العلوم والقصة والأدب والنثر والتراث ومعظم مرتاديها من الطبقة الوسطى، ومنها مكتبة الطليعة، التي فتحت أبوابها أمام الجمهور قبل خمسين عاماً.
وقال صاحب مكتبة الطليعة، زياد ابو حسين، أن أكثر زبائنه من فئة ما فوق الـ25 عاماً، ويعرض كل أنواع الكتب، والأفكار ونقيضها، فمثلاً، «عندي احدث الأعمال الإشكالية، كرواية «بنات الرياض» للسعودية رجاء عبدالله الصانع، و «شيفرة دافنشي» مترجم إلى العربية، لمؤلفه دان براون، و «لا عذاب في القبر»، لجواد عفانه، و «العقل، والسلفية، والحرية» ليسرى حسين».
وأضاف: «لكن ومنذ حرب الخليج الثانية، أصبح هناك إقبال أكثر على الكتب الدينية، التي تتحدث عن زوال إسرائيل، والتنبؤات، وزلزال نهاية العالم، وكتب أخرى تتوقع ما سيحدث آخر الزمان، وتعطي دلائل على ذلك».
فوق مدخل المكتبة الصغيرة والمكتظة، تطل على الزبائن لوحة كرتونية مكتوب عليها بخط اليد فلسفة الإدارة: «نصف الكتب لا تنشر، ونصف الكتب التي تنشر لا تباع، ونصف الكتب التي تباع لا تقرأ، ونصف الكتب التي تقرأ لا تفهم، ونصف الكتب التي تفهم، يساء فهمها».
كشك حسن أبو علي القريب من المكتبة، يبدو أكثر تخصصاً في الكتب الفكرية والرواية، وشعر أمين معلوف ونزار قباني. والى جانبه، محل لبيع تسجيلات موسيقية متنوعة، تجمع بين عالم نانسي عجرم وأغانيها، والمصري عمرو دياب، بأشرطة لدعاة مثل مشاري راشد من الكويت، وسامي يوسف، وهو مسلم بريطاني من أصول باكستانية.
الحكومة الأردنية التي أختارها الملك عبدالله بعد التفجيرات، برئاسة الدكتور معروف البخيت مكلفة بشن حرب «بلا هوادة» على الفكر التكفيري، وسن قانون احترازي لمنع الإرهاب، وتعميق مفاهيم «رسالة عمان» التي أطلقها العاهل الهاشمي قبل أكثر من عام، لإعادة تأكيد مفهوم الإسلام المعتدل، ولعزل التطرف، وتأكيد التعاليم المشتركة.
هذه المفاهيم أصبحت أساس تحرك الدولة، من خلال خطة لإعادة تأهيل الأئمة والوعاظ، وتكريس «رسالة عمان» من خلال الخطاب الديني داخل أكثر من 3 آلاف مسجد، ومن خلال المدارس والجامعات والإعلام، عبر خطة ثلاثية للتنمية الثقافية التنويرية، ستنطلق قريباً، وترتكز الى مفهوم الثقافة بأبعادها الإسلامية، وتوفير البيئة الملائمة للإبداع الثقافي التعددي في ظل انفتاح سياسي واقتصادي.
وقال مسؤول اردني كبير لـ «الحياة» إن الحكومة تسعي جاهدة «لمحاربة الفكر المنغلق الذي تسلل إلينا مع عناصر قليلة عادت من أفغانستان، تحمل ايديولوجيا تؤمن بتكفير الآخر، وإستراتيجيتنا قائمة على فكر مقابل فكر، وكلمة مقابل كلمة، من خلال المساجد، والنظام التعليمي، والإعلامي، والفيصل بيننا هو ما ورد في رسالة عمان، لكي نوسع التحالف المجتمعي، ونحاصر هذه الفئة».
نشر الفكر الديني والثقافي التنويري يحتاج الى وقت طويل، ليعطي النتائج المرجوة بحسب المسؤول الأردني. لكن الدولة في عجلة، نظراً الى المخاطر الملحة التي يفترضها تفشي الأفكار التكفيرية. مسجد الحسين في عمان
الحكومة، ممثلة بوزير الثقافة عادل الطويسي، انهت صوغ الخطة الثلاثية للتنمية الثقافية، لنشر ثقافة «الوسطية والاعتدال والتسامح». ويقول الوزير ان من ابرز ملامح الخطة، برنامج وطني لتنمية الحوار بين الشباب، والجيل الجديد، يهدف الى «نشر الوعي المجتمعي لخطورة ثقافة العنف، من خلال تشجيع التشاور، وتنمية مهارات الاتصال والحوار وقبول الرأي والرأي الآخر داخل المؤسسات التي ترعى الشباب» من مدارس وجامعات ونوادي اجتماعية، وكشافة.
وأضاف الطويسي لـ «الحياة» أن الإستراتيجية الجديدة تهدف إلى محاربة «نزعات اليأس وفقدان الأمل، التي تسهم في انتشار حالات رفض الأخر، والتطرف والمغالاة، ونشر الوعي بأهمية ثقافة الحوار، بين أطراف المجتمع الواحد، وداخل المجتمع، وعبر المجتمع نفسه، وجدوى ثقافة الحوار بين الثقافات، واحترام خصوصية الذات وخصوصيات الآخرين».
وتتضمن آليات التنفيذ إصدار سلسلة من الكتب المجانية «الموجهة إلى الأسرة الاردنية»، تعنى بثقافة الحوار، وتشجع الجامعات والإعلام والصحف على تبني مبادرات لتعزيز هذه الثقافة وتجذيرها لدى طلبة الجامعات، والرأي العام، وتأسيس نواد لثقافة الحوار داخل الجامعات، وإصدار ملاحق صحافية شهرية.