Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

أنظمة قيد الترحيل

29 كانون الثاني 2011
قيل بأنه يمكن خداع بعض الناس كل الوقت، أو كل الناس بعض الوقت، ولكن لا يمكن خداع كل الناس كل الوقت!!!
هذه مقولة علمنا إياها تاريخ البشرية الحافل بالعبر. فلابد في النهاية أن تنتفض الشعوب لتثأر لكرامتها المهدورة وتستعيد حريتها المسلوبة من أنظمة وحكام اعتقدوا أن بإمكانهم خداع شعوبهم كل الوقت الذي قسمه لهم الخالق في هذه الحياة ولا يسلموا السلطة من بعدهم (وأعمارهم ماشاء الله طويلة) إلا لأبنائهم سواء بوصية أو بدون وصية. فقوانيننا تنص أن لا وصية لوارث. وهؤلاء (الورثة) قسَّم الله لهم السلطة بمن فيها وما فيها. ومنحهم حق التصرف، كما كانوا يظنون، وربما مازالوا، بالوطن وبكل ما تحرك وما سكن على أرضه وهوائه وما كمن في باطنه، حقاً مشروعاً وفق قوانينهم التي سنوها على مقاسهم لتديم لهم التحكم برقاب الناس ومساومتهم على لقمة عيشهم التي باتت الهم الأكبر للأغلبية الساحقة من هذه الشعوب المستكينة، إلى أن تستفيق. وها قد استفاقت.
كانت البداية في تونس. وهاهو بن علي وأفراد عائلته يبحثون عن ملجأ يحميهم من قصاص حكم شعبهم الآتي لامحالة. واليوم تثور مصر بملايينها المقهورة لتقول كلمتها. وما على مبارك إلا الرضوخ لإرادة الشعب. ولا أحد يستطيع أن يوقف الانتفاضة القادمة لشعب سورية الذي يستحق أفضل بكثير مما قدر له أن يناله طوال نصف قرن ونيِّف من القهر والظلم والمهانة. فالعيون شاخصة إلى يوم الغضب السوري الآتي، وهناك بارقة أمل لا بل أمل كبير بعد تجارب اليوم والأمس الناجحة بكل المقاييس. لقد حانت ساعة الحقيقة، وانجلى قناع الزيف والكذب والخداع لأنظمة وحكام لم يكن همهم إلا المحافظة على عروشهم الوثيرة بادعاءات وشعارات براقة ملتها الجماهير وقرفت من تردادها الحناجر المأجورة طوال عقود من الرياء والشحن الكاذب والتهييج الدائم للعواطف، واللعب المستمر بمقدرات الناس ومصائرهم. ذلك كله في ظل تراجع دائم ومستديم للأوطان على كل صعيد. في الوقت ذاته كانت المليارات تتكدس في أرصدة الأخوة والأبناء والأقرباء ممن سمح لهم أن يغدوا بين ليلة وضحاها من أصحاب المليارات في مشاريع وشركات صورية قامت على السلب والنهب وسرقة خيرات الوطن وثرواته ليفتقر الشعب إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية. وبين أولئك بعد الكثير من المتطلعين إلى الوراثة (بعد طول بقاء القائد) ليستمر كابوس القهر إلى أن يقدر الله للشعب أن ينتفض. إذَّاك، وكما عاينا وشهدنا، لن يجرؤ أي مسؤول أو قائد أمني أو عسكري على إعطاء أمر بإطلاق النار على الجماهير حين تنزل إلى الشوارع بصدورها العارية إلا من بؤسها وقهرها الذي تدرَّعت به لمواجهة الطغيان. فمشاهد العناق الحية التي شاهدناها بين أفراد الجيش وأبناء الشعب المنتفض في شوارع مدن تونس ومصر لها أكثر من دلالة ومغزى. ومن يجرؤ على التكهن بغير ذلك في سورية أو غيرها من البلدان العربية الأخرى حين يهب الشعب للدفاع عن حقه في الحياة؟
لقد تبدل الزمن وتغيرت الظروف المحلية والدولية. ولم يعد بإمكان أية سلطة أو نظام إخفاء الحقائق وخنق الأصوات المطالبة بالحرية في ظل التطورات الهائلة والمتسارعة لوسائل الاتصال الحديثة القادرة على نقل الصورة حية ومباشرة إلى جميع أنحاء العالم. ومهما حاولت أنظمة القمع التعتيم على الأحداث وكم الأفواه بالعنف الذي بات وسيلتها الوحيدة لمحاولة السيطرة على الأمور، فإن مسار الشعوب نحو مستقبلها الذي ستختاره بنفسها لن يتوقف. كما لن تتوقف صيحات المطالبة بحرية الشعب وحقه في تقرير مصيره وتحديد مستقبله بنفسه دون وصاية من أي حاكم مهما تصخمت وتورمت عبارات الوصف بمناقبه الحميدة وحكمته العميقة وسياساته الرشيدة وبعد نظرته. فهذه كلها ليست إلا تملقاً ومداهنة وتعظيم لشخص ليس سوى فرداً من هذا الشعب ولا يتميز عن الأفراد الآخرين إلا بصدق وطنيته التي خبرها الناس جيداً من خلال الأوضاع المزرية التي وجد المواطن نفسه فيها بعد عشرات السنين من حكم الحزب الواحد والحاكم الأوحد والشعارات الزائفة التي زرعت حتى في غرف نوم ذلك المواطن، إن توفرت له غرفة ينام فيها بعد كوابيس واقع يوم آخر في حياته.
هل يعقل أن يكون نصف الحكام العرب في الحكم منذ أكثر من ثلاثين عاماً والنصف الآخر في طريقه إلى ذلك؟ هذا في الوقت الذي يجري العمل وبشكل دؤوب في تهيئة الوريث أو الورثة المحتملين للمرحلة اللاحقة والتي لاتختلف في شيء عما سبقها إلا في الاسم الأول للزعيم؟ وهل هي مصادفة أن لايتم إي انتقال سلمي للسلطة في أي بلد عربي منذ عقود رغم الانتخابات الشكلية التي يعلن عنها بين الحين والآخر؟ هذا إذا اتيحت الفرصة لأي مرشح آخر لترشيح نفسه، غير مرشح الحزب الحاكم الذي هو الرئيس الحالي بالطبع!!!
وفي بلد كسورية لم تكتحل عيون السوريين منذ أربعين عاماً برؤية مرشح منافس ولو بشكل صوري، أو سماعهم باسم آخر سوى اسم الأسد. فهل عقمت أرحام السوريات طوال هذه العقود في إنجاب من هو أهل لتحمل المسؤولية الوطنية؟ وهناك أجيال قامت في سورية كما في ليبيا ومصر وتونس واليمن والسودان، والعراق حتى أمد قريب، إذا استثنينا الملكيات والإمارات، لم تسمع ولم تعرف ولم تختبر غير اسم واحد وقائد فذ واحد.
في سورية كما في غيرها، تتطلع العيون الآن وتخفق القلوب لليوم الموعود بتحقيق أماني الشعب بكل مكوناته وتياراته وقومياته بالحرية والديمقراطية لوطن باسم مشرق بعد أن يكون قد رحَّل ما تبقى من أنظمة البؤس وحكام الزيف والرياء. ولن تفيدها إجراءات الترقيع هنا أو هناك أو محاولة رشوة الشعب بمنحة أو زيادة لامتصاص نقمته تحت تأثير الهيجان العام والثورة التي تغلي في النفوس. لقد فات الأوان والشعب أكبر من تثنيه عن حقوقه رشوة أو (مكرمة) من مكرمات القائد التي يمن بها على رعاياه كمحاولة من محاولات الالتفاف على الواقع. لقد حزمت الشعوب أمرها وأدركت مصيرها ولا سبيل إلى النكوص عما عزمت عليه.
وإلى أن يتم ذلك علينا أن نبرهن بأننا شعوب أكثر تمدناً وحضارة ورقياً ووطنية وتميزاً بالروح الديمقراطية والقيم الإنسانية من كل الحكام والأنظمة التي خبرناها ولم نخترها بإرادتنا. وعليه علينا أن نتصرف من هذا المنطلق بوحي المسؤولية الوطنية وبرفض أشكال العنف وأعمال الإجرام والنهب التي تسيء إلى المبادئ التي نسعى لتحقيقها وإلى سمعة وصورة التغيير الذي ننشده باعتباره البديل الأفضل لحالة الفساد والظلم والديكتاتوريات القائمة. علينا أن نثبت بأن العراق لم يكن كما لم يكن الصومال المثال الصحيح والمعبر الأفضل عن تطلعات شعوب قاست وظلمت وعانت وامتهنت كرامتها وهي الآن قادرة على تقديم النموذج الأفضل بسلوكها الحضاري المتمدن حتى تجاه جلاديها.
بهذا السلوك وحده يمكننا جعل التغيير ممكناً وسلساً دون عنف وإراقة دماء تكون في الغالب لأبرياء. وهو السبيل الأنجع والأفضل لترحيل هذه الأنظمة إلى مآلها الأخير وامتلاك شعوبنا لمستقبلها بيدها. وإلى أن يتم ذلك ستبقى هذه الأنظمة قيد الترحيل.
Opinions