الأحزاب السياسية ومعايير المفاضلة
جميل عودة/ابتداء من نهاية الشهر الرابع من عام 2003، وحتى نهايات 2005، تجمع مئات الآلاف من العراقيين على أبواب مكاتب الأحزاب السياسية، طالبين الانضمام إلى تلك الأحزاب والمنظمات كأعضاء جدد، بينما أعاد العشرات انتمائهم السياسي للأحزاب التي كانوا يوما ما أعضاء فيها؛ إلا أنهم أنفضوا عنها بسبب الخوف من بطش سلطات النظام السابق.
نحو سنتين، عاشت أحزاب المعارضة العراقية، وأحزاب أخرى تشكلت بعد زوال نظام صدام وحزب البعث لحظات تاريخية استثنائية في تاريخ العراق السياسي، بالنظر إلى الحريات السياسية الواسعة التي يعيشها العراقيون منذ 2003...
يقول أحد القيادات السياسية المعارضة" كنت واحدا ممن استقبل مئات المواطنين من الشباب العراقي في موقع منظمة من المنظمات السياسية المعارضة، حال عودتها من المنفى، وكان غالبية الزائرين يطلبون أن ينتموا لهذه المنظمة، وأن يصبحوا أعضاء فيها، وأن تكون لهم مكاتب فرعية في محال سكناهم ليتمكنوا من كسب ود مواطنيهم هناك".
ويضيف هذا القيادي " في حينها، لم يغب عن ذهني، أن اسأل بعضهم عن سبب طلب انتمائهم إلى حركتنا السياسية، والإجابات كانت متفاوتة؛ فبعضهم كان معجبا بتاريخ المنظمة ومقاومتها للنظام البائد، وبعضهم قرأ كتيب عن نشاطاتها السياسية؛ فيريد أن يكون أحد أعضاءها، وبعضهم ممن يؤمن بوجود المرجعية الدينية على رأس التنظيم السياسي، فرأى في المنظمة بغيته، وبعضهم ممن ينتمي أحد أقرابه للمنظمة ويريد هو الأخر أن يكون عضوا فيها، وبعضهم كان صريحا، وقال: إنه ينتمي للمنظمة لحماية نفسه من الآخرين في ظل فوضى القانون وضعف النظام، وبعضهم يطلب الانتماء للحصول على عمل ووظيفة جيدة؛ فمن لم يكن منتميا إلى حزب سياسي لا يحصل على وظيفة، وبعضهم يطلب هوية لكي يتباهى بها أمام الآخرين.."
الملفت للنظر؛ أنه رغم تصاعد أرقام قائمة الأحزاب السياسية العراقية، سواء الدينية منها أو العلمانية، لكن مؤشر رصيدها الجماهيري بدأ يتراجع على نحو مخيف في غضون السنوات الأخيرة، وأن الإصلاحات التي يحاول إجراءها بعض القيادات السياسية، كتغيير أسماء أحزابها وبرامجها وشعاراتها، ومثل ضم دماء جديدة لقياداتها المخضرمة، وتكوين الائتلافات والتحالفات السياسية، لم تصمد كثيرا أمام امتعاض الجماهير العراقية ورفضها المتزايد.
على العموم، يبدو أن بعض هذه الأسباب التي ذكرها هذا القيادي -من واقع تجربته- هي التي جعلت أكثرية المواطنين يطلبون الانتماء إلى الأحزاب والمنظمات السياسية الأخرى، وهي ذاتها التي جعلتهم يبتعدون عنها شيئا فشيئا، فمن نال مطلبه استغنى، ومن عجز عنه طلبه في مكان آخر.
إلا أنه ليس كل من انتمى إلى حزب سياسي يريد أن يحصل من انتمائه على مكسب سياسي شخصي، وليس كل من ترك العمل السياسي تركه لأنه لم يحصل على أهدافه الذاتية. وأيضا ليس كل من لم ينتم للأحزاب العراقية يعني هو رافض لها؛ فأكثرية العراقيين لا يفضلون أن يعملوا في صفوف الأحزاب السياسية، ولكنهم يصرون على المشاركة في العمل السياسي، ويشتركون في اختيار مسئوليهم في الدولة الوطنية، والانتخابات التي أجريت على المستويين الوطني والمحلي، بعد 2003، أكدت أن العراقيين يراقبون عن كثب حركة الأحزاب العراقية، ويمكن أن يفضلوا كتلة سياسية على كتلة أخرى، ويمكن أن يختاروا شخصية سياسية على شخصية سياسية أخرى، وليس بالضرورة أن تكون تلك الشخصية متدينة أو متعلمنة، مذهبية أو غير مذهبية، عنصرية أو غير عنصرية.
وبالتالي، فان الواضح لدى المراقبين السياسيين أن قبول أو رفض هذا الحزب السياسي أو تلك الكتلة السياسية بدأ عند العراقيين يتخذ تدريجيا منحا آخر أقرب إلى المنحى الذي تسير عليه الدول المتقدمة ديمقراطيا. فاهتمام المواطنين العراقيين بشؤون السياسة والسلطة، ومتابعاتهم المستمرة لنشاطات وفعاليات السياسيين من خلال وسائل الأعلام الحرة والكثيرة في العراق أتاح فرصة واسعة أمام العراقيين للتمييز بين الكيانات السياسية، وتفضيل بعضها على بعض.
والسؤال ما هو المعيار الذي اعتمده العراقيون في الآونة الأخيرة في المقارنة والتفضيل السياسي، والذي من المرجح أن يعتمدوه في السنوات القادمة كأساس للمفاضلة بين الأحزاب السياسية العاملة في الساحة العراقية؟
أعتقد أن المشكلة الحقيقية وراء نفور الناس من بعض الأحزاب السياسية العراقية لا تكمن فقط في النقاط التي ذكرها القيادي، وإنما هناك مشكلة كبيرة تتعلق بطريقة تعامل بعض الأحزاب السياسية العراقية مع الجمهور العراقي، والمتأمل، يرى بوضوح أنها كانت السبب الحقيقي وراء نفور الناس من الأحزاب وابتعادها عنها، وهي عدم قدرة بعض هذه الأحزاب على إثبات صدق تعاملها وجديتها في وعودها وتحقيق مصالح أنصارها.
وبالتالي، أتصور أن معيار "الروحانية" هو معيار المفاضلة السياسية للمرحلة القادمة، ولا نعني بالروحانية انتماء الحزب السياسي لهذا الدين أو لهذا المذهب، ولا هذا إسلامي وذلك علماني، ولا هذا حزب قديم وذاك حزب جديد، ولا هذا قادم من الخارج وذاك من الداخل، بل، نعني بـ"الروحانية السياسية" اتصاف الحزب السياسي بثلاث صفات؛ وهي، شمولية الخطاب السياسي، وواقعية الخطاب السياسي، وصدق تنفيذ مفردات الخطاب السياسي.
لهذا أكد الإمام السيد محمد الشيرازي "رحمه الله" على أن "للأحزاب السياسية برامج في إصلاح إدارة الحكم وجهاز الدولة وتوفير الرفاهية.. ولا يخفى أن الإصلاح الذي يبرمجه الحزب لا يكون قفزيا؛ إذ القفر العالي يوجب السقوط والانكسار غالبا، بل، ينظم الحزب برامجه في جداول زمنية معقولة لتسير بالأمة صعدا ولحل المشاكل بأسلوب معقول..
ولذا يحتاج الحزب إلى جيش من المثقفين والخبراء والفنيين من مختلف قطاعات الثقافة، سواء قبل وصوله إلى الحكم أو بعد وصوله إلى الحكم.. وإلا لم يتمكن الحزب من اكتساب الجماهير الذين فهم المثقف والعالم والخبير وما إلى ذلك ممن يميز بين الشعار والواقع. كما أن الحزب إذا وصل إلى الحكم ولم يقدر على تنفيذ ما وعد به سقط عن الاعتبار".
وبالتالي، فإذا تمكن أي شخص سياسي أو حزب سياسي أو تكتل سياسي، بصرف النظر عن تاريخه، أو انتمائه، أو اسمه، أو شعاراته وأهدافه، أن يتحلى بهذه الصفات الثلاثة، سيكون حظه أوفر من حظ الآخرين في الوصول إلى سدة الحكم وتحقيق برنامجه السياسي أيا كان. وإذا ما اعتمد العراقيون معيار "روحانية الحزب" بهذا المعنى، فأنهم بلا شك سيطوون مرحلة، وسيبدءون مرحلة جديدة.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com