Skip to main content
Facebook Twitter YouTube Telegram

الأشوريون ومسألتهم في العراق

لا تلقي المسالة الاشورية اهتماما يذكر مقارنة بشكلات الاقليات العرقية الاخرى في العراق مع ان المرحلة الراهنة (منذ نهاية حرب الخليج 1991) تعد مرحلة موسمية خصيبة لمختلف الاقليات في العراق لفتح الملفات وطرح الخاصة منها او المشتركة.

ويرجع هذا التواري النسبي للمسألة الاشورية الى عدد من الاسباب، منها ضآلة حجم الاقلية الاشورية، وحساسية العلاقة بينها وبين الاقلية الكردية، تلك الحساسية المفرطة الناشئة عن وحدة الجغرافيا التي يقيمون عليها، ووجود عداء تقليدي مترسب منذ زمن بعيد بين الجانبين، واخيراً الحذر والتحفظ الذي بات يطبع الحركة السياسية الاشورية في طرح قضيتها وهو الحذر الذي تعلمته بعد التجارب الدامية التي مرت بها الاقلية خلال هذا القرن، وكلفها تضحيات جسيمة لم تبرأ من اثارها الأليمة.

مع ذلك فالمسالة الاشورية احدى المسائل التي تتشكل منها الازمة العراقية الوطنية. والاشوريون عنصر اساسي من عناصر الشعب العراقي لا يمكن انكاره، وحركتهم السياسية تشارك في جميع نشاطات المعارضة العراقية منذ عامين.

فما هي طبيعة المسألة الأشورية؟

وما هي ظروفها الداخلية والخارجية؟

وما هو موقعها على الخريطة الحالية للمعارضة العراقية؟



في التأريخ

الأشوريون ( او الأثوريون ) احد اقدم الشعوب السامية التي عاشت في العراق منذ الالف الرابع قبل الميلاد،شأنهم شأن اشقائهم الاراميين والكلدانيين، او جيرانهم السومريين والبابليين وسواهم... وقد اقاموا دولة مستقلة منذ عهد سحيق، في شمال العراق، كانت عاصمتهم اشور، واستمرت نحو الفي سنة، وتوسعت في بعض الفترات حتى امتدت من ايران الى مصر حالياً ومن ابرز ملوكهم القدماء اشور ناسربال (884-860ق.م.) وشلمنصر الثاني (860-825ق.م.) وأسرحدون الذي وصلت قواته الى جنوب لبنان وشواطئ سورية(680-669 ق.م.) واشور بانيبعل الذي بلغت الدوله في عهده اوج ازدهارها وحضارتها (669-633ق.م.).

انهارت الدولة الاشورية عام 605ق.م. على ايدي البابليين والميديين، غير ان الاشوريين حافظوا على وجودهم في مدنهم واراضيهم كما حافضوا على تقاليدهم المميزة، خاصة لغتهم التي ما زالوا ينطقون بها حتى اليوم، وهي تعود في اصولها الى مزيج من اللغات الاشورية والآرامية والبابلية القديمة. وهم يدينون في استمرارهم الى مناعة جبال شمال العراق التي احتموا بها مئات السنين وامتنعوا عن الاختلاط والتزاوج مع الشعوب التي غزت بلادهم في موجات متعاقبة.

وفي القرن الاول الميلادي سارع الاشوريون الى اعتناق المسيحية على ايدي رسل القديس توما. ومنذ ذلك الوقت ارتبط تاريخهم بتاريخ المسيحية. وفي مطلع القرن الخامس برز منهم البطريرك نسطور الذي عارض فكرة الوهة المسيح وقال انه ذو طبيعة مزدوجة. وعلى رغم ان نسطور عوقب ونفي الى ليبيا من قبل الرومان فان الاشوريين تمسكوا بمذهبه واصبح هذا المذهب صفة قومية لصيقة بهم كالصفة الاشورية سيما ان قيادتهم الزمنية والدينية اتحدت دائماً في شخص البطريرك ولم يعرفوا الفصل بين الدين والدنيا، او بين الكنيسة والسياسة، وقد ادى ذلك الى مضاعفة الاضطهاد الذي تعرضوا له سواء من الفرس او الرومان او سواهم .

ومع بداية الدعوة الاسلامية، ذهب وفد رفيع منهم الى الرسول(ص) وعادوا بصك امان وقع عليه عدد كبير من الصحابة. وحين بدأ الفتح العربي للعراق قدم الاشوريون المساندة للفاتحين وتعاونوا معهم لاحقاً تعاوناً واسعاً وساهموا في عهود الحضارة العربية مساهمة مهمة في ادارة ادولة وفي ثقافتها، سيما في مجال ترجمة العلوم والفنون عن اللغلت الاجنبية التي كانوا يتقنونها بفضل صلاتهم العريقة مع الشعوب المجاورة.

وفي فترات عارضة تعرض الاشوريون للاضطهاد فهاجر قسم كبير منهم الى انحاء متفرقة، ولا سيما الى الشرق والشمال (الصين، اذربيجان، روسيا...)وشارك الذين حلوا في الصين بالغزو المغولي للعراق والشرق الاوسط وزودوا الفاتحين المغول بالمعلومات عن البلاد التي هاجموها.

اما في الحقبة العثمانية فقد اضطربت علاقتهم بالدولة بشدة فاتجهوا الى طلب المساندة والحماية من الدول الاوربية خصوصاً في القرنين الاخيرين حين ازداد نفوذ هذه الدول في السياسة العثمانية ، مما ادى الى اعتراف اسطنبول بهم عام 1845 كملَّة مستقلة من الملل العثمانية. لكن الاشوريين سرعان ما اصطدموا بالمبعوثين والمبشرين الدينين الاوروبيين الذن جاؤوا ينشرون الكاثوليكية بينهم، وقاوموهم بعنف محافظين على استقلاليتهم الدينية التى تتماهى فيها ثقافتهم وهويتهم القومية، ولم يعتنق المذاهب الغربية سوى عدد قليل منهم. لكنهم اقاموا علاقات وطيدة مع مختلف الشعوب الغربية ولاسيما الامريكية، خلال هذا القرن.



القرن العشرين

ابان الحرب العالمية الاولى ثار الاشوريون على الاتراك وقاتلوا بضراوة على امل ان تمنحهم الدول الاوربية المتحالفة بعد هزيمة تركيا (والمانيا) حق تقرير المصير وتسمح لهم بتأسيس وطن قومي ، خصوصاً ان الروس والانكليز دغدغوا هذه الاماني في نفوسهم. غير ان الاحداث لم تسفر سوى عن مأساة فقد تراجعت الدول الاوربية بعد الحرب عن تعهداتها الغامضة لهم واكتفت بمناقشة قضيتهم مراراً وتكراراً في عصبة الامم وطالبت الدول التي يعيشون فيها بمنحهم حقوقهم الثقافية.

الا ان تركيا عاقبتهم بقسوة على خيانتهم لها في الحرب، فنزح عشرات الالوف منهم وانضموا الى اخوانهم في العراق، وقامت ايران ايضاً باضطهادهم وتهجيرهم، فتجمع العدد الاكبر منهم في العراق وسوريا، واقامت بريطانيا لهم معسكرات تحت حمايتها باشراف عصبة الامم تشبه الى حد ما المعسكرات التي تقيمها الدول الغربية حالياً لاكراد العراق.

وواصل الاشوريون محاولاتهم الرامية الى انتزاع دعم الدول الاوربية لاقامة "دولة" في شمال العراق لكن الانكليز الذين كانوا يحتلون العراق استغلوهم لمصالحهم، فشكلوا منهم "كتائب عسكرية" اعتمدوا عليها في قمع الانتفاضة الوطنية للاكراد والعرب مما احدث جرحاً عميقاً في العلاقات بين العناصر الثلاثة نتج عنه قيام الاكراد والعرب لاحقاً بالانتقام منهم في معارك ضارية اخذت طابع المذابح الجماعية واسفرت عن فرار عشرات الالوف منهم الى سوريا وقيام الحكومة العراقية بفرض الاقامة الجبرية على زعيمهم السياسي والروحي البطريرك مار شمعون في بغداد، قبل ان تجرده من جنسيته وتسمح له بالهجرة الى امريكا.

وطوال ثلاثين سنة استمر النزاع والاقتتال بين الاكراد والاشوريين خصوصاً بعد ان عزز الاكراد ثورتهم المسلحة، نظراً الى ان النزاع بين الجانبين بات يدور حول ارض واحدة يعتبرها كل منهما ارضاً قومية له يسعى لاقامة كيان سياسي عليها. ودمغ الاشوريون بالعمالة للاستعمار الاجنبي.

وقد تكررت المحنة في سوريا، حيث استقبلت سلطة الانتداب الفرنسي عشرين الفاً منهم بعد نزوحهم من تركيا والعراق ووطنتهم في شمال سورية (محافظة الحسكة). وداعبت فرنسا احلامهم القومية لكنها في النتيجة لم تفعل سوى ما فعلته بريطانيا، اذ استخدمتهم كمقاتلين اشداء لتدعيم احتلالها وسخت عليهم بامتيازات مادية في سورية وحسب، وحين استقلت الاخيرة تم تجريد الاشوريين من تلك الامتيازات. مما دفعهم الى الهجرة الواسعة الى امريكا واوربا.



مكتسبات مهمة

في مطلع السبعينات بدأت صفحة جديدة في تاريخ المسأة الاشورية في العراق. ففي 16 نيسان (ابريل) 1972 اتخذت السلطة العراقية مجموعة قرارات لصالح الاقلية الاشورية فاعترفت بحقوقهم الثقافية، حيث سمحت لهم بتدريس لغتهم في المدارس الابتدائية والمتوسطة، وتدريس العربية كلغة ثانية. وافتتح في جامعة بغداد قسم للغة والادب الاشوريين. ثم تأسست اكاديمية للغة الاشورية .واتحاد للكتاب الاشوريين. وقسم اخر خاص بهم في اتحاد كتاب العراق، والتزمت الدولة تقديم المساعدات المادية والمعنوية للكتاب والادباء والفنانين والمترجمين، وظهر قسم خاص باللغة الاشورية في اذاعة وتلفزيون بغداد. وفي الفترة نفسها اعيدت الجنسية العراقية للبطريرك الاشوري مار شمعون الثالث والعشرين المبعد عن العراق منذ 1933 وزار هذا بغداد، واستقبل من جانب القيادة العليا ودعي للاقامة في العراق، لكنه فضل البقاء في منفاه، الا انه دعى رعيته للبقاء في العراق ودعم سياسة الحكومة.

لكن المسالة الاشورية (في العراق او غيرها) كانت مذ خطت خطوات اخرى على الصعيد الدولي .ففي 1968 انعقد المؤتمر الاشوري الاول في باريس، واسفر عن تاسيس" الاتحاد الاشوري العالمي " كمنظمة عالمية للدفاع عن حقوق الاشوريين واسماع صوتهم للعالم. وتوحيد صفوفهم ومطالبهم حيثما كانوا ( العراق، تركيا، ايران، سوريا، الاتحاد السوفييتي، قبرص، الولايات المتحدة الامريكية، واوربا ).

واثبتت المنظمة فعاليتها طوال العقدين السابقين في طرح قضيتها في المحافل العالمية بصورة عامة ، لكن المنظمة نفسها لم تستطع الاتفاق او الاجماع على اهداف موحدة فظهرت فيها تيارات متباينة سياسياً واديولوجياً، من اليسار الى اليمين، فتيار منها يطالب بالكفاح لاقامة دولة مستقلة للاشوريين في مناطق حضورهم التاريخية (شمال العراق_شمال شرق سورية_جنوب شرق تركيا _غرب شمال ايران)وهي المناطق نفسها التي يعتبرها الاكراد وطنهم القومي، وتيار منها يكتفي بالمطالبة بحكم ذاتي للاشوريين في مناطق كثافتهم السكانية، وتيار ثالث يقلص المطالب الى حكم اداري في المناطق التي يشكل الاشوريون الغالبية من سكانها، اضافة الى الاعتراف لهم بالحقوق الثقافية الخاصة.

وكان اقصى ما تمكنت منظمة الاتحاد من تحقيقه هو الانظمام الى منظمة الشعوب التي ليس لها حكومات ودول (.N.P.O. ) وهي منظمة شبيهة بالامم المتحدة وتضم في عضويتها نحو ثلاثين شعباً، منهم الاكراد والتركمان والهنود الحمر وسكان استراليا الاصليين_الخ. والى جانب الاتحاد الاشوري العالمي ظهرت منظمات واحزاب سياسية للاشوريين في مختلف بلدانهم، اهمها حالياً "الحركة الديمقراطية الاشورية" في العراق.



الراهن والمستقبل

تمثل هذه المنظمة الاقلية الاشورية في العراق وتعتبر جزءاً من الجبهة القومية للكردستانية، ويبدو ان هذه الصيغة من التحالف بين الحركتين هي الصيغة التي توصل اليها الطرفان للعمل من اجل القضية العراقية المشتركة (الديمقراطية) وتلافي عوامل النزاع والصراع والاختلاف المتعددة بينهما، لقد شاركت "الحركة الديمقراطية الاشورية" في جميع النشاطات السياسية للمعارضة العراقية والمؤتمرات التي عقدت داخل العراق وخارجه.

وتقول هذه الحركة انها لاتطالب بالانفصال عن العراق ولا اقامة كيان سياسي مستقل. بل تسعى الى الاعتراف بالقومية الاشورية، وان يعيش ابناء الاقلية في عراق ديمقراطي مع اخوانهم العرب والاكراد. ولكنها تطالب ان يتمتع الاشوريون بحقوق وصلاحيات (ادارية) في المدن او القرى التي التي يؤلفون الغالبية من سكانها. وفي جميع طروحات الحركة الديمقراطية الاشورية تظهر مثل هذه اللغة الحذرة، ذلك ان ذكريات الصراع الدموي المرير بينهم وبين الاكراد ماتزال ماثلة في وعيهم، وهي اعمق وابعد من تجربة التعاون والتفاهم الحالية التي بدات مقدماتها في مطلع الستينات حين نجح الملا مصطفى البرزاني زعيم الاكراد في احتواء الحركة الاشورية في صفوف ثورته مقابل تبني بعض مطالبهم الثقافية والانسانية والوطنية.

الا ان الحركة الديمقراطية الاشورية وعلى رغم فعاليتها على صعيد تمثيل الاقلية الاشورية في العراق فانها ليست وحدها في الساحة، فهناك احزاب سرية تنشط في اتجاه بالمطالبة باقامة الحكم الذاتي.. بل لا تزال هناك فئات تحلم بالوطن القومي والدولة المستقلة، تغذيها منظمات وتيارات اشورية عالمية.



عن صحيفة الحياة اللندنية

*كاتب وصحفي سوري
Opinions