الانتقال من ثقافة العنف إلى ثقافة السلام يستوجب الإيمان والعمل
لا أدري، هل أن البشر في البلدان "المسالمة" يفضلون السلام في علاقاتهم الاجتماعية باعتبار أن السلام ضرورة حياتية للعيش المشترك، أم باعتباره جزء من منظومة حقوقية يجب احترامها؟ ولكنني أدري تماما أن المجتمعات التي غلبت ثقافة السلام على ثقافة العنف هي مجتمعات مستقرة ومتطورة ومتقدمة.أما هل أن البشر في البلدان "العنيفة" يفضلون الركون إلى العنف في علاقاتهم الاجتماعية باعتباره وسيلة لتحقيق الغايات البشرية "إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"؟ أو باعتباره فضيلة شجاعة يميلون إليها كجزء من صناعة الذات القوية في مجتمع لا يؤمن إلا بمنطق القوة؟ ربما هذا وربما ذاك ؛ ولكنني أعرف تماما أن اللجوء إلى العنف الاجتماعي مهما كانت أسبابه وهدافه لن يصنع مجتمعا ينعم بالاستقرار أبدا، والدليل على ذلك التجربة العراقية!
فعندما ينتشر العنف على نطاق واسع في الدول "العنيفة" كالعراق يكون من الصعب عليك ان لا تكون عنيفا؛ فإذا كنت زاهدا في مشاهدة الفضائيات الإخبارية التي تتحدث عن انفجارات أو اغتيالات أو عبوات أو اشتباكات أو مداهمات، أو عن أعضاء مجلس نواب الشعب وهم يتشابكون بالأيدي أو يتقاذفون بـ"قناني الماء المعبأ" أو يشتم أحدهم الآخر، أو يتهم مسئول حكومي زميلا له بالفساد والابتزاز..
وإذا كنت قد روضت نفسك أن تنتقل من منزلك إلى موقع عملك سيرا على الأقدام خشية أن تستأجر سيارة تكسي يخطفك سائقها أو يستغلك، أو يجادلك متعصبا في صحة موقف هذا الحزب أو هذا التيار..
وإذا قررت أن لا تجلس مع زملائك في العمل وفي وزارات الدولة وهم يتحدثون في السياسية على الدوام حتى لا تغضب هذا الموظف أو ذلك، وحتى لا يكون سببا في التحريض عليك عند أتباع المليشيات والعصابات في الشارع بتهمة عدم الموالاة...
فانك بالقطع ستقف عاجزا أمام ملحة أبنك ذي السنة الثالثة وهو يطلب منك أن تشتري له ولأخيه بندقية أو مسدس أو هاتف خلوي من البلاستك ليخاطب صديقه المفترض "ها الو أهم عليكم قصف" !
حتى أنا الذي أروض نفسي لأكون في صف دعاة السلام واللاعنف، مقتديا بالإمام السيد محمد الشيرازي رحمه الله، أخوض صراعا عنيفا مع نفسي؛! وذلك عندما أرى بأم عيني كل مظاهر العنف، والفساد، والغش والكذب، وسطوة الأقوياء، وبؤس الضعفاء، وضعف سيادة القانون، وأجد نفسي كمن لا حيلة له إلا بث هذه السطور على صفحات الجرائد ومواقع الانترنيت!
ولكن أرجع وأقول ليس قدر العراقيين أن يكونوا ضمن البلاد الأكثر خطرا في العالم، وليس عليهم أن يظلوا إلى الأبد يدورون في دواليب العنف والاقتتال، ولكن عليهم أن يبحثوا عن الحلول والمعالجات التي تساعدهم على إحداث نقلة تقودهم إلى حفظ النفس والمال والأرض وبناء المستقبل، فمن أين يجب أن نبدأ؟
لا اشك قيد أنملة أن حملات الاعمار والبناء، وتطوير الاقتصاد وتوسيع التجارة، وفرض الأمن واستتابه بواسطة الأجهزة الأمنية والشرطة الوطنية المدربة والمقتدرة، وإشاعة أجواء الحرية والديمقراطية هي وسائل تساعد على الانتقال من ثقافة العنف إلى ثقافة السلام والمحبة، ولكنني أرى أن هناك وسائل وأدوات لها أولوية إستراتيجية في إحداث هذا التحول لم يُعمل بها، أو عُمل بها ولكن على نطاق ضيق من هذه الوسائل هي وسيلة التعليم المكثف للمواطنين على ثقافة السلام بمختلف مستوياتهم.
هناك نقص مفضوح في أدوات ثقافة السلام وما لم نجند للسلام وسائله يظل العنف رائدا وسبيلا لحل نزاعاتنا؛ لان العنف في واقعه ثقافة متراكمة حصل عليها المواطن العراقي بالتجربة وتلقاها وتعامل معها راغبا أو مرغما، وأصبحت جزء من كيانه أو ذاته، فالتنازل عنها يعني التنازل عن شخصيته؛ فعلى سبيل المثال فان الكثير من العراقيين- بما فيهم الأطفال والشباب- يتفاعلون إلى ابعد الحدود مع التربية المعظمة للحرب أو الإعداد لها، كالتطبيل للحرب عن طريق الأناشيد الوطنية والحماسية التي تحثهم على القتال، وهو وسيلة من وسائل النظام السابق وهو الآن من أجندة القوى الإرهابية، وهو يرتبط في كثير من الأحيان بحب الشباب للوطن دون أن يدركوا أنهم سيكونون عاجلا أو آجلا محرقة لها، وأن الحرب هي مشكلة جهاز أو نظام عدواني وليس مشكلة شعب يطلب السلام، وبالتالي يتعين علينا أن نجد ثقافة جديدة لا تقوم على تمجيد الحرب بل تشرح وتعطي وجهة نظر شاملة حول الحرب والصراعات المسلحة وآثارها على البشر وتدمير الكرامة الإنسانية.
أن نتبنى ثقافة السلام مكان ثقافة العنف يعني علينا أن نجعل السلام والمحبة جزءا حيويا واستراتيجيا من شخصيتنا ومعاشنا وثقافتنا وعلاقاتنا، فنجد ذاتنا في السلام واللاعنف بحيث أن التنازل عنهما يكون بمثابة التنازل عن الحياة والمعاش، كالصلاة والصيام عند المتدينين من حيث أنهما أصول ومبادئ يؤيدونها طواعية كجزء من منظومة اعتقاد وعقيدة راسخة تشكل شخصيتهم المؤمنة بالله.
أو نحول ثقافة السلام إلى قيم حقوقية ملزمة يمثل الاعتداء عليها اعتداءا على القيم المجتمعية الثابتة فتتحول ثقافة السلام مع مرور الوقت إلى عرف اجتماعي راسخ يكون المخالف لها منبوذا.
إذن، هناك حاجة حقيقية في العراق إلى وضع إستراتيجية تثقيف وتعليم كافة المواطنين من أجل تقويم الاحتمالات والإمكانيات واختيار البدائل في مجال الانتقال من العنف إلى السلام عن طريق ما يُعرف بـ"تربية السلام" والتي تتضمن مناهج تربوية شاملة على مراحل مختلفة كمرحلة الوقاية من العنف، ومرحلة إجهاض العنف الوليد، ومرحلة علاج النتائج غير الخطيرة وتدارك النتائج الخطيرة للعنف، ومرحلة التعامل مع الآثار المادية للعنف الخطير، ومرحلة التعاطي مع الآثار النفسية للعنف وغيرها.
وحيث أنه " لا يكفي الحديث عن السلام بل يتوجب الأيمان به ، كما لا يكفي الأيمان بالسلام بل يتوجب العمل من أجله " كما يقول الينور روزفلت، فانا نتقدم ببعض التوصيات أهمها:
-أهمية دعم وتعاون المنظمات والباحثين والناشطين من الشباب وصانعي القرارات السياسية الملتزمين بأهداف الانتقال من ثقافة العنف إلى ثقافة السلام
- تنظيم ورشات العمل والمؤتمرات لتدريب الشباب وتشجيعهم على التعلم من اجل السلام في مدارسهم ومجتمعاتهم.
-إرسال وفود المجتمع المدني التي تعنى بمكافحة العنف للاجتماع مع المسئولين الحكوميين والتربويين لوضع مبادئ المناهج التربوي السلمي، وتدريب المعلمين على التعليم من اجل السلام.
-تأسيس مركز باسم "مركز تربية السلام" مدعوما من قبل الدولة يعنى بحل النزاعات والاختلافات التي تنشب في المناطق المؤهلة للعنف.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com