التاريخ يتكلم الحلقة 32 اتراك الجبل
انسيابية الحياة فقدت مقوماتها كما اغتيلت الطفولة في مهدها, وعوضا عن ان يتنعم اولئك البراعم بالهدوء والطمأنينة تحت سقف العائلة وحنانها, باتوا يفتقدون حتى الى ما يسعف اسباب ديمومتهم. الكثيرون منهم فقدوا احد والديهم او كليهما في وقت يحتاجون فيه الى من يتدبر لهم اساليب الحياة اليومية الاعتيادية, فكيف في ظل ظروف لا يستطيع الكبار تحملها؟ من الامور الطبيعية ان نشاهدهم عراة, حفاة, فالاولوية هي انقاذهم من خطر الموت بتوفير طعام لهم, ومن ثم التفكير في ايجاد ما يقي اجسادهم. كان من الصعوبة بمكان توفير الملابس لذلك الجمع الغفير من الاطفال.كنت مولعة بالاطفال ويتحرك في داخلي احساس مفعم بالحب والعاطفة نحوهم. كنت اعمل المستحيل لخلق بصيص من النور في ظلمات حياتهم تلك او بعث الامل المفقود لديهم, هم الذين لم يعرفوا غير انفجارات القنابل واصوات المدافع ولغتهم مفرداتها البندقية والمسدس. في تركيا تغيرت احاديثهم فباتت تدور حول الطقس وبرودة الجو والطين والجوع والملابس المهلهلة, واحيانا يلجاؤون الى ما يشبه اللعب وهو تقليد الكبار في احاديثهم وتقمص شخصية ما, او تمثيل دور الاب والام ويكون الاب متميزا في عنفه وسيطرته والزوجة تقدم له الطاعة والولاء المطلق. حتى في مجتمع الاطفال هناك تمايز متوارث يبرز فيه تسلط الرجل على المرأة زوجة كانت او اما او اختا. الصبيان يعكسون تجاربهم او يتمنون ان تكون لهم السلطة المطلقة, اما الصبايا فكن يمثلن دور النساء وينعزلن بعيدا عن انظار الرجال, كالعادة المتبعة المتوارثة, يتصدر الصبيان الديوان تمثلا بالرجال بينما تنزوي الصبايا في احد الاطراف. كنت اجلس في الخيمة اراقب لعبهم والاحظ كيف يجري غرس مفاهيم التمييز بين الذكر والانثى فيهم منذ نعومة اظفارهم واقول في سري متى يستفيق هذا المجتمع من سباته؟ لكنني كنت ادرك ان الارضية المناسبة لذلك لم تتوفر بعد, ذلك ان آخر ما يفكر به المجتمع هو خلق اسباب المساواة وتكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة. تذكرت كلمات الدكتورة نوال السعداوي*, الطبيبة المصرية, التي كتبت كثيرا عن العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة والبالية التي تلازم الفرد, * نوال السعداوي: كاتبة مصرية جريئة لها موقف يتحدى العادات والتقاليد التي تحجب حقوق المرأة ويعيق تطورها لم تتمكن الاستمرار في العيش في مصر بسبب اضطهاد الاصوليين فهاجرت الى امريكا وهي الان تعيش هناك.
منذ نشأته, وتبقى رواسبها كامنة تتحكم في تصرفاته وافكاره لاحقا, لا يمكن التخلص منها بسهولة لأنها ترسخت في كيانه منذ الطفولة, ومهما اوتي الفرد من شجاعة وحكمة في التخلص من مخلفاتها فان ذلك يعتبر, في كثير من الاحيان, جحودا وتمردا على التقاليد الاجتماعية المألوفة. حتى الفئات المثقفة تبدو غير فاعلة ولا تجرأ على المجاهرة بارائها وسط عقول تسودها المعتقدات والايمان بالغيبيات والاساطير. امتلكت الدكتورة السعداوي الجرأة للاعلان عن ارائها, بصراحة, برفضها تقاليد مجتمع لا يعترف بحقوق النصف المضطهد, ازليا, ويرفض الاحتكاك بالحضارة والاساليب الحديثة في التربية والتعليم, ويضع الام في موقع لا تستطيع فيه ان يكون لها أي دور في غرس المفاهيم المتنورة في عقول اطفالها, لكنها, في أغلب الاحيان, تكمل الدور المناط بها والمرسوم لها مسبقا, من دون الالتفات الى قول شاعرنا الكبير معروف الرصافي:
الأم مدرسة اذا اعددتها اعددت شعبا طيب الاعراق
كيف سيواجه هؤلاء الاطفال المستقبل اذا تصوروا ان العالم كله يعاديهم؟ العربي عدو الكردي, وهكذا دواليك الثقافة الحديثة والغربية لهم تحفظاتهم العميقة منها, وبالمقابل لا توجد مدارس او معاهد تستقبل اولئك النشىء فيبقى يتخبط في الجهل والعتمة الفكرية, وخلاصة معرفتهم لا تتعدى ما تمليه عليهم تلك الظروف القاسية غير الطبيعية مجرد التفكير بما ينتظر كردستان, وما بالاستطاعة عمله, يصيب المرء بدوار شديد.
في سلوبيا مكثنا اكثر من 45 يوما وبالاضافة الى تلك الظروف المزرية, المتردية يوما بعد آخر, بدأ الشتاء يزحف علينا واخذ البرد القارص ينفذ, كما حدث لنا في سنوات النضال في كردستان العراق الى العظام. ان لم نتهيأ لهذا الضيف القادم الثقيل فسوف يدفع الكثيرون حياتهم ثمنا.
وفد الينا مراسلو الصحف وكانت بادرة مشجعة, فما زال المجتمع الدولي يتذكرنا. ولكن الحقد, كله, منصب على الدول صانعة القرار, امريكا, الاتحاد السوفيتي, والدول الدائرة في فلكها من قبل الضحايا. واولئك الضحايا يعلمون ان الشعوب هي موضوع مزايدات بين السياسات المتنافرة تتقاسمهم كمقاسمة الغنائم, وهكذا بدأ قسم من الدول الاوربية بالاعلان عن ارسال معونات مالية الينا عبر الحكومة التركية, وفي مثل هذه الحالة فان حصة الاسد تكون من نصيب الحكومة التركية! لذا بدأت نغمة التعاطف مع معاناة الشعب الكردي من الضروري ان اذكر هنا مع الاكراد كان من القوميات الاخرى من الاثوريين الكلدان العرب ايضا . لكن تركيا كانت في الواقع المستفيد الوحيد من ازمة الاكراد سياسيا واقتصاديا.
عند وصول الوفود الصحفية كان السؤال التقليدي من يجيد احدى اللغات الانكليزية او الفرنسية او الالمانية داخل المعسكر؟ الكثيرون من البيشمركة مثقفون ثقافة عالية, منهم من يجيد اكثر من لغة عالمية ومنهم من انهى دراسته في احدى الدول الاوربية, لكننا كنا نتحاشى الاحتكاك باولئك الصحفيين خوفا من كشف امرنا الى الحكومة العراقية, فمن يدري؟ لربما هناك تنسيق مواقف بين الاتراك والسلطة الصدامية.
اكراد تركيا لا يبخلون علينا باية مساعدة ممكنة ولكن لا يسمح لهم بالاتصال بنا او الدخول الى المعسكر. وحتى من له اقارب ضمن ذلك المعسكر, ذلك ان الكثير من العوائل في القرى المتاخمة للحدود التركية-العراقية كانت تربطها الاواصر الاسرية, لكن الحكومة التركية تعمل دائما, على قمع الشعور القومي لدى اولئك الاكراد وتجاهد لاطفاء جذوته, كما ان وجود البيشمركة على الاراضي التركية يحسب له الف حساب وان كانوا في نطاق معسكر اللاجئين, فالاعتقاد السائد لدى المسؤولين الاتراك بان ذلك سوف يعضد المعارضة الكردية في تركيا, ويشد من ازرها.
تركيا تبكي بدموع التماسيح على الاكراد, ضحايا نظام صدام, في محاولة لكسب ود ومؤازرة الدول الاوربية والبرلمان الاوربي, ومن ثم وضع تركيا ضمن الدول الحريصة على حقوق الانسان! لكن الواقع المرير الملموس ان الاكراد في تركيا يكذب ذلك اذ يطلقون عليهم تسمية "الاتراك الجبليون"! ولا يعترفون بوجود قومية كردية على الارض التركية. ولقد حرم الاكراد هنا من حقوقهم المشروعة وكلمة كردي تعتبر المرادف للعدو! في القاموس السياسي التركي, واكثر من 90% من اولئك الاكراد اميون تتفشى بينهم الاوبئة والامراض وينخر فيهم التخلف المحيط بهم من كل جانب, وحتى لباسهم القومي قد حرم عليهم فظهور الكردية او الكردي بالزي التقليدي من الامور المحظورة, وحتى التكلم باللغة الكردية يعتبر من المحرمات.
انه اضطهاد على الصعيد النفسي والسياسي له ما يماثله في العراق من اجتثاث من الجذور ومحو للقرى والمدن وطمر لمعالم كردستان وتعريبها.
استيقظنا صبيحة احد الايام على اصوات مكبرات الصوت تنادي باللغة الكردية مطالبة كل رب اسرة بالوقوف في صف امام طاولات وضعت داخل المعسكر, وجلس وراء كل واحدة موظف يدون اسم كل عائلة, والمسؤول عنها, ويبدأ بالسؤال الى اين ينوي المغادرة؟ وهل يفضل البقاء في تركيا او الرحيل؟ وما اسرع ما نشب صراع بين اللاجئين فمنهم من ينادي باللجوء الى احدى الدول الاسلامية حفاظا على التقاليد الدينية وحفاظا على بناتهم وشرفهم. وكان الاسلاميون يشجعون هذا الاتجاه وينادون بمناشدة الدول الاسلامية الغنية, مثل السعودية, لاحتضان اخوانهم المسلمين المنكوبين. لكن ذلك لم يمنع الرجال والشباب من تداول الصور والمجلات الخلاعية التي كان يجلبها, عمدا, الحرس التركي. وكانت معظمها تظهر نساء اوربيات على البلاج بملابس السباحة شبه عاريات, وهي طبعا محرمة على النساء. كان المتحفظون بالرغم من عدم ممانعتهم في التمعن في هذه الصور, الا انه كان يثير حفيظتهم السماح لنسائهم وبناتهم الاختلاط مع الاوربيين, اذ لا بد ان يصيبوهن بالعدوى! الكثيرون منهم يدعون الى عدم ارسال البنات الى المدارس, تلافيا من اختلاطهن مع مثل اولئك الفتيات المنفتحات مستقبلا, وهناك تيار آخر يدعو الى العيش بسلام وفي أي بقعة من العالم ويتساءل لماذا لا نعيش كبقية البشر نمارس حقوقنا ويتنعم اولادنا بالحرية والتعليم ويكتسبون المعرفة والثقافة, والرأي الاخير كان واسع الانتشار خاصة في الاوساط النسائية.