التاريخ يتكلم الحلقة 67 الفن يرفرف في كردستان
في شباط 1987 علمت من الرفيق ابو ادْار ان ابو عجو، المخرج المسرحي القدير يتهيأ لعرض مسرحية سياسية تمثل حياة العائلة السياسية المطاردة منقبل النظام وتأثير العادات والتقاليد الاجتماعية البالية على المرأة العراقية، زوجة الرجل السياسي المعارض لنظام صدام. ابو عجو، في حيرة من امره في ايجاد الكادر النسائي لتأدية الدور الذي يمثل اماً عربية بانتمائها الشعبي
البسيط. لم يكن يتجرأ على مفاتحتي بالموضوع فقد لا يجد الاستعداد والموافقة من قبلي، لكنني كنت مستعدة نفسياً، لذلك ولكنني افتقر الى الامكانات الفنية التي تمكنني من تقمص شخصية المرأة الشعبية البسيطة.
بعد ساعة كان ابو عجو عندي. كنت مشغولة بقراءة كتاب اعجبني جدا للكاتب الجزائري الطاهر وطار. علق ابو عجو قائلا، بقدر ما تحبين الادب فانك تتحسسينه ايضا. واثناء احتسائنا لقدح شاي كنا نتجاذب اطراف الحديث حول الادب
وكرر اعجابه بتلك الموهبة الادبية التي اتمتع بها اضافة الى تخصصي العلمي وانتمائي السياسي، واعرب عن اعجابه بقدرتي على التوفيق والجمع بين تلك الانشطة واردف قائلا: من تكون لديه امكانات ادبية تتولد لديه ملكة فنية فالادب
والفن رديفان ، وتتمتعين بخلفية جيدة في هذا المضمار بالرغم من كونك قليلة الحديث عن هذا المجال. ضحكنا لذلك الاطراء واجبته انني اعيش كل تلك الصراعات ولا اعلم على أي شاطيء سأرسو، الذي اتجنبه الآن هو الخوض في النقاشات
السياسية والكتاب وسيلتي وسلوتي الوحيدة، اذ لم اكن مقتنعة ولا موافقة على كل ما يدور في صفوف البيشمركة، ولا مع النهج السياسي القائم. ولا تلوح في الافق بوادر التغيير نحو الافضل، المهم اننا نواكب الركب في صموده وتحديه.
انتقلنا ثانية الى موضوع المسرحية التي استوحاها ابو عجو من قصة حياته مع زوجته وعلاقته بعائلتها.
كان اسناد الدور النسائي لي تجربة لم اخض غمارها من قبل وتمثل لي قمة الصعوبة والتحدي، الا انه لا بد من المحاولة واتفقنا ان نحاول وان نبدأ من يوم غد. باشرنا التدريبات، انا بدور الام والرفيقة شهلة من "عنكاوة "بدور الزوجة معها طفلتها "مسار من بغداد عربية "البالغة من العمر 7 سنوات بينما زوجها السياسي محكوم بالاعدام ومتوارٍ عن الانظار والزوجة قد وقعت تعهداً
للسلطات العراقية بعدم اللقاء بزوجها والا ستجابه حكما بالاعدام. جذور الحب وجذوته لا يمكن ان يطفؤها الطاغوت المتأصلة فيه الجريمة وحب الانتقام. والشوق الى فلذة الاكباد لا تقف في سبيلها السدود، فتقرر الزوجة ركوب الصعاب واضعة روحها على كفها، وتمضي للقاء زوجها مع طفلتها وتلتقي به في الدار المتخفي فيه، وتقضي الليل معه لتظهر نتائجه بعد شهر حيث بوادر الحمل وهي بحد ذاتها كارثة حقيقية، فالاجهاض ممنوع حسب القوانين العراقية اضافة الى
منع استعمال وسائل منع الحمل لان صدام يرغب المزيد من الوقود لآلته الحربية فابتكر الوسائل والقوانين التي تتكفل بزيادة الانجاب في وضع اقتصادي واجتماعي وصحي بالغ التردي والتعقيد وفي ظل حرب ضروس اجتثت كل ما يمت
للانسانية بصلة.
هنا تكمن مأساة الزوجة فبتقدم الايام سوف تظهر للعيان بطنها المنتفخة التي ستفضحها وتوضع موضع التساؤل من اين هذا الجنين؟ وبالنتيجة فانها تكون قد التقت زوجها ووقع المحذور وعقوبة الاعدام في انتظارها، واذا انكرت ذلك
فمعناه الخيانة الزوجية وهذه جريمة بحق نفسها وحق المجتمع الذي لا يغفر
لها ذلك مطلقا، ونتيجته القتل غسلا للعار من اقرب المقربين اليها، وفي نظر
الشرع والدين كذلك فالمرأة التي تلد سفاحا لقيطا يحلل هدر دمها.
الزوجة تحاول بشتى الوسائل لفظ ذلك الجنين والالتجاء لعملية اجهاض غير
قانونية رغم امكاناتها المادية المحدودة وتعيش في دوامة اليأس ليل مع
نهار.
اعجبت بالسيناريو ولكنني وجدت صعوبة في اداء ذلك الدور لانني بعيدة عن تلك الاجواء، غير ان اصرارنا على ان نقدم الدور مكننا من الاستعداد له بعد ترتيبات شاقة استغرقت منا اكثر من شهران، اجدت الحوار بين الام والبنت
التي هي الرفيقة شهلة.
المشهد الثاني يمثل حياة والدتي، بدأت امثل، كنت اذرف الدموع بغزارة
وبدون شعور، الالم يعصر قلبي لمأساة والدتي، اقرأ النص والورقة في يدي
واجهش بالبكاء مندمجة بالدور ومنفعلة في الاداء وابو عجو قد انزوى يراقبني وهو
لا يصدق ما يراه وهذه العفوية التلقائية في التمثيل، لم يقاطعني لان ما
يشاهده امامه هو تجسيد للشخصية التي رسمها بجدية وجدارة، بعد انتهاء المشهد
هرع ابو عجو ليسألني ما هذا التحول السريع والفارق بين اداؤك في المشهدين
الاول والثاني؟ اجبته انني كنت امثل دور والدتي ومعاناتها الحقيقية وقد
انسلخت من عمرها سنوات طوال وهي بعيدة عن والدي وتلتقيه سرا. وبالرغم من
انتهاء المشهد الا اني لم استطع السيطرة على دموعي واسترسلت في البكاء. كنت
اعكس ما يجول في خاطري بينما كان ابو عجو يعكس معاناته من خلال المسرحية،
فالتقينا في المحصلة النهائية، وكان ذلك يمثل قمة مشاعرنا التي ستلتقي
اخيرا مع مشاعر واحاسيس الغالبية ممن سيشاهدون المسرحية.انا امثل دور والدتي
وهو يتألم لانه يتحدث عن قصته مع زوجته.
ازحت بذلك البكاء بعض الهموم التي كابدتها فتراكمت على مر الزمن في اعماقي ونخرت سمومها كياني. نمت ذلك المساء نوما هادئا وعميقا. لقد عشنا وتمتعنا بافضل شهر قضيته في كردستان، الى ان هل علينا عيد نوروز موعد تقديم
المسرحية، كانت هناك عقبات يجب تجاوزها وهي اولا صعوبة الحصول على الزي النسوي المدني، لدينا القمصان وينقصنا التنورة النسائية او الفستان، بالنسبة
لي (ام شهلة). تمكنا من استعارة مستلزماتنا من الكسوة النسائية من القرى المجاورة، اما بالنسبة للشباب فكان يكفي القميص وبنطلون الجينز. عرضنا
المسرحية بنجاح باهر بالرغم من الامكانات المتواضعة من مسرح بدائي وديكور
فولكلوري والافتقار الى المكياج والاكسسوارات، وان كانت لتلك المؤثرات اهمية
فالاهم هو التفاعل الروحي وعكس ما يجول في اعماقنا من حقد على النظام
الجائر.
خلال العرض الاول خيم الصمت على الجمهور المترقب لكل شاردة وحركة واجهش الكثيرون بالبكاء، لقد لمسنا جروحهم التي لم تندمل، فمنهم من يتذكر زوجته، ومن تركت ولدها او فقدته، ومن يحن وترجع به الذكرى الى تلك الايام
الخوالي التي كانت تلم شمل الاحباب، فقلما تجد عائلة عراقية لم تذق الكأس
المريرة.
استمر العرض اياماً خمسة وابدى المشاهدون بالغ الاعجاب بذلك الانجاز
بالرغم من كوننا هواة تمثيل ولسنا محترفين، كنت اجتهد في ان اعكس الواقع
المزري للمرأة العراقية المضطهدة ابدا، دينيا واجتماعيا وسياسيا، كيف يكون
نكران الذات اكثر مما قدمته تلك المرأة وفي ظروف قلما يتحملها البشر، اذ
تلجأ بعد صراع، الى التضحية باعز ما تملك في محيطها الاجتماعي وهو الشرف،
وتعلن لوالدتها عن علاقة وهمية مع رجل آخر انقاذا لزوجها، فوالدتها حين
معرفتها الحقيقة يمكن ان تشي بذلك للسلطات حينما توضع على المحك ويجري
استجوابها من قبلهم. كانت تلح على والدتها لايجاد وسيلة للتخلص من اللقيط الذي
تحمله مقابل مبلغ من المال تدفعه لمن تؤدي لها تلك العملية.
وصل الخبر الى الافواج الاخرى، فطلبوا من ابو عجو عرضها عندهم ايضا
وطلب مني ان نرحل الى الفوج الثالث لتقديم المسرحية هناك الا انني لم استطع
تلبية طلبه لان صديقتي منى ابنة المرحوم ابو جوزيف في ايام حملها الاخيرة
وعلى وشك الولادة وتحتاج الى من يقوم برعايتها ورفع معنوياتها، خاصة وان
الطبيب قد افاد بان ولادتها ستكون عسيرة وقد تحتاج الى عملية قيصرية،
واجراء العملية في تلك الظروف بالغ الصعوبة، قال يمكن ان تقوم احدى الرفيقات
بتقديم يد العون لها عوضا عنك وتتفرغي انت للمسرحية. رفضت رفضا قاطعا لانني
كنت اقرب انسانة لها، بعد يومين وبعد ولادة مستعصية اوصلتها شفا الهاوية،
رزقت بصبي جميل اسمته سيفان . كنت غاية في السعادة وراحة الضمير في تقديم
العون الى انسانة احوج ما تكون اليه في تلك الساعة، بالرغم من ان دوري في
المسرحية كان يشغل كل كياني، فقد كنت اتقمص دور والدتي واعكس معاناتها في
تلك الحقبة من الزمن التي لاقت فيها عائلتي ذلك الاضطهاد والجور من قبل
نظام صدام العميل. واتذكر كلمات ابو عجو لي: انك تجيدين تمثيل دور والدتك"
فبادرته متسائلة: وانا من يمثل لي هذا النضال الذي خضناه منذ نعومة
اظافرنا ولا زلنا نسير نحو المجهول ونقارع الظلم بكل جد وصلابة؟ "
اجابني ابو عجو: دعي ذلك للزمن والاجيال القادمة، حياتك ثرية بالعطاء وغزيرة
بالتجارب اكتبي مذكراتك اليومية التي في النهاية ستشكل لك رصيدا قد لا
يستوعبه كتاب واحد". سخرت من ابوعجو وقلت من اين استلهم مادة الكتابة واين هو
الوقت او المكان الذي استطيع فيه ممارستها. اضافة الى الصراعات التي تعمل
في داخلي وعدم قناعتي بجدوى وجودي هنا، بينما تراجعت قابلياتي الثقافية
وذبلت. لكن ما اقترحه علي ابو عجو امر مستحيل وهربت منه، بدأت احققه اخيرا،
وها هي الاوراق تثرى، ورقة اثر ورقة، فهل ستشكل كتاباً؟ وهل سيقع بين يدي
الرفيق ابو عجو ؟ لا ادري ... اذار 2007