التاريخ يتكلم الحلقة 114 بلدتي القوش الكبيرة الصغيرة !!!
لاادري كيف وبم ابدآ قصة حياتي التي لا بد ان تكون الطفولة مدخلاً لها ، ذكريات حلوة و مرة اختلطت فيها , احياناً صور مآساوية يعجز القلم عن وصفها , الذكريات الجميلة حينما لا يفقه الانسان ما يدور حوله خاصة اذا كانت الظروف المحيطة به ذات مواصفات خاصة يشب في وسطها ليجد ان الحياة مزروعة بالاشواك ألتى تدمي الاقدام التي تطآها , ويبقى الاصرار وحده اكسيرا لحياة لا يتحملها الا من نذر نفسه لقضيته التي ترعرعت معه في المهد .صباي
ولدت سنة 1950 اوائل شهر شباط في مدينة الذهب الاسود كركوك في العراق , وكان ترتيبي هو الثاني بعد اخي الاكبر سفر الذي يكبرني باربع سنوات . والدي كان موظفاً في شركة نفط العراق التي كانت تحت السيطرة البريطانية والكادر المتقدم والاداري من الانكليز . خدم فيها والدي بوظيفة محاسب ولفترة ما يقارب 25 عاماً , وتآثر بثقافتهم كان يتكلم اللغة الانكليزية بطلاقة يحب الموسيقى ، الكلاسيكية منها بصورة خاصة , معجب بالموسيقار بتهوفن وعبد الوهاب وام كلثوم واسمهان , كنت اسمع هذه الاسماء ولكني لا افقه منها شيئاً لكني كنت كثيرة السؤال والاستفسار من والدي الذي لم يبخل علي في ايضاح مالم يتسن لي ادراكه وبصورة مبسطة محببة فكان يشيد بهؤلاء العظام , بحيث خلق لدي مشاعر التعلق بتلك الاسماء والبحث عن قصصهم واعمالهم لاحقاً .
كنا نسكن في منطقة واحدة مع الانكليز كما كنا بحكم هذه ألجيرة دائمى الاختلاط معهم وألألتقاء بهم في الشارع وفي المحلات العامة وخاصة في السوق المسماة ( كانتين) وهو مجمع لبيع المواد الغذائية يرتاده جميع منتسبى شركة ألنفط ألبريطانية عراقيين وأجانب .
كنت في الرابعة من عمري واذكر ان والدتي كانت ترسلني لشراء بعض الحاجيات المنزلية , كانت حينما تسلمني النقود اعزل المعدنية منها بكف والورقية باخرى واعرضها للبقال ليختار ثمن بضاعته , وكنت افضل ان يختار الورقية منها ظناً مني انها ليست ذات قيمة باعتبارها اخف وزناً من المعدنية ! حينما كنت اعود الى والدتي كنت اشعر بالفخر والسرور لانني تمكنت من انجاز شيْ ومن ثم اصبحت في وضع من يمكنهم أن يعتمدوا عليه . في البيت كنت العب مع اخي باسل الذي لم يتجاوز السنة الاولى من عمره , كنت اعتبره لعبتي المفضلة , واجد صعوبة في حمله لثقل وزنه . دارنا تتكون من ثلاث غرف متساوية , مع مطبخ كبير وغرفة لاستقبال الضيوف انيقة مرتبة بشكل جيد تتوسطها اثاث حديثة ويكسو ارضيتها سجادة ايرانية ثمينة , وتنتشر فيها التحف وتزين جدرانها المناظر الجميلة , وكانت والدتي تحذرنا من دخول الغرفة او العبث بها .
في البيت حديقتان , امامية مزروعة بالثيل والاخرى تتوسطها شجرة صنوبر عالية جداً تعشعش فيها الطيور التي نسمع زقزقتها كل صباح وكان هذا مبعث للراحة النفسية . كانت والدتي من هواة زراعة الزهور، تنسقها باشكال هندسية جميلة وتناغم في الالوان وتطلب من والدي ان يزودها بالبذور التي تنبت زهوراً ذات عطور زكية فهي لا تفضل الزهور عديمة الرائحة . كانت والدتي مرهقة في الاعتناء بنظافة اطفالها وتغذيتهم , ولكنها لم تكن تملك الوقت الكافي لايفائهم حقهم من تنمية متطلباتهم النفسية والثقافية , كان والدي يقوم بتلك المهمة . يهتم جداً بتوجيهنا في كيفية التحدث وطرح الاسئلة واسلوب النقاش مع الاخرين وكيف نتعامل مع المعلم والمعلمة ويتقصى عن هواياتنا ويحاول توفير المناخ المناسب لها ويرشدنا الى ما نجهله من امور الحياة ويميط اللثام عما يكتنفها من غموض وعدم ادراك .
في الخامسة من عمري ارسلوني الى روضة اطفال اهلية وهي مدرسة الراهبات الاهلية . ولازلت اذكر لون السيارة الصفراء التي كانت تقلنا , انا واخي الكبير سفر مع اولاد جيراننا اتذكر منهم ساهر نعمان من عنكاوة , من البيت الي المدرسة وبالعكس , ولا زلت اذكر ذلك الحنان الذي كانت والدتي تستقبلنا به عندما نعود من المدرسة في المساء ونشعر بالدفء وسط ذلك الطقس ألشتاء ألمتقلب وألبرد القارص .
ننتظر فصل الصيف بشوق كبيرونستقبله بفرح غامر خاصة واننا نعلم ان والدي سيآخذنا الى مسقط رآسه في تلك القرية الجميلة القوش شمال مدينة الموصل , تستقبلنا عمتي سرة وزوجها بحفاوة وتكريم بالغين . في القوش اعتدنا ان نبكر في الصباح لنذهب الى البساتين لاقتطاف الفواكه "البطيخ والتعروز , نركب الخيل ونجد في ذلك متعة ما وراءها متعة . قبل شروق الشمس تهب علينا نسمات عليلة تبعث فينا النشاط والتجديد ترافقها زقزقة الطيور فنشعر بالحرية وهدوء البال ونتبادل الود وننعم بالعلاقات الاسرية والروابط الاجتماعية ألحميمة و التي تنم عن البساطة والبراءة ، في نفس الوقت الذي يسودها طابع التسامح والاحترام المبني على التعاليم الكنسية والمنبثقة من روح مسيحية صادقة . كانت عمتي الوحيدة سرة متدينة تقرآ الكتب الدينية باللغة السريانية التي هي سليلة اللغة الارامية القديمة وتنهض مبكرة كل صباح ومع الدقات الاولى لناقوس الكنيسة في الخامسة صباحاً , تنسل بهدوء ونحن نائمين لتذهب الى تقديم الصلاة في الكنيسة ثم تعود لتكمل اعمالها في البيت ومن ثم تذهب للعمل الشاق في الحقل حتى الرابعة مساءاً حيث موعد الصلاة عصراً (الرمش بالسريانية) التي كانت تحرص على حضوره ايضاً , وتعود لتهيئة العشاء لنا مع جنتها المرحومة اغاتة واعداد متطلبات السهرة لزوجها واصدقائه الذين كانوا يتسامرون الى ساعة متآخرة من الليل فوق سطح المنزل ونحن نسترق السمع الى احاديثهم. في موسم الصيف يعتاد الناس النوم فوق أسطح المنازل حيث توضع اسرة بملاءآت نظيفة وشراشف واوجه مخاديد مطرزة بأيدى ألقرويات بالخيط والابرة وبالوان جميلة وجذابة ، وكان شائعاً في تلك الفترة انواع من اعمال التطريز كانت تستعمل فيها خيوط (كروشي, اتمين , تحشي ) والتى تكاد تنقرض الآن لتصبح من اعمال التراث .
كانت تلك هي الحياة الهادئة في تلك القرية ذات الهواء العليل والمناظر الخلابة والاماكن الاثرية التي جعلتنا نتعلق بها وننتظر قدوم الصيف بفارغ الصبر , بالاضافة الى ذلك فالصيف له ميزة اخرى وهي ان معظم الزيجات تنعقد في هذا الفصل . تقاليد عريقة وجميلة تبهر العقول , تبدآ مراسيم الزواج بموكب ينطلق من بيت العريس مشياً على الاقدام وفي المقدمة يتبارى الشباب في الرقص والدبكة وبآيديهم المناديل التي كانوا يختارونها كبيرة الحجم وذات الوان زاهية ويلوح الشباب بالمناديل الملونة بايديهم وأخرون بقناني المشروب المحلي( العرق) المعد للاحتفال والذي تشتهر به القرية . كل ذلك وسط زغاريد النسوة ومشاركتهم في الرقص بينما كان الاطفال يمدون اعناقهم ليشاهدوا العريس والعروس ويختلطون بالموكب كما يختلط الحابل بالنابل . يسبق هذه المراسيم ليلة الحنة وهو اليوم الاول للاحتفال ويصادف السبت . تصبغ يدي العروس والعريس بالحناء ومن ثم بقية الاهل والاصدقاء وسط زغاريد واهزوجات شعبية . وفي اليوم الثاني، الاحد يبدآ الزفاف (البراخ) حيث يذهب العريس وذووه والعروس واهلها والمدعوون الى الكنيسة ويعقد قرانهم ويباركهم الكاهن . وفي المساء يبدآ الاحتفال في ساحة مفتوحة تسمى البيدر اعدت لهذا الغرض . يتقدم القوم عازفا الطبل والمزمار والكل يرقص على ايقاعهما بانتشاء وفرح وتزدحم الشوارع بالمشاركين بذلك الفرح , إذ يكون الجميع على علم مسبق قبل ايام , فيتجول مناد في القرية ينادي بآعلى صوته ( من دعي او من لم يدع لحضور زفاف فلان على فلانة ) .
اعتاد اهل العروسين انتقاء المناديل الملونة للتلويح بها اثناء الرقص كما ان هناك شبينات للعروس يرتدين ملابس ملونة , ومميزة كما ترتدي النساء الاخريات الملابس الفلكلورية الملونة بالوان زاهية , ويستمر الاحتفال الى ساعات الصباح ليتواصل ليوم احتفالي ثالث , وفي الليلة الاولى للزفاف وفي ساعات الفجر الاولى يصدح عازف المزمار بايقاعات متواصلة لثلاثة ايام .
ستنتهي العطلة الصيفية بانتهاء فصل الصيف واآسفاه وسنشد الرحال للعودة الى كركوك مودعين اهلنا واقرباءنا هناك وشعور من الكآبة يسيطر علينا حين مغادرتنا مسقط رآس العائلة , تلك القرية الحبيبة وتلك الاجواء الرومانسية الحالمة رغم عدم وجود كهرباء وماء مستمر وبقية الخدمات اليومية . أخيرا رغم احتجاجنا الرجوع ألى كركوك انا واخي سفر يأخذونا غصبا عنا . ابدأ بمساعدة والدتي في اعمال البيت لاني وبالرغم من حداثة سني كنت اشعر أن والدتي مرهقة بمسوؤليات العائلة ومتطلباتها والاعمال المنزلية التي لاتحصى ولا تعد . كانت والدتي تحب الخياطة واعمال الابرة والحياكة , فكنت اجلس بجانبها واطلب منها ان تدربني على ذلك . كانت احيناً توافق واحيانا ترفض . كنت احاول مساعدتها في غسل الصحون ولكنني كنت قصيرة لا استطيع الوصول الى صنبور الماء في المغسلة فاضع عدة لوحات خشبية الواحدة فوق الاخرى ليتسنى لي السيطرة وابدآ بغسل الصحون . كنت احياناً اسقط على الارض نتيجة زحف تلك اللوحات من تحت اقدامي فتهرع والدتي لنجدتي وكنت احيانا اتلقى منها التوبيخ وألنصح ألحانى من عدم تكرار ذلك ولكنني لم اكف عن كسر ألكثير من الصحون والزجاجيات وأنا أحاول غسلها بقى لدى هاجس آخر وهو غسل ألملابس فى الغسالة ألكهربائية وأغتنمت فرصة ذهاب والدتى للتسوق .
, وانبريت بكل حماس وحب استطلاع للعمل بهمة ونشاط يسيطر على جوارحي أمر واحد وهو أن على ان اتعلم لوحدى كيف يتم غسل الملابس او بالاحرى سانجز هذا العمل قبل عودة والدتي من السوق لافاجئها بذلك. وضعت كالعادة قطعاً خشبية عديدة الواحدة فوق الأخرى وبدآت بنقل الملابس من حوض الغسالة الى موضع التنشيف فانحشرت فيه يدي اليمنى وعصرتها بقوة وبدآت اصرخ باعلى صوتى مستنجدة من شدة الالم والخوف . كان معي شقيقاي باسل وسلام . سمعت والدتي صراخي من الشارع وهرعت لنجدتي وعلى الفور اطفآت التيار الكهربائي حينما وجدت يدي محشورة في المعصرة فسحبتها بهدوء وهي تصرخ غاضبة . ألم احذرك بعدم التدخل بامور لاتعنيك؟ خلفت تلك الحادثة رد فعل قوي جعلني اتجنب استعمال الغسالة ولا احبذ استعمالها لحد الان . كان والدي يهتم بهواياتنا كما اسلفت ويوفر ما يحتاجه اخواني من مستلزمات لتحقيق رغباتهم تلك .
انهيت السنة الاولى من الدراسة مع اخي الكبير في نفس المدرسة الخاصة للراهبات ذات المستوى العلمي العالي وكنا من المتفوفقين في المدرسة . في شباط 1958 قرر والدي ترك وظيفته , كان يعتبر عمله روتنياًً مملاً لايحقق طموحاته , كان يداوم في عمله صباحا ومساء وكل وقته يقضيه بين حسابات الارقام , اراد تغيير نمط حياته ذاك فقرر العودة الى مسقط رآسه . بدأ ببيع ادواتنا المنزلية , الا ان والدتي لم تكن مقتنعة بتلك الفكرة خاصة وان ذلك قد يخلق لنا ارباكا في وضعنا المعاشي ونحن عائلة كبيرة متكونة من اطفال ستة . كانت والدتي تتذرع بمختلف الذرائع لتثنيه عن عزمه ومنها بان الجو بارد وغير ملائم للسفر . كانت تعيش حياة مستقرة في كركوك , حياة شبه ارستقراطية , ترتدي الثياب الفاخرة مقلدة النساء الانكليزيات ومتآثرة باسلوب الحياة المرفهة باعتبارها زوجة موظف كبير في الشركة . اضافة الى انها تمتلك داراً جميلة عامرة بالاثاث الفاخرة . لكن في النهاية , الكلمة للرجل والقرار له, في شباط 1958 فعلاً نفذ والدي ما كان يطمح له وعدنا الى قريتنا لنعيش حياة جديدة اقل مستوى من مثيلتها في المدينة حيث لا يتوفر فيها من تسهيلات الحياة ما كان متيسراً لنا في السابق .
صبيحة 14 تموز 1958 هرعت والدتي الينا ونحن نائمون فوق السطوح لتوقظنا وهي باشد حالات الانفعال , قالت انهضوا يا اولاد , العراق اصبح جمهورية! لم ندرك ما كانت تعنيه , سآلناها باستغراب ما معنى ذلك ؟ قالت لقد قتل نوري سعيد والملك وانتهى النظام الملكي وبدأ النظام الجمهوري الذي سيطلق الحريات ويوفر الرفاهية والعيش الرغيد للشعب اى باختصار ان كل شيْ سيكون افضل , فرحنا لان والدتنا كانت مسرورة . في هذه الاثناء جاءت جدتي ( نانا شوشي) المرأة الوقور ( كانت امرأة جميلة عينيها شهلان وتوحيان لمن يراهما بالذكاء الخارق , توفي زوجها وهي لم تتعد 23 عاماً , فكرست نفسها لاعالة بناتها الاربع . كانت صغراهن طفلة ذات شهور ثمانية , استطاعت تربيتهن جميعاً ومن ثم تزويجهن , عاشت 93 عاماً توفيت عند والدتي في القوش . كانت امرأة متدينة تحضر الصلاة في الكنيسة صباحا ومساء وزارت القدس في الاربعينات ولشدة الايمان بالدين وتمسك اهلنا به كانوا يعتقدون ان لها يدا مقدسة باعتبارها زارت قبر المسيح في القدس . كانت تعالج الاطفال وكذلك تشنجات الظهر والاطراف وكذلك تعالج الصدمات ونوبات الخوف وكثير من الامراض التي تعتقد انها خبيرة بها يجب ان اذكر كانت تقدم كل هذه الخدمات لوجه الله وهذا كان تقليد عن اهل العراق جميعا كل انواع الطب الشعبي يقدم دون مقابل .اتذكر انها عالجتني من حالة ضعف وفقر دم وانا طالبة في الصف الخامس الابتدائي , كانت تصف لي النبيذ الاحمر المعتق وعصير نبات ( الزداب ) تسقيني منه صباحاً ومساء .
دخلت جدتي علينا وهي حزينة لتلك الاحداث الدموية وبالاخص على مقتل الملك فيصل الثاني قالت مسكين هذا الطفل لا يستحق ذلك , كان من الاجدر بهم ان يقتلوا نوري سعيد وشلته فقط . حينذاك عرفت ان هؤلاء هم الذين حكموا العراق لفترة تناهز الاربعين عاما التي كان والدي يكلمني عنها . وكمقارنة بين العهدين الملكي والجمهوري مؤكداً ان الاول حرم الشعب من حقوقه والثاني سيكون فاتحة خير وسلام له . لم يتحقق ذلك كانت ثورة تحررية في صبيحة 14 تموز 1958 اصبح زعيم العراق القائد عبد الكريم قاسم كان شخصية لطيفة نزيهة يحب الشعب بكل جوارحه عاش العراق سنتين وهو يتجه نحو الامام وبعد سنتين اصبح العكس كان صحيحا حيث كانت المحصلة النهائية وثوب عصابة من مصاصى ألدماء ألفاشيين ألى ألسلطة وممارستهم أسلوبا دمويا للحكم لا مثيل له في التاريخ وما زالوا متعطشين الى المزيد من الدماء والدمار . في التاسعة من عمري , ولاول مرة سمعت والدتي وهي تحذرني من اشياء لا افقهها فكانت تلفت نظري للاهتمام باخوتي واخبرتني بانها ستسافر مع والدي الى بغداد وستبقى معنا عمتنا لرعايتنا . اصطحبت معها اختي الرضيعة انصار فقط , وكانت والدتي مسرورة لزيارة بغداد حيث ستلتقي بوالدتها واختيها اللتين افتقدتهما منذ فترة , سآلت والدتي لماذا هذا السفر المفاجيء ؟ اجابتني انها ذاهبة مع والدي للمشاركة في مسيرة ( انصار السلام) ! سآلتها ماذا يعني انصار السلام ؟ شرحت لي بصورة قريبة الي مداركي ما معناه انها منظمة عالمية يرآسها السيد عزيز شريف في العراق , ووالدك عضو فيها ويجب ان يساهم فيها . كان ذلك الحوار اللبنة الاولى في تكوين اتجاهاتي السياسية . والدتي تشرح وتوضح ان بلدنا جمهورية يرآسها رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وهو شخص يحب وطنه ومحب للسلام وينبذ الحروب . اسآل ثانية ما هي الحرب ؟ الجواب , الناس تقتل بعضها البعض طمعا في اهداف معينة وهناك ظالم ومظلوم وعكسه السلام الذي يؤازر السلام في ظله , بعضهم بعضا , وعن انصار السلام اوضحت والدتي انهم القوم الذين يحبون الخير ويدعمونه ويقاومون الحروب . فرحت لكلام والدتي ولأن والدي من انصار الناس الخيرين الداعين الى الود والاخاء . سيكون لنا وللجميع اسلوب حياة جديد ومستقبل افضل , قالت والدتي محاولة ان تبسط لي الامور سنآكل موز بكثرة ! كنت طفلة احب الموز كثيراً , وكان من الفواكه النادرة في العراق والغالية الثمن لانه لايصل الى القوش دائما . سررت عند سماعي هذا الكلام واردفت وسنآكل كثيراً من التمر الذي كنا نحبه في الشتاء , اذ نحتاج الى طاقة في ذلك الشتاء البارد فقد كنا نسكن في بيوت شرقية تنقصها التدفئة المستمرة والوقود احيانا لا يصلنا نتيجة انقطاع الطرق لتساقط الثلوج وانغلاق المنافذ الى القرية , فنضطر كباقي السكان الى خزن النفط والمواد الغذائية تحسبا لفصل الشتاء . وانا اصغي الى والدتي تولد لدي انطباع بآن كل شيْ سيتطور نحو الاحسن , ولم انس ان اسآلها ماذا ستجلب لي من بغداد ؟ قالت حلويات , فستان جميل وتمر . بعد يومين غادر والداي الى بغداد للمساهمة في المسيرة . عادا بعد ايام لتصبح دارنا مزاراً للناس من الاهل والاقرباء والاصدقاء , كل يسآل عن تلك المسيرة . كان والدي يروي بآنها تظاهرة رائعة متعاطفة مع التيار اليساري , السائد انئذ , ومع قائد الثورة عبد الكريم قاسم . قال انها كرنفال حقيقي عفوي عبر عن ابتهاج وفرحة الجماهير , اذ ساهم المواطنون في تهيئة الطعام والشراب للمشتركين في المسيرة , وكان يقدم لهم ايضا من اصحاب البيوت والمحلات التي تمر من خلالها المسيرة , والقي الاف من الحمام الابيض الذي هو شعار السلام يطير فوق الجمهور المحتفل . منذ ذلك الوقت وانا احب الحمام الابيض . كان والدي شديد التعلق باهداف الحركة ويردد شعار السلام دائما , كان يذكر ان خروشوف لعب دورا مهما في حركة التعايش السلمي العالمية.
بدآت في السنة نفسها الاستعدادات للاحتفال بالذكرى الاولى لثورة تموز ورغم اننا في العطلة الصيفية كانت المعلمات يجمعننا للتدريب على الفعاليات المدرسية التي ستقام في تلك المناسبة , منها الرقص والغناء والموسيقى والفعاليات المسرحية . وكان والدي يشجعني على المساهمة في تلك الانشطة وانا كنت السباقة لها للتخلص من عبْ الاعمال المنزلية التي كانت والدتي غارقة فيها الى اذنيها , لكثرة الاطفال وزيادة الالتزامات الاجتماعية وليس هناك من يقدم يد العون لها غيري , فوضعنا المادي لم يسمح لنا بالاستعانة باجيرة . كنت اذهب للتدريب للتهيئة لتلك الانشطة يغمرني الفرح والسرور لاني ساساهم , وامارس , هواية كنت احلم بها وهي الظهور على المسرح والتمثيل , وارتداء الملابس ذات الألوان الزاهية . فقد اعتدت ان اكون متميزة في المدرسة . في ترتيب ملابسي ونظافتها وتناسقها , مما كان يبعث في الغرور اضافة الى كوني متفوقة في الدراسة مما زاد من غطرستي وجاء تشجيع والدي ليضيف الى رصيدي المعنوي دفعا قويا , كان ينقصني شيء وهو جودة الخط . ففي احدى المرات زارتنا الراهبة ( ماسير انطوانيت ) التي كانت معلمتي . قال لها والدي معاتبا لماذا لا تحثوها على تحسين خطها ؟ اجابت الراهبة , سوف لن تحتاج ان تكتب بخط يدها حينما تتخرج , فانا اعتقد انها سوف تكون في مركز مرموق وسيكون لها الة طابعة . كان مديح الراهبة محل ارتياح والدي . فعقب قائلا : انها تقضي معظم وقتها في مساعدة والدتها في شؤون المنزل حتى انها لم تعش طفولتها كما يجب . اكدت الراهبة تنبؤها بتفوقي العلمي والوصول الى مراتبه المتقدمة .
كالعادة كنت اساعد والدتي وطلبت منها ان تعلمني التطريز بانواعه . تعلمت ذلك بسرعة واخذت اطرز الشراشف ووجوه الوسادات واغطية المنامات , بطرق واشكال واساليب متنوعة , واستغرق ساعات النهار في هذا العمل دون كلل مما كان يثير قلق والدتي وتقول كفى عن ذلك فسوف يتعبك هذا العمل ويؤثر على نظرك . كانت تحاول ان اغير نمط العمل وتدعوني الى عمل اخرمثلا اعداد شاي بعد الظهيرة , وهكذا اتنقل من عمل الى اخر دون ان افكر باللعب مع صديقاتي خارج المنزل فقد كان اصدقائي هم اخوتي الصغار وعمل المنزل .
(القوش تلك البلدة العتيقة ، المذكورة في سفر النبي ناحوم ، الرابضة على سفح جبل عالٍ ، عامرة قبل أيام النبي ناحوم .
قدم أليها النبي ناحوم في القرن السابع قبل مجيء المسيح الملك ، حيث شيد له هيكلاً ليؤدي فيه صلواته بكرةً وأصيلا .
سرّت القوش به وبمار ميخا النوهدري وبالشهيد مار قرداغ الآربائيلي وكذلك بالربان هرمزد الفارسي .
ألقوش : هوذا ناحوم النبي أبنك وهوذا النوهدري حاميك ومار قرداغ الشهيد حارسك والربان هرمز ساكن في جبلكِ .
في القوش كتب ناحوم نبوئته حيث تنبأ بخراب نينوى ، وحفر قبره في ثراكِ ، وأدرج أسمكِ في طقوس البيعة المقدسة .
ربان هرمز المتزهد ، جاءكِ برمز ملائكي ، بنى عشه في الجبل الاشم ، ذلك الناسك الفارسي .
وكذلك مار ميخا النوهدري ، الذي كان زاهداً في البراري ، بُعِثَ من قبل الرب ليذهب إلى القوش ويصبح لها راعياً( .
:نقلا عن جلال برنو